استقبالُ عَشْرِ ذِي الحِجَّةِ وَبَيانُ فَضْلِها
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الْمُسلِمون: اتَّقُوا اللهَ تَعالَى،
واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ فاضَلَ بَيْنَ مَخْلُوقَاتِه، فَفَضَّلَ بَعْضَ البَشَرِ
عَلَى بَعْضٍ، وفَضَّلَ بَعْضَ الأماكِنِ عَلَى بَعْضٍ، وفَضَّلَ بَعْضَ
الأزْمِنةِ عَلَى بَعْضٍ. وَخَصَّ الأشْهُرَ الحُرُمَ بالذِّكْرِ، فقال سبحانه: ( إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ
شَهْرًا فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا
أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ
أَنفُسَكُمْ ). أيْ: فَلَا تَظْلِمُوا أنفسَكم في هذِه الأَشْهُرِ الْمُحَرَّمَة،
لأنَّها آكَدُ وأَبْلَغُ فِي الإِثْمِ مِنْ غَيْرِها، كَمَا أَنَّ الْمَعاصِي فِي
البَلَدِ الحَرامِ تُضَاعَفُ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى: ( وَمَن
يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ )،
وَكَذلِكَ الشَّهْرُ الحَرَامُ تُغَلَّظُ فِيهِ الآثامُ. قالَ ابْنُ عَبَّاسٍ رضيَ
اللهُ عَنْهُما في قَوْلِهِ: ( فَلاَ تَظْلِمُواْ
فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ) أَيْ: فِي كُلِّ أَشْهُرِ السَّنَةِ. ثُمَّ
اخْتَصَّ مِنْ ذَلِكَ أَرْبَعةَ أَشْهُرٍ، وهي: " ذو القِعْدَةِ وذو
الحِجَّةِ ومُحَرَّمُ، ورَجبُ ". فَجَعَلَهُنَّ حَرامًا وَعَظَّمَ
حُرُمَاتِهِنَّ، وَجَعَلَ الذَّنْبَ فِيهِنَّ أَعْظَمَ، وَالعَمَلَ الصالِحَ
والأَجْرَ أَعْظَمَ. وهَذِه الأشهُرُ تَتَفاوَتُ في فَضْلِها وأَحْكامِها.
ونَحْنُ فِي
هذِه الأَيَّامِ نَسْتَقْبِلُ أَفْضَلَ هَذِهِ الأَشْهُرِ الحُرُمِ،
شَهْرَ ذِي الحِجَّةِ، الذي خَصَّهُ اللهُ بِأَفْضَلِ الأَيَّامِ والأَعْمالِ
وَأَعْظَمِها، وما ذاكَ إلا لِمَا أوْدَعَ اللهُ تعالى فيها مِن المِيزاتِ
والفضائِلِ ما ليسَ لِغَيرِها من الأيام.
فَفِي شَهْرِ
ذِي الحِجَّةِ: أَيَّامُ العَشْرِ الأُولَى، وَهِيَ الأيامُ الْمَعلُوماتُ
التي ذَكَرَها اللهُ تعالى في كتابِه، وحَثَّ على ذِكرِه فيها، قال تعالى: ( لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ
فِي أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ ) ، قال ابن عباسٍ رضي الله عنهما: " الأيامُ الْمعلُوماتُ، أيَّامُ العَشْرِ ".
وَفِي شَهْرِ
ذِي الحِجَّةِ: اللَّيَالِي العَشْرُ التي تَمَّمَ الله بها ميقاتَهُ
لِنَبِيِّهِ وكَلِيمِه موسى عليه السلام، قال تعالى: ( وَوَاعَدْنَا
مُوسَىٰ ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ
أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ) ، فالثلاثون لَيْلَةً: هي ذُو القِعدة. والعشرُ: هي
عشرُ ذي الحجة.
وَفِي شَهْرِ
ذِي الحِجَّةِ: فِي يَوْمِ عَرَفَةَ عَلَى وَجْهِ الخُصُوصِ، أكملَ
اللهُ لَنَا الدِّينَ، ونَزَلَ في ذلك اليَوْمِ العظيمِ قَوْلُه تَعالَى: ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ
عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا ). وَثَبَتَ في
الصحِيحَيْنِ أَنَّ رَجُلًا مِن اليَهُودِ، قالَ لِعُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي
اللهُ عَنْه: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ، آيَةٌ فِي كِتَابِكُمْ تَقْرَؤُونَهَا،
لَوْ عَلَيْنَا نَزَلَتْ مَعْشَرَ الْيَهُودِ، لَاتَّخَذْنَا ذَلِكَ الْيَوْمَ
عِيدًا. قَالَ: وَأَيُّ آيَةٍ؟ قَالَ: ( الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ
الْإِسْلَامَ دِينًا ) فَقَالَ عُمَرُ: "إِنِّي
لَأَعْلَمُ الْيَوْمَ الَّذِي نَزَلَتْ فِيهِ، وَالْمَكَانَ الَّذِي نَزَلَتْ
فِيهِ، نَزَلَتْ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ بِعَرَفَاتٍ، فِي يَوْمِ جُمُعَةٍ".
وَفِي شَهْرِ
ذِي الحِجَّةِ: العَمَلُ الصالِحُ في العَشْرِ الأُوَلِ مِنْه، أفضَلُ
مِن غيرِه فيما سِواها، كما قالَ رسولُ الله صلى اللهُ عليه وسلم: ( ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيها أحبُّ إلى اللهِ مِن هذه
الأيام - يَعْنِي أيَّامَ العَشْرِ - قالوا:
ولا الجهادُ في سَبِيلِ اللهِ؟ قال: ولا الجهادُ في سَبِيلِ اللهِ، إلَّا رَجُلًا
خَرَجَ بِنَفْسِهِ ومالِه ثُمَّ لَمْ يَرْجِعْ مِنْ ذلك بِشَيْءٍ ).
وَمِنْ آكَدِ هذه الأَعْمالِ: ذِكْرُ اللهِ،
فإنَّه أفضَلُ مِنْ غيرِه فيما سِواها مِن الأيَّامِ، ولِذلِكَ خَصَّه النبيُّ صلى
اللهُ عليه وسلم بالذِّكْرِ، وجَعَلَهُ مَشْرُوعًا في كُلِّ أوقاتِ عَشْرِ ذِي
الحِجَّةِ فَقال: ( فَأَكْثِرُوا فِيهِنَّ مِن
التَّهْلِيلِ والتَّحْمِيدِ ). وقال البخاريُّ رحمه الله: " كان ابنُ عمرَ وأبو هريرةَ رضي الله عنهم يَخْرُجانِ إلى
السُّوقِ في أيامِ العشرِ يُكَبِّرانِ ويُكَبِّرُ الناسُ بِتَكبيرِهِما
".
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ
بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون
وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا
إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
عِبادَ اللهِ: وَفِي شَهْرِ ذِي الحِجَّةِ:
أفْضَلُ أيَّامِ السنةِ على الإطلاقِ، هُمَا: يَوْمُ عَرَفةَ، وَيَوْمُ النَّحْرِ.
فَأَمَّا يَوْمُ عَرَفَةَ، فَإنَّ صِيامَهُ
لِغَيْرِ الحاجِّ، يُكَفِّر السنةَ التي قبلَه والتي بعدَه، كَمَا أَخْبَرَ بِذلكَ
النبيُّ صلى اللهُ عليه وسلم. وَأَمَّا بِالنِّسْبَةِ للحاجِّ، فَقَدْ قالَ
النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( إنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ
يُباهِي مَلَائِكَتَه عَشِيَّةَ عَرَفَةَ بِأَهْلِ عَرَفَةَ فَيَقُولُ:
انْظُرُوا إلى عِبادي أَتَوْنِي شُعْثاً غُبْراً ).
وَأَمَّا يَوْمُ
النَّحْرِ، فَهُوَ يَوْمُ الحَجِّ الأَكْبَرِ، لِأَنَّ مُعْظَمَ
أَعْمالِ الحَجِّ تَكُونُ فِيهِ. والحَجُّ هُوَ الرُّكْنُ الخامِسُ مِنْ أرْكانِ
الإِسْلامِ. وَكَذلكَ ذَبْحُ الهَدْيِ والأضاحِي، والتَقَرُّبُ إلى الله تعالى
بِإراقَةِ الدِّماءِ، تَعْظِيمًا لله، وذكْرِ اسمِ اللهِ عليها، فإن الذَّبْحَ مِن
أعْظَمِ شَعائِرِ اللهِ الظاهِرَةِ، قال تعالى: ( فَصَلِّ
لِربِّكَ والنْحَرْ ).
وَيَجِبُ عَلَى
مَنْ أَرادَ أَنْ يُضَحِّيَ: إذا رَأَى هِلالَ ذي الحِجَّةِ، أَنْ
يُمْسِكَ عَنْ شَعْرِهِ وأَظْفارِهِ وَبَشَرِهِ - أيْ جِلْدِهِ - حَتَّى يَذْبَحَ
أُضْحِيَتَه، لِقَوْلِ النبيِّ صلى اللهُ عليه وسلم: ( إذا
دَخَلَتْ العَشْرُ وَأَرادَ أَحَدُكُمْ أَنْ يُضَحِّيَ، فَلْيُمْسِكْ عَنْ شَعْرِه
وَأَظْفارِهِ ).
وَإِذا نَوَى فِي أَثْناءِ العَشْرِ
أَمْسَكَ عَنْ ذَلك مِنْ حِينِ نِيَّتِهِ، وَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ فِيمَا أَخَذَ
قَبْلَ ذلك. وهذا الحُكْمُ خاصٌّ بِالْمُضَحِّي
فَقَط، حَتَّى لَوْ كانَ لَا يَتَوَلَّى الذَّبْحَ بِنَفْسِهِ، فَإِنَّه يُمْسِكْ
عَنْ شَعْرِهِ وَأَظْفارِهِ، وَإِذا أَخَذَ شَيْئًا مِنْ شَعْرِهِ وَأَظْفَارِهِ
أَوْ بَشَرَتِهِ مُتَعَمِّدًا، فَعَلَيْهِ أَنْ يَتُوبَ، وَلَا كَفَّارَةَ
عَلَيْه. وَلَا يَعْنِي ذلك أَنْ لَا يَمْتَشِطَ، أَوْ يَحُكَّ رَأْسَه، فَإِنَّ
مَشْطَ الشَّعْرِ جائِزٌ حَتَّى لَوْ أَدَّى إِلَى سُقُوطِ بَعْضِ الشَّعْرِ.
وَكَذلِكَ الاغْتِسالُ واسْتِعْمالُ الْمُنَظِّفاتِ والطِّيبُ وَصَبْغُ الشَّعْرِ
والجِماعُ. كُلُّ ذلك جائِزٌ.
فَاتَّقُوا اللهَ عِبادَ اللهِ
واسْتَغِلُّوا أَوْقاتَكُمْ فِيما يُقَرِّبُكُمْ إلى اللهِ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ
لَمْ تُخْلَقُوا عَبَثًا، وَلَنْ تُتْرَكُوا سُدًى.
اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ
وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبادَتِكَ، اللَّهُمَّ استعملنا في طاعتِك، وثبتنا على دينك،
وارزقنا الإخلاص في أقوالنا وأعمالنا، وخلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا في الحلال من
رزقك وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم يسر للحجيج حجهم، واحفظهم من كل
مكروه، وردهم إلى أهلهم وأوطانهم سالمين غانمين، اللهم اجعل حجهم مبرورا، وسعيهم
مشكورا، وذنبهم مغفورا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً
ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام،
اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم
اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم،
ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا قوي يا عزيز، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم
ارحم المستضعفين من المؤمنين، اللهم انصرهم وارفع البلاء عنهم في كل مكان، اللهم
عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك
بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ
يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم احفظ بلادنا ممن يكيد لها، وأعذها من شر
الأشرار وكيد الفجار، اللهم احفظ لبلادنا دينها وأمنها وعزتها وعقيدتها وسيادتها،
وأصلح أهلها وحكامها يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ﴿ وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
وللمزيد من الخطب السابقة في استقبال عشر ذي الحجة تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/play.php?catsmktba=1454
|