قصة طالوت وجالوت
(مستفادة من تفسير الشيخ السعدي رحمه الله)
الحمد لله الحكيمِ في خَلقه ورَزْقه وتدبيره ، الحميدِ في عطائه ومنعه وجميع تقديره ، الغفورِ الرحيمِ لمن خشيه واتقاه، شديدِ النكال والعقوبة على من عانده وعصاه، وأشهد أنْ لا إله إلا الله ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ومختاره ومصطفاه ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اهتدى بهداه .. أما بعد ؛ أيها المسلمون: فاتقوا الله عباد الله حق التقوى وتمسكوا من دينه بالعروة الوثقى، فبه تكون النجاة في الأولى والأخرى.
عباد الله: إن القصص التي قصّها الله علينا في كتابه لم تذكر للتسلية والمتعة، وإنما ذكرت للعظة والعبرة والانتفاع منها بما يقرب الناس إلى ربهم سبحانه وتعالى ويستلهمون منها طريق النجاة. فبالقصص القرآنية يعظ الله بها عباده ويذكر ويحذر وينذر ويرغب ويبشر ويحرك الوجدان ويثير المشاعر في نفوس العباد ويوقظهم من غفلتهم عن الآخرة ويفيقهم من سكرات الدنيا وزينتها، وصدق الله إذ قال: (وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ ٱللَّهِ). ومن تلك القصص العظيمة، ما قصه سبحانه وتعالى علينا في ثنايا سورة البقرة فقال تعالى: (أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَأِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ) وهذه قصة الملأ من بني إسرائيل وهم الأشراف والرؤساء، وخص الملأ بالذكر، لأنهم في العادة هم الذين يبحثون عن مصالحهم ليتفقوا فيتبعهم غيرهم على ما يرونه، وذلك أنهم أتوا إلى نبي لهم بعد موسى عليه السلام فقالوا له: (ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا) أي عيِّن لنا ملكاً (نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ليجتمع متفرقنا ويقاوم بنا عدونا، فلما قالوا لنبيهم تلك المقالة (قَالَ) لهم نبيهم: (هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا) أي: لعلكم تطلبون شيئا وهو إذا كتب عليكم لا تقومون به، فعرض عليهم العافية فلم يقبلوها، واعتمدوا على عزمهم ونيتهم، فقالوا: ( قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) يقولون: أي شيء يمنعنا من القتال وقد ألجئنا إليه، بأن أُخرجنا من أوطاننا وسُبيت ذرارينا، فهذا موجب لكوننا نقاتل ولو لم يكتب علينا، فكيف مع أنه فرض علينا وقد حصل ما حصل، ولهذا لما لم تكن نياتهم حسنة ولم يقوَ توكلهم على ربهم (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا) فجبنوا عن قتال الأعداء وضعفوا عن المصادمة، وزال ما كانوا عزموا عليه، واستولى على أكثرهم الخور والجبن (إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُم) فعصمهم الله وثبتهم وقوى قلوبهم فالتزموا أمر الله ووطنوا أنفسهم على مقارعة أعدائه، فحازوا شرف الدنيا والآخرة، وأما أكثرهم فظلموا أنفسهم وتركوا أمر الله، فلهذا قال: (وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ) مجيبا لطلبهم (إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا)، فكان هذا تعيينا من الله الواجب عليهم فيه القبول والانقياد وترك الاعتراض، ولكن أبوا إلا أن يعترضوا، فقالوا: (قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ) أي: كيف يكون ملكا وهو دوننا في الشرف والنسب زعموا أن الملك له علاقة بالنسبة والشرف . فلهذا قال لهم نبيهم: (إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ) فلزمكم الانقياد لذلك (وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ) أي: فضله عليكم بالعلم والجسم، أي: بقوة الرأي والجسم اللذين بهما تتم أمور الملك . (وَاللَّهُ وَاسِعٌ) الفضل كثير الكرم، لا يخص برحمته وبره العام أحدا عن أحد، ولا شريفا عن وضيع، ولكنه مع ذلك (عَلِيمٌ) بمن يستحق الفضل فيضعه فيه، فأزال بهذا الكلام ما في قلوبهم من كل ريب وشك وشبهة.
ولَمّا تملَّك طالوت ببني إسرائيل امتحنهم بأمر الله ليتبين الثابت المطمئن ممن ليس كذلك فقال: (إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي) فهو عاص ولا يتبعنا لعدم صبره وثباته ولمعصيته (وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ) أي: لم يشرب منه فإنه مني (إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ) فلا جناح عليه في ذلك، ولعل الله أن يجعل فيها بركة فتكفيه، وفي هذا الابتلاء ما يدل على أن الماء قد قل عليهم ليتحقق الامتحان، فعصى أكثرهم وشربوا من النهر الشرب المنهي عنه، ورجعوا على أعقابهم ونكصوا عن قتال عدوهم وكان في عدم صبرهم عن الماء ساعة واحدة أكبر دليل على عدم صبرهم على القتال الذي سيتطاول وتحصل فيه المشقة الكبيرة، فلهذا قال تعالى: (فَلَمَّا جَاوَزَهُ) أي: النهر (هُوَ) أي: طالوت (وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ) وهم الذين أطاعوا أمر الله ولم يشربوا من النهر الشرب المنهي عنه فرأوا قلتهم وكثرة أعدائهم، قالوا أي: قال كثير منهم: (لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ) لكثرتهم وعَددهم وعُددهم، (قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ) أي: يستيقنون ذلك، وهم أهل الإيمان الثابت واليقين الراسخ، مثبتين لباقيهم ومطمئنين لخواطرهم، وآمرين لهم بالصبر (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ) أي: بإرادته ومشيئته فالأمر لله تعالى، والعزيز من أعزه الله، والذليل من أذله الله، فلا تغني الكثرة مع خذلانه، ولا تضر القلة مع نصره، (وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) بالنصر والمعونة والتوفيق، فأعظم جالب لمعونة الله صبر العبد لله، فوقعت موعظته في قلوبهم وأثرت معهم.
ولهذا بيّن الله حالهم (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا) جميعهم (رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا) أي: قوِّ قلوبنا، وأوزعنا الصبر، (وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا) عن التزلزل والفرار، (وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
من هاهنا نعلم أن جالوت وجنوده كانوا كفاراً، فاستجاب الله لهم ذلك الدعاء لإتيانهم بالأسباب الموجبة لذلك، ونصرهم عليهم (فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُدُ) عليه السلام، وكان مع جنود طالوت، (جَالُوتَ) أي: باشر قتل ملك الكفار بيده لشجاعته وقوته وصبره (وَآتَاهُ اللَّهُ) أي: آتى الله داود (الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ) أي: منَّ عليه بتملكه على بني إسرائيل مع الحكمة، وهي النبوة المشتملة على الشرع العظيم والصراط المستقيم، ولهذا قال: (وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ) من العلوم الشرعية والعلوم السياسية، فجمع الله له الملك والنبوة , قال تعالى: (وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ) أي: لولا أنه يدفع بمن يقاتل في سبيله كيد الفجار وتكالب الكفار لفسدت الأرض باستيلاء الكفار عليها وإقامتهم شعائر الكفر ومنعهم من عبادة الله تعالى، وإظهار دينه (وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ) حيث شرع لهم الجهاد الذي فيه سعادتهم والمدافعة عنهم ومكنهم من الأرض بأسباب يعلمونها، وأسباب لا يعلمونها.
فاللهم مُنّ علينا بصادق التوبة ، وفقّهنا في دينك وعلّمنا الكتاب والحكمة ؛ أقول ما تسمعون ، واستغفر الله لي ولكم وللمسلمين إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله بعدله ضلَّ الضالون ، وبفضله اهتدى المهتدون، لا يُسألُ عمّا يفعلُ وهم يُسألون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنّ بسنته.
أما بعد أيها المسلمون: وفي هذه القصة من الآيات والعبر ما يتذكر به أولو الألباب، فمنها: أن اجتماع أهل الكلمة والحل والعقد وبحثهم في الطريق الذي تستقيم به أمورهم وفهمه، ثم العمل به، أكبر سبب لارتقائهم وحصول مقصودهم.
ومنها: أن الحق كلما عورض وأوردت عليه الشبه ازداد وضوحا وتميز وحصل به اليقين التام كما جرى لهؤلاء، لما اعترضوا على استحقاق طالوت للملك أجيبوا بأجوبة حصل بها الإقناع وزوال الشبه والريب.
ومنها: أن العلم والرأي: مع القوة المنفذة بهما كمال الولايات، وبفقدهما أو فقد أحدهما نقصانها وضررها.
ومن العبر: أن الاتكال على النفس سبب الفشل والخذلان، والاستعانة بالله والصبر والالتجاء إليه سبب النصر، فالأول كما في قولهم لنبيهم (وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا) فكأنه نتيجة ذلك أنه لما كتب عليهم القتال تولوا، والثاني في قوله: (وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ).
ومن الفوائد: أن من حكمة الله تعالى تمييز الخبيث من الطيب، والصادق من الكاذب، والصابر من الجبان، وأنه لم يكن ليذر العباد على ما هم عليه من الاختلاط وعدم التمييز.
ومنها: أن من رحمته وسننه الجارية أن يدفع ضرر الكفار والمنافقين بالمؤمنين المقاتلين، وأنه لولا ذلك لفسدت الأرض باستيلاء الكفر وشعائره عليها.
= فاللهم إنا نستغفرك ونتوب إليك، ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين. اللَّهُمَّ أَنْتَ رَبنا لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ، خَلَقْتَنا ونَحن عَبِيدكَ، وَنحن عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْنا، نعُوذُ بِكَ مِنْ شَرور مَا صَنَعنا، نبوء لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَينا، وَنبُوءُ لَكَ بِذَنْوبنا فَاغْفِرْ لنا، فَإِنَّهُ لاَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ أَنْتَ. اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلنا، أنت المقدم وأنت المؤخر لا إله إلا أنت، اللهم اغفر لنا جدنا وهزلنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات.
= اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى إلينا، وانصرنا على من بغى علينا. اللهم اجعلنا لك ذاكرين.. لك شاكرين.. لك راهبين.. لك مِطْواعين.. لك مخبتين.. إليك أواهين منيبين. اللهم اقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، وأجب دعوتنا، وسدد ألسنتنا، واهد قلوبنا، واسلل سخائم صدورنا.
= اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
= اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اجعلهم ولاية رحمة وعدل وهداية يا أكرم الأكرمين، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وجماعتنا يا أرحم الراحمين.
=اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|