شَهْرُ الصَّبْر
خطبة جمعة بتاريخ 12-9-1437 هـ
إنَّ الحمد لله ، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي
له،وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ، صلى
الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى ، وراقبوه جل في علاه في السر
والعلانية والغيب والشهادة مراقبة من يعلم أنَّ ربَّه يسمعُه ويراه . وتقوى الله
جل وعلا : عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله
على نورٍ من الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون عباد الله: ما
أعظم هذه العبادة وما أجلَّ شأنها ؛ عبادة الصيام التي افترضها الله جلَّ وعلا على
عباده في هذا الشهر المبارك ، وكم لهذه العبادة من الآثار المباركة والفوائد
العظيمة والخيرات المتنوعة التي يجنيها الصائمون في دنياهم وأخراهم .
أيها المؤمنون: إن هذه
العبادة «عبادة الصيام» لها شأنٌ عظيم في تهذيب النفوس ، وتقويم السلوك ، وتقوية
الإيمان، وإقامة النفس على طاعة الرحمن ، والبُعد بها عن رعوناتها وسفهها وغيِّها
؛ فكم له من الآثار ، وكم له من الثمار ولاسيما -عباد الله- لمن وفقه الله تعالى
لتكميل صيامه وتتميمه .
أيها المؤمنون: وهذه وقفة مع
درسٍ عظيم من دروس الصيام في عِظم أثره وكبير عائدته على الصائمين في تهذيب سلوكهم
وإقامة نفوسهم على الطاعة وزمِّها بزمام الشرع ؛ روى الإمام أحمد في مسنده عن أبي
قتادة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ
وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ صَوْمُ الدَّهْرِ)) ، وروى البزار في مسنده
عن علي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :((صَوْمُ شَهْرِ الصَّبْرِ
وَثَلَاثَةِ أَيَّامٍ مِنْ كُلِّ شَهْرٍ يَذْهَبْنَ بِوَحَرِ الصَّدْرِ)) أي
غِلِّه وحقده وحسده ،وروى النسائي عن الباهلي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه
وسلم قال له : ((صُمْ شَهْرَ الصَّبْرِ وَثَلَاثَةَ أَيَّامٍ مِنَ الشَّهْرِ)) .
أيها المؤمنون : تأملوا في
هذه الأحاديث كيف وصف النبي صلى الله عليه وسلم شهر رمضان بأنه شهر الصبر ؛ وذلك -عباد
الله- لما في عبودية الصيام من تحقيقٍ للصبر ، بل إن الصيام نفسه صبرٌ بمعاني
الصبر الثلاثة ، فهو صبرٌ على طاعة الله ، وصبرٌ عن معصية الله ، وصبرٌ على أقدار
الله المؤلمة ؛ وهذه المعاني الثلاثة للصبر جميعها مجتمعة في عبودية الصيام ؛ فالصيام
-يا معاشر المؤمنين- صبرٌ تتهذب فيه النفوس ، ويستقيم فيه السلوك ، ويصلح فيه
الحال والعمل .
نعم -عباد الله-؛ ولهذا فإن الصائم
لابد أن يكون في جهادٍ مع نفسه لتكميل صيامه وتتميمه لينال تلك الفوائد وليحصل تلك
العوائد . وأما إذا فرط في هذا التتميم والتكميل خرج بدون عائدة ومضى في صيامه
بدون فائدة ، فقد قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ
الزُّورِ وَالعَمَلَ بِهِ فَلَيْسَ لِلَّهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ
وَشَرَابَهُ))، وقال عليه الصلاة والسلام: ((كَمْ مِنْ صَائِمٍ لَيْسَ لَهُ مِنْ
صِيَامِهِ إِلَّا الْجُوعُ))، وفي هذا المعنى أحاديث عن
رسول الله صلى الله عليه وسلم .
ولهذا -عباد الله-ينبغي أن
نعلم أن الصيام صبر ، ومن لم يكن له صبر في صيامه لم يستفد من درس الصيام وعبرته
العظيمة ولم يحقق ما يُرجى من الصيام من آثار وثمار ، يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ [البقرة:183].
أيها المؤمنون: ولهذا فسَّر
بعض السلف قول الله عز وجل: ﴿ وَاسْتَعِينُوا
بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ﴾ [البقرة:45]، بأن الصبر هو الصيام ، وفسَّر بعض السلف قول النبي صلى الله عليه وسلم: ((وَالصَّبْرُ
ضِيَاءٌ)) بأن الصبر هنا هو الصيام ؛ وهذا التفسير في الآية ليس تفسيرًا بالمطابق
للمعنى ، وإنما هو تفسير بفردٍ من أفراده ، فما من شك أن الصيام صبر ، وما من شك
أن الصيام ضياء لصاحبه ، ولكن إنما يكون ذلك إذا تمم صيامه وكمَّله .
أيها المؤمنون : جدير بكل
مؤمن أن يُعنى بهذه العبادة «عبادة الصيام» تتميمًا وتكميلا ، وكم هو قبيح بالمرء
المسلم أن يصوم نهار رمضان عن الطعام والشراب والمنكح ثم إذا جاء وقت الإفطار أفطر
على المعصية والمأثم عياذًا بالله . ولاسيما -عباد الله- أن الناس في هذا الزمان
مستهدفون في عباداتهم وفي صيامهم وفي عموم طاعاتهم من قبل أعداء الدين وخصوم
الشريعة ، ولاسيما -عباد الله- من خلال القنوات الفضائية ومواقع الانترنت التي
تعبث بالعقول عبثًا عظيما وبخاصة في شهر رمضان . وإذا كانت الشياطين تصفَّد في هذا
الشهر فإن هؤلاء ينطلقون انطلاقةً كبيرة صدًا عن دين الله وحرفًا للناشئة والشباب
عن طاعة الله من خلال ما يُبث ويشاهد ويقدَّم في تلك القنوات . ولهذا لابد من الصيام
، ولابد من الصبر ، ولابد من المحاسبة للنفس ، ولابد من زمها بزمام الشرع حتى يكون
الصيام مثمرًا وحتى تكون العوائد كثيرة والفوائد متنوعة ، لا أن يضيِّع صيام المرء
من خلال عبث هؤلاء ومكرهم ودسهم .كفى الله شبابنا وناشئة المسلمين شر الأشرار وكيد
الفجار بمنِّه وكرمه .
أيها المؤمنون : لنجاهد أنفسنا
على تكميل صيامنا وتتميم عبادتنا فإن الله جل وعلا يقول : ﴿ وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]
.
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب فاستغفروه
يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد عباد
الله : اتقوا الله تعالى .
أيها المؤمنون: وفي قول
نبينا صلى الله عليه وسلم ((يَذْهَبْنَ بِوَحَرِ الصَّدْرِ)) - أي صيام شهر الصبر
وثلاثة أيام من كل شهر- فائدة عظيمة جليلة القدر ينبغي على الصائم أن يتفطن لها
ألا وهي عباد الله: أن الصيام ولاسيما صيام رمضان وهو صيام فريضة يعدُّ مدرسةً
عظيمة تربوية لتهذيب السلوك وإصلاح النفس ، فهي فرصة ثمينة لا تعوَّض أن يعالج
المرء نفسه من خلال عبادة الصيام ؛ وذلك بالعمل على تنقية قلبه من دسائس القلوب
وأحقادها وأضغانها وخباياها من الأعمال القبيحة والأمور السيئة والسخائم الشنيعة
التي تنطوي عليها القلوب .
ولهذا عباد الله : إنها
لفرصة عظيمة أن يداوي المرء نفسه في إصلاح قلبه بإخراج الأحقاد والحسد والضغائن
ونحو ذلك من الأعمال القبيحة التي قد تنطوي عليها القلوب وربما تمتلأ بها كثير من
النفوس ، ففرصةٌ عظيمة من خلال عبودية الصيام فرضها ونفلها أن يذهب ما في قلب
المرء من وحر الصدر غِلًّا وحقدًا وحسدًا وغير ذلك ، وإن لم تذهب هذه الأشياء وأحس
المرء ببقائها في نفسه فليعلم أن في صيامه دخن .
أيها المؤمنون : صلُّوا وسلِّموا على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك
في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى
الله عليه وسلم : ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا))
.
اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك
حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمانَ وعلي
، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك
محمدٍ صلى الله عليه وسلم . اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان ،
اللهم كُن لهم ناصراً ومعِينا وحافظاً ومؤيدا ، اللهم احفظ جنودنا على حدود البلاد
بما تحفظ به عبادك الصالحين ، اللهم أيِّدهم بتأييدك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال
والإكرام. اللهم آمنَّا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل ولايتنا فيمن
خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفق ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من
سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وفقه ونائبيه يا حي يا قيوم يا ذا الجلال
والإكرام .
اللهم أعنا ولا تُعن علينا ، وانصرنا ولا تنصر علينا ، وامكر لنا ولا تمكر
علينا ، واهدنا ويسِّر الهدى لنا ، وانصرنا على من بغى علينا ، اللهم اجعلنا لك
ذاكرين ، لك شاكرين ، إليك أواهين منيبين ، لك مخبتين لك مطيعين ، اللهم تقبَّل
توبتنا ، واغسل حوبتنا ، واهد قلوبنا ، وسدِّد ألسنتنا ، واسلل سخائم صدورنا ، اللهم
آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم إنا نسألك
الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم إنا نسألك الهدى والسداد ، اللهم إنا نسألك
الثبات في الأمر والعزيمة على الرشد ، ونسألك موجبات رحمتك وعزائم مغفرتك ، ونسألك
شكر نعمتك وحسن عبادتك ، ونسألك قلبًا سليما ولسانًا صادقا ، ونسألك من خير ما
تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب . اللهم
اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجله ، أوله وآخره ، علانيته وسره. اللهم اغفر لنا
ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء
منهم والأموات . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من
الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
وآخر دعوانا
أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132 |