وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ
خطبة جمعة بتاريخ / 3-12-1438 هـ
إن الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوبُ إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده اللهُ فلا مضلَّ له ، ومن يُضلِل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُه ورسله ، وصفيُّه وخليلُه ، وأمينُه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعَه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون : اتقوا الله فإن تقوى الله خير زاد ، ﴿وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَاأُولِي الْأَلْبَابِ﴾ [البقرة:197] .
عباد الله : المسلمون في مناسك حجِّهم على إرثٍ عظيم من إرث أبيهم إبراهيم؛ خليل الرحمن أبي الأنبياء عليه صلوات الله وسلامه ، ومن يتأمل مناسك الحج وأعماله يجد أنها مرتبطةٌ بمواقفَ من حياته عليه الصلاة والسلام، وقد جعل الله عز وجل فيه للعباد أسوةً حسنة ، ولا يرغبُ عن ملة إبراهيم وهديه إلا من سفِه نفسه .
أيها المؤمنون: وهذه وقفة مع قصة هديٍ عظيم وإرثٍ مبارك من إرث إبراهيم الخليل عليه السلام جاء في سورة الصافات ، قصة عظيمة جليلة القدر لنبي الله وخليله إبراهيم عليه السلام ؛ حيث أبلى بلاءً عظيما في دعوة قومه ونُصحهم ودلالتهم إلى الحق والهدى ، فتلقَّوا دعوته بالإيباء وحجته بالاستهزاء ، حتى قرَّ قرارهم في آخر الأمر أن ﴿ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ﴾ [العنكبوت:24] ، فلما أيِس عليه السلام من قومه ورأى شدة صدودهم وإعراضهم وتعمُّدهم قتله قرَّر الهجرة وقال كما أخبر الله جل في علاه : ﴿ وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَابُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ [الصافات:99-107] .
ما أعظمها من قصة وما أعظم ما حوَته من عبرٍ وعظات جليلات ؛ فإبراهيم خليل الرحمن لم يأته هذا الولد إلا بعد شوقٍ عظيم وطمع ٍكبير في حصول الولد ، ولم يأته إلا بعد أن جاوز الثمانين سنة ، جاءه هذا الولد عن شوقٍ عظيم ورغبة ودعواتٍ صادقاتٍ مستجابات فبُشِّر بهذا الغلام الحليم وهو إسماعيل عليه السلام ، فلما بلغ هذا الابن مع والده السعي ؛ أي بلغ مرحلة في العمر هي في الغالب أشد ما يكون حبًا للوالد ، حيث تكون في تلك المرحلة -وهي بلوغ السعي مع والده- ذهبت مشقة الابن ورُجيت منفعته وبركته ، وفي تلك المرحلة من عمُره يأتيه أمرٌ رباني في رؤيا رآها في المنام ، ورؤيا الأنبياء حق ، رأى في المنام أنه يذبح ولده وفلذة كبده ، فذهب إلى إسماعيل ولم يأخذه قصرا وإنما عرض عليه ما رأى في المنام ﴿ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى﴾، فانظر قوة الإستسلام من الأب وابنه !! ﴿ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾ ليست القضية بهيِّنة ولا بالأمر السهل ، إنه ذبحٌ للابن ﴿ قَالَ يَاأَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ ﴾، وفعلًا استسلما وانقاد كلاهما لأمر الله ، قال ﴿ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ﴾أي ما أمَرَك الله به . [ولو قدر أن أحدا رأى مثل هذه الرؤيا فلا يحل له أن يفعل ذلك لأن رؤيا غير الأنبياء لا يبنى عليها حكم ولا عمل وليست أمرا من الله كما هنا].
﴿ فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾، أسلما كلاهما لله؛ إبراهيم عليه السلام مطاوعًا أمر الله في أن يذبح ابنه ، وإسماعيل عليه السلام بأن يُذبح طاعة لله وبرًا بوالده دون تردد ، ﴿ وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ ﴾أضجعه على جنبه ووضع قدمه على صفحته ووضع السكين على عنقه ليُمِرَّها طاعةً لله ، انظر يا عبد الله قوة الاستسلام وقوة الطواعية والامتثال لله رب العالمين ؛ وهو غاية الإحسان والطاعة ، ففي هذا الأثناء يأتيه الأمر الرباني ﴿ أَنْ يَاإِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا﴾ وأطعتَ وامتثلت ، وأُمر بأن يتوقف عن إتمام هذا العمل ، وأشاد الله عز وجل بعظيم عمله ؛ استسلامه لله وانقياده لأمر الله عز وجل ﴿ إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ إن هذا ليس بالأمر الهيِّن بل هو بلاءٌ عظيم شديد ، ولكن خليل الرحمن انقاد مستسلمًا وتقدم مذعنًا وابنه كذلك طاعةً لله رب العالمين .
﴿ وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ ﴾ فداه الله عز وجل -أي إسماعيل- بذبح عظيم وهو في قول جمهور أهل العلم كبشٌ أبيض أقرن وجده خليل الرحمن مربوطًا بشجرةٍ إلى جواره ، ولم يكن موجودا قبل ذلك ، فذبحه إبراهيم عليه السلام بيده متقربًا بذلك إلى الله عز وجل . ومضت سنةً في العباد ؛ فها أنتم يا معاشر المؤمنين ترون عموم المسلمين -من حج ولم يحج- يتقربون إلى الله سبحانه وتعالى في يوم النحر وأيام التشريق الثلاثة بذبح ما تيسَّر لهم من بهيمة الأنعام -الإبل والبقر والغنم معزها وضأنها- لله عز وجل طيبةً بها نفوسهم طامعين بفعلها نيل رضا ربهم جل في علاه ، وقد جاء في الصحيحين عن أنس رضي الله عنه قال : ((ضَحَّى رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِكَبْشَيْنِ أَمْلَحَيْنِ أَقْرَنَيْنِ، ذَبَحَهُمَا بِيَدِهِ، وَسَمَّى وَكَبَّرَ، وَوَضَعَ قدَمه عَلَى صِفَاحِهِمَا)) ، وجاء في الترمذي عن عبدالله بن عمر رضي الله عنهما « أن النبي صلى الله عليه وسلم عاش في المدينة عشر سنين يضحي في كل سنة »، وجاء في الترمذي عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه «أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يضحي الواحد منهم بشاة عنه وعن أهله ؛ فيأكلون ويُطعمون» . وهي سنَّة عظيمة وإرث من إرث أبينا إبراهيم خليل الرحمن عليه الصلاة والسلام .
أيها المؤمنون : حجاجُ بيت الله في أيام النحر وأيام التشريق يتقربون إلى الله عز وجل بذبح الهدايا ، والمسلمون في البلدان يشاركونهم في هذا العمل الجليل والطاعة العظيمة متقربين إلى الله بذبح الضحايا ، والله يقول ﴿ لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ﴾ [الحج:37] ، وذبحها قربةً لله وطاعةً له جل في علاه هو من تعظيم شعائر الله ﴿ ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ [الحج:32] .
أسأل الله عز وجل أن يوفقنا أجمعين للائتساء بأنبياء الله وأصفيائه ، وأن يصلح لنا شأننا كله ، وأن لا يكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، إنه سميع الدعاء وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد أيها المؤمنون : اتقوا الله تعالى وراقبوه في السر والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون : الهدي والأضحية لا تجزئ إلا أن تكون في وقتها ، ووقتها يبدأ بعد صلاة العيد ، وينتهي بغروب الشمس من ثالث أيام التشريق ، ومن ذبح قبل ذلك أو بعده فهي شاة لحم وليست أضحية .
أيها المؤمنون : وينبغي للمضحِّي أن يتخيَّر نفيس الأضاحي وطيِّبها ، وسمينها وثمينها ، وأن يجود بذلك طيبة بها نفسه ، لا أن يبحث عن الضعيفة قليلة الثمن الهزيلة ، بل يجود سخيًّا بذلك متقربا إلى الله سبحانه وتعالى. ولا يجزئ في الأضحية كما صح في الحديث عن النبي عليه الصلاة والسلام العوراء البيِّن عورها ، ولا العرجاء البيِّن عرجها، ولا المريضة البيِّن مرضها ، ولا الهزيلة التي لا تُنقي ، وليس محصورا في هذه الأربعة ، بل ما كان مثلها من العيوب أو أشد فإنه لا يجزئ في الأضحية .
عباد الله : ما أعظم هذه القربة التي قُرنت في كتاب الله بالصلاة في موضعين من القرآن ؛ قال الله عز وجل: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الأنعام:161] ، وقال تعالى: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ﴾ [الكوثر:2] ، ولهذا قيل : إن الصلاة أعظم العبادات البدنية ، والذبح أعظم العبادات المالية .
نسأل الله أن يوفقنا أجمعين لكل خير ، وأن يطيِّب نفوسنا بطاعته ، وأن يوفقنا لنيل مرضاته بمنِّه وكرمه .
وصلُّوا وسلِّموا - رعاكم الله - على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صليتَ على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي ، وعن الصحابة أجمعين ، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنّك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم . اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ، اللهم كن لهم ناصرًا ومُعينا وحافظًا ومؤيدا . اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وفِّقه وولي عهده يا رب العالمين .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة عن عشر ذي الحجة تجدها هنا: