لِلْمُتاجِرِينَ فِي دِماءِ وَأَمْوالِ المُسْلِمِينَ
إِنَّ الْحَمْدَ للهِ ، نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ ، وَنَعُوذُ بِهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا وَسَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا ، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ .
أَمَّا بَعْدُ ؛ فَإِنَّ خَيْرَ الْحَدِيثِ كِتَابُ اللهِ ، وَخَيْرَ الْهَدْيِ ؛ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وَشَرَّ الأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا ، وَكُلَّ مُحْدَثَةٍ بِدْعَةٌ ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ ، وَكُلَّ ضَلَالَةٍ فِي النَّارِ .
أَيُّهَا الْمُسْلِمُونَ ؛ عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ هِيَ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لَكُمْ وَلِمَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ ، قَالَ تَعَالَى : ﴿ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ ﴾ . فَاتَّقُوا اللَّهَ – عِبَادَ اللَّهِ – ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ أَنَّ لِلدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ حُرْمَةً عَظِيمَةً عِنْدَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ ، فَقَدْ نَهَى عَنِ التَّهَاوُنِ بِهَا ، وَحَرَّمَ الِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا ، وَتَوَعَّدَ مَنِ اسْتَهَانَ بِهَا ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : ﴿وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ ، وَقَالَ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ قَائِلٍ : ﴿وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَوَاتُ رَبِّي وَسَلامُهُ عَلَيْهِ : « لا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ ، يَشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وأَنِّي رَسُولُ اللَّهِ ، إلَّا بإحْدَى ثَلاثٍ : النَّفْسُ بالنَّفْسِ ، والثَّيِّبُ الزَّانِي ، والمارِقُ مِنَ الدِّينِ التَّارِكُ لِلْجَماعَةِ » .
فَيَا عِبَادَ اللَّهِ ، إِنَّ شَأْنَ الدِّمَاءِ الْمَعْصُومَةِ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ ، وَمَكَانَتَهَا رَفِيعَةٌ فِي شَرْعِهِ الْحَنِيفِ ، وَالِاعْتِدَاءَ عَلَيْهَا جَرِيمَةٌ نَكْرَاءُ ، وَخَطِيئَةٌ شَنْعَاءُ ، تُزَلْزِلُ الْقُلُوبَ وَتَسْتَوْجِبُ الْعِقَابَ الْأَلِيمَ ، وَهِيَ شَاهِدٌ بَيِّنٌ عَلَى اقْتِرَافِ مَا حَذَّرَ مِنْهُ الدِّينُ ، وَنَهَى عَنْهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ . وَلِأَجْلِ ذَلِكَ شَرَعَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ حُكْمَ الْقِصَاصِ ؛ صِيَانَةً لِلْأَرْوَاحِ ، وَحِفْظًا لِلْأَمْنِ ، وَزَجْرًا لِكُلِّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ الْإِقْدَامَ عَلَى سَفْكِ دَمٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، يَقُولُ ابْنُ سِعْدِيٍّ رَحِمَهُ اللهُ فِي تَفْسِيرِهِ : ﴿ وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ﴾ - أَيْ : تَنْحَقِنُ بِذَلِكَ الدِّمَاءُ ، وَتَنْقَمِعُ بِهِ الْأَشْقِيَاءُ ؛ لِأَنَّ مَنْ عَرَفَ أَنَّهُ مَقْتُولٌ إِذَا قَتَلَ ، لَا يَكَادُ يَصْدُرُ مِنْهُ الْقَتْلُ ، وَإِذَا رُئِيَ الْقَاتِلُ مَقْتُولًا انْذَعَرَ بِذَلِكَ غَيْرُهُ وَانْزَجَرَ ، فَلَوْ كَانَتْ عُقُوبَةُ الْقَاتِلِ غَيْرَ الْقَتْلِ ، لَمْ يَحْصُلِ انْكِفَافُ الشَّرِّ ، الَّذِي يَحْصُلُ بِالْقَتْلِ .
فَالْحَيَاةُ الْحَقِيقِيَّةُ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ لَا تَقُومُ إِلَّا عَلَى إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ ، وَإِنَّ الرَّحْمَةَ كُلَّ الرَّحْمَةِ لَيْسَتْ فِي تَعْطِيلِ شَرْعِ اللَّهِ ، بَلْ فِي إنْفَاذِهِ وَتَحْكِيمِهِ ، فَاللَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ ، وَقَدْ جَعَلَ فِي شَرْعِهِ الْعَدْلَ كُلَّهُ ، وَالرَّحْمَةَ كُلَّهَا . وَمِنْ ذَلِكَ حَدُّ الْقِصَاصِ ، فَهُوَ رَحْمَةٌ لِلْمُجْتَمَعِ بِأَسْرِهِ ، يَكُفُّ يَدَ الْقَاتِلِ عَنِ التَّمَادِي فِي جَرِيمَتِهِ ، وَيَرْدَعُ كُلَّ مَنْ تُسَوِّلُ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ نَفْسٍ بِغَيْرِ حَقٍّ ، فَإِذَا أَيْقَنَ الْقَاتِلُ أَنَّ مَصِيرَهُ إِلَى الْقَتْلِ لَا مَحَالَةَ ، كَفَّ وَارْتَدَعَ ، وَانْزَجَرَ غَيْرُهُ ، أَمَّا إِذَا عَلِمَ أَنَّ هُنَاكَ مَنْ سَيَبْذُلُ الْغَالِيَ وَالنَّفِيسَ لِيَحُولَ دُونَ إِقَامَةِ حَدِّ اللَّهِ عَلَيْهِ ، وَيُعَوِّضَ دَمَ الْمَقْتُولِ بِأَمْوَالٍ تُجْمَعُ مِنَ الْقَبَائِلِ ، عَلَى أَيْدِي مَنْ يَلْهَثُونَ وَرَاءَ السُّمْعَةِ ، وَيَطْلُبُونَ الْمَدْحَ وَاَلْثَّنَاْءَ ، أَوْ يَكُونُ لَهُمْ نِسْبَةٌ مِمَّاْ يَجْمَعُوْنَ ، وَلَيْسَ عِنْدَهُمْ إِلَّا أَلْسِنَةٌ فَصِيحَةٌ وَبُشُوتٌ فَاخِرَةٌ ، يَكَادُ أَنْ يَصْدُقَ عَلَى بَعْضِهِمْ، ذَلِكَ الْوَصْفُ الَّذِي وُصِفَ بِهِ الرَّجُلُ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : إِنْ خَطَبَ يُنْكَحْ، وَإِنْ شَفَعَ يُشَفَّعْ، وَإِنْ قَالَ يُسْمَعْ لِقَوْلِهِ ، فَتَأْثِيرُ هَؤُلَاءِ فِي الْمُجْتَمَعِ، وَكَوْنُهُمْ مِنْ أَسْبَابِ تَعْطِيلِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؛ يَفْتَحُ بَابَ الشَّرِّ ، وَيُجَرِّئُ الْمُجْرِمَ عَلَى جَرِيمَتِهِ .
وَالْأَسْوَأُ مِنْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ يُحْرِجُونَ النَّاسَ حَتَّى يَدْفَعُوا أَمْوَالًا هُمْ فِي أَمَسِّ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا ، وَيَتَحَمَّلُونَ مَا هُمْ فِي غِنًى عَنْهُ ، ثُمَّ يَأْتِي بَعْضُ أَوْلِيَاءِ الدَّمِ فَيَطْلُبُونَ مَبَالِغَ طَائِلَةً تَبْلُغُ عَشَرَاتِ الْمَلَايِينِ بِحُجَّةِ الْعَفْوِ ، فَيَجْعَلُونَ الْقِصَاصَ تِجَارَةً وَالْمَغْفِرَةَ مَزَادًا ، ثُمَّ يَحْتَجُّونَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : ﴿وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا﴾ ، مُتَنَاسِينَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ : ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ ، وَقَوْلَهُ سُبْحَانَهُ : ﴿أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا﴾ . وَالنَّفْسُ الَّتِي تُحْيَا لَيْسَتْ هِيَ الَّتِي تَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ ، بَلْ هِيَ النَّفْسُ الْمَعْصُومَةُ الَّتِي كَفَّ صَاحِبُهَا يَدَهُ عَنْهَا ، مَعَ أَنَّ نَفْسَهُ تَدْعُوهُ إلَى قَتْلِهَا ، فَمَنَعَهُ خَوْفُ اللَّهِ وَتَقْوَاهُ ، فَكَانَ كَأَنَّهُ أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ؛ إِذْ إِنَّ مَا مَعَهُ مِنَ الْخَوْفِ وَالْوَرَعِ يَمْنَعُهُ مِنْ قَتْلِ كُلِّ نَفْسٍ لَا تَسْتَحِقُّ الْقَتْلَ . فَلْيُعْلَمْ أَنَّ إقَامَةَ الْقِصَاصِ حَيَاةٌ ، وَتَعْطِيلَهُ مَوْتٌ لِلْمُجْتَمَعِ ، وَانْتِشَارٌ لِلظُّلْمِ ، وَضَيَاعٌ لِلْأَمْنِ .
وَقَدْ حَذَّرَ -أَيُّهَا الْإِخْوَةُ- النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ هَذَا الْفِعْلِ ، فَفِي الصَّحِيحَيْنِ عَنْ عَائِشَةَ -رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا- فِي قِصَّةِ الْمَرْأَةِ الْمَخْزُومِيَّةِ ، لَمَّا شُفِّعَ فِيهَا أُسَامَةُ ، قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «أَتَشْفَعُ فِي حَدٍّ مِنْ حُدُودِ الله؟» ثُمَّ خَطَبَ فَقَالَ : « إِنَّمَا أَهْلَكَ الَّذِينَ قَبْلَكُمْ ، أنَّهُمْ كَانُوا إذَا سَرَقَ فِيهِمُ الشَّرِيفُ تَرَكُوهُ ، وإذَا سَرَقَ فِيهِمُ الضَّعِيفُ أقَامُوا عَلَيْهِ الْحَدَّ ، وَايْمُ اللَّهِ لَوْ أَنَّ فَاطِمَةَ بِنْتَ مُحَمَّدٍ سَرَقَتْ لَقَطَعْتُ يَدَهَا » . فَهَلْ بَعْدَ هَذَا الْبَيَانِ مِنْ حُجَّةٍ لِمَنْ يَتَدَخَّلُ لِتَعْطِيلِ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللهِ ؟
فَلْيَتَّقِ اللهَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي تَعْطِيلِ الْحُدُودِ ، وَإِسْقَاطِ الْحُقُوقِ ؛ فَالشَّفَاعَةُ فِي ذَلِكَ بِغَيْرِ حَقٍّ بَابٌ مِنْ أَبْوَابِ الْفَسَادِ ، وَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَقَدْ أَعَانَ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ : ﴿وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالعُدْوَانِ﴾ .
بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ .
أَقُولُ قَوْلِي هَذَا ، وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ لِلَّهِ عَلَى إِحْسَانَهُ ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيْقِهِ وَامْتِنَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ ، وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيْرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
إِنَّ الشَّفَاعَةَ فِي الْحُدُودِ الشَّرْعِيَّةِ ؛ لَيْسَتْ رَحْمَةً كَمَا يَظُنُّ بَعْضُ النَّاسِ ، بَلْ هِيَ مِنْ أَعْظَمِ صُوَرِ الظُّلْمِ وَمَظَاهِرِ الْجَوْرِ ؛ لِأَنَّهَا تُصَادِمُ أَمْرَ اللَّهِ ، وَتُبْطِلُ حِكْمَتَهُ فِي تَشْرِيعِ الْحُدُودِ ، وَتَفْتَحُ أَبْوَابَ الْفَوْضَى ، وَتُضَيِّعُ حُقُوقَ الْمَظْلُومِينَ ، وَقَدْ جَاءَ الْوَعِيدُ الصَّرِيحُ فِي قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ : « مَنْ حَالَتْ شَفَاعَتُهُ دُونَ حَدٍّ مِنْ حُدُودِ اللَّهِ فَقَدْ ضَادَّ اللَّهَ فِي أَمْرِهِ » ، أَيْ : عَارَضَ حُكْمَ اللَّهِ وَخَالَفَ شَرْعَهُ .
فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ لِإِسْقَاطِ الْقِصَاصِ بِغَيْرِ مُسَوِّغٍ شَرْعِيٍّ ، مُتَذَرِّعِينَ بِعَشَائِرِهِمْ وَقَبَائِلِهِمْ ، وَأَحْسَابِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ ، أَوْ بِجَمْعِ الْأَمْوَالِ مِنْ أَفْوَاهِ الْمَسَاكِينِ لِشِرَاءِ الدِّمَاءِ ، فَإِنَّهُمْ قَدْ جَمَعُوا بَيْنَ إِضَاعَةِ الْحَقِّ ، وَنُصْرَةِ الْبَاطِلِ ، وَمُوَالَاةِ الْمُجْرِمِينَ ، وَلْيَتَّقِ اللَّهَ أَوْلِيَاءُ الدَّمِ ؛ فَإِنَّ الْعَفْوَ عِنْدَ الْمَقْدِرَةِ مِنْ شِيَمِ الْكِرَامِ ، لَكِنَّ الْعَفْوَ الْمَحْمُودَ هُوَ الْعَفْوُ طَوْعًا وَاحْتِسَابًا ، لَا عَفْوَ الْمُسَاوَمَةِ وَالْمُغَالَاةِ .
فَمَنْ أَرَادَ الْعَفْوَ فَلْيَعْفُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ ، وَلْيَطْلُبِ الدِّيَةَ بِالْمَعْرُوفِ دُونَ مُبَالَغَةٍ أَوْ تَعْجِيزٍ ؛ امْتِثَالًا لِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : ﴿فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ﴾ ، وَقَدْ وَعَدَ اللهُ أَهْلَ الْعَفْوِ بِالْأَجْرِ الْجَزِيلِ ، فَقَالَ سُبْحَانَهُ : ﴿فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ﴾ ، وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : « مَا نَقَصَتْ صَدَقَةٌ مِنْ مَالٍ ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزًّا ، وَمَا تَوَاضَعَ أَحَدٌ لِلَّهِ إِلَّا رَفَعَهُ اللَّهُ » .
فَاحْذَرُوا رَعَاكُمُ اللَّهُ أَنْ تَتَحَوَّلَ الْحُدُودُ الشَّرْعِيَّةُ إِلَى أَوْرَاقِ مُسَاوَمَةٍ ، أَوْ أَنْ تُجْعَلَ الدِّمَاءُ الطَّاهِرَةُ سِلْعَةً تُبَاعُ وَتُشْتَرَى ، فَذَلِكَ فَسَادٌ فِي الْأَرْضِ وَمُخَالَفَةٌ صَرِيحَةٌ لِأَمْرِ اللَّهِ ، وَسَبَبٌ لِانْتِشَارِ الْجَرِيمَةِ وَزَوَالِ الْأَمْنِ .
أَسْأَلُ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْ يَحْفَظَ لَنَا أَمْنَنَا ، وَيُوَفِّقَ وُلَاةَ أَمْرِنَا إِلَى مَا يُحِبُّ وَيَرْضَى ، وَيَجْعَلَنَا هُدَاةً مُهْتَدِينَ لَا ضَالِّينَ وَلَا مُضِلِّينَ ، وَيَجْعَلَنَا مِمَّنْ يُعَظِّمُ حُرُمَاتِهِ ، وَيَقِفُ عِنْدَ حُدُودِهِ ، وَيُقِيمُ شَرِيعَتَهُ ، وَيَنْصُرُ دِينَهُ ، اللَّهُمَّ أَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِنَا ، وَأَصْلِحْ ذَاتَ بَيْنِنَا ، وَاهْدِنَا سُبُلَ السَّلَامِ ، وَنَجِّنَا مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ، وَجَنِّبْنَا الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ، وَبَارِكْ لَنَا فِي أَعْمَارِنَا وَأَرْزَاقِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا .
رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا ، وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً ، إِنَّكَ أَنْتَ الوَهَّابُ ، رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِوَالِدِينَا وَلِلْمُسْلِمِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحِسَابُ ، وَصَلَّى اللَّهُ وَسَلَّمَ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ ، وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ أَجْمَعِينَ .