النجاة
الحمد لله لا محمود في كلّ حال سواه، وأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ولا رب لنا سواه ولا نعبد إلا إياه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه، وسلم تسليما كثيراً إلى يومِ لقاه أما بعد:
عباد الله: اتقوا الله حق تقواه، وتعوذوا بالله من الفتن ما ظهر منها وما بطن.
عباد الله عَنْ عُقْبَةَ بْنِ عَامِرٍ رضي الله عنه، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ , مَا النَّجَاةُ ؟ قَالَ صلى الله عليه وسلم: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ ، وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ ، وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ " أخرجه الإمام أحمد في مسنده، والترمذي في جامعه وقال: حديث حسن ، وصححه الألباني رحمه الله في صحيح الترغيب والترهيب .
في هذه الوصية الجامعة المانعة بيّن النبي صلى الله عليه وسلم أن النجاة , أي أن النجاة من الهلاك والضياع في الدنيا والآخرة في ثلاثة أمور هي :
الأولى قوله: " أَمْسِكْ عَلَيْكَ لِسَانَكَ " فعلى المسلم الناصح لنفسه أن يحذر كل الحذر من لسانه ؛ لأنه سوف يحاسب على كل كلمة بل كل لفظ ينطق به لسانه قال تعالى : (مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيد) [ق: 18] , وسئل النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر ما يدخل الناس النار؟ فقال: "الفم و الفرج" [قال الترمذي: حديث حسن صحيح] .
وسأل معاذ رضي الله عنه النبي صلى الله عليه وسلم عن العمل الذي يدخله الجنة ويباعده من النار فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم برأسه وعموده وذروة سنامه، ثم قال: "ألا أخبرك بِمِلاكِ ذلك كلِّه؟" قال: بلى يا رسول الله! فأخذ بلسان نفسه ثم قال: "كُفَّ عليكَ هذا". فقال: وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به؟ فقال: "ثَكِلَتْكَ أمُّكَ يا معاذ؛ وهل يَكُبُّ الناسَ على وجوهِهِم -أو على مَناخِرِهِم- إلا حصائدُ ألسنتِهم". [قال الترمذي: حديث حسن صحيح].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ: "إِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ رِضْوَانِ اللهِ ، عَزَّ وَجَلَّ ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً ، يَرْفَعُهُ اللهُ بِهَا دَرَجَاتٍ ، وَإِنَّ الْعَبْدَ لَيَتَكَلَّمُ بِالْكَلِمَةِ مِنْ سَخَطِ اللهِ، لاَ يُلْقِي لَهَا بَالاً، يَهْوِي بِهَا فِي جَهَنَّمَ" . أخرجه البُخاري.
ومن وصايا النجاة في هذا الحديث قوله عليه الصلاة والسلام: " وَلْيَسَعْكَ بَيْتُكَ "
إن الاهتمام بالبيت هو الوسيلة الكبيرة لبناء المجتمع المسلم، فإن المجتمع يتكوّن من بيوت هي لبناته، والبيوت أحياء، والأحياء مجتمع، فلو صلحت اللبنة لكان مجتمعنا قوياً بأحكام الله، صامداً في وجه أعداء الله، يشع الخير ولا ينفذ إليه الشر.
والاهتمام بالبيوت لإصلاحها وتقويمها يتطلب عدة أمور منها :
أولاً: حسن اختيار الزوجة: لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " تُنْكحُ الْمَرْأَةُ لأرْبَعٍ: لمالها ولِحَسَبها ولِجَمَالها وَلدينها: فَاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ تَربَتْ يَدَاكَ " متفق عليه.
ثانياً: السعي في إصلاح الزوجة: وذلك بالاعتناء بتصحيح عقيدتها، وعبادتها بكافة أنواعها, والسعي لرفع إيمانها وذلك بحثها على قيام الليل، وتلاوة الكتاب العزيز، وحفظ الأذكار والتذكير بأوقاتها، ومناسبتها، وحثها على الصدقة، وقراءة الكتب الإسلامية النافعة، وسماع الأشرطة الإسلامية المفيدة العلمية منها والإيمانية. فعن عائشة رضي الله عنها قالت: " كان رسول الله يصلي من الليل فإذا أوتر، قال: قومي فأوتري يا عائشة " رواه مسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: " رَحِمَ اللَّهُ رَجُلا قَامَ مِنَ اللَّيْلِ فَصَلَّى وَأَيْقَظَ امْرَأَتَهُ ، فَإِنْ أَبَتْ نَضَحَ فِي وَجْهِهَا الْمَاءَ " رواه أحمد انظر صحيح الجامع.
ثالثاً: الاهتمام بتربية الأولاد تربية إيمانية متكاملة واستشعار المسؤلية في ذلك. فَعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّهُ سَمِعَ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ:"كُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، فَالإِمَامُ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالرَّجُلُ في أَهْلِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، وَالْمَرْأَةُ في بَيْتِ زَوْجِهَا رَاعِيَةٌ وَهْىَ مَسْئُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا ، وَالْخَادِمُ في مَالِ سَيِّدِهِ رَاعٍ ، وَهْوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ". أَخْرَجَهُ البُخَارِي ومسلم .
إن المشكلة التي تواجهها كثير من بيوتنا اليوم أن بعض أفراد هذه البيوت قد تخلّو عن مسؤولياتهم , فالأب ترك مسؤولية التربية كاملة للأم , والأم قد انشغلت بأشياء أخرى غير تربية الأولاد , وصار كلا منهما ينحي باللوم على الأخر , لا سيما في هذا الوقت التي كثرت فيه الفتن، وازداد الشر بانتشار هذه الأجهزة الذكية في أيدي المسلمين كباراً وصغاراً، ذكوراً وإناثاً، فعكفوا عليها بقلوبهم وجوارحهم، كأن على رؤوسهم الطير لا يكلم أحدٌ أحدَا، فسرقت منهم الأوقات والأخلاق والأموال وفرقت البيوت، وأصبح هم الواحد منّا جواله وشاحنه، لا أن يكون همه صلاح الذرية.
زد على ذلك ما جلبته هذه الأجهزة من مفاسد عظيمة فمن خلالها اخترقتهم الأفكار الهدامة، وفرقتهم العقائد الباطلة، وألهتهم الدنيا الفانية، وما يحدث في بلادنا في هذه الأيام المتأخرة لهو أكبر شاهد على خطر هذه البرامج والأجهزة، والتي أصبح شرها أكثر من خيرها، ومن هنا جاءت وصية النجاة "وليسعك بيتك" فمتى نعود إلى بيوتنا نصلح منها ما أفسدته بعض وسائل الإعلام الفاسدة , ونصلح منها ما قصرت فيه المدارس ؟
فالواجب على الآباء العناية في صلاح بيوتهم، وأن يكونوا سبباً لصلاح أزواجهم وأولادهم وذرياتهم، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ),.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلَّم تسليماً كثيراً، أما بعد:
عباد الله: الوصية الثالثة من النبي عليه الصلاة والسلام لنجاة المسلم في دنياه وآخرته قوله: " وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ ".
المسلم يحاسب نفسه ويعاتبها على تقصيرها "وَابْكِ عَلَى خَطِيئَتِكَ", ويعرف أن ذلك طريقا لنجاته من عذاب النار وغضب الجبار , عن معاوية بن حَيْدَة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "ثلاثةٌ لا ترى أعينُهم النارَ: عينٌ حَرَسَت في سبيلِ اللهِ، وعينٌ بَكَت مِن خشيةِ اللهِ، وعينٌ كَفَّت عن مَحارمِ اللهِ". [رواه الطبراني ورواته ثقات، وقال الألباني: حسن لغيره] .
ومن بكى من خشية الله فإن الله يظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله فقال : "... وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا, فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ "، بل حرم الله النار على من بكى من خشيته قال : " لا َيَلِجُ النَّارَ رَجْلٌ بَكَى مِنْ خَشْيَةِ اللَّه حَتَّى يَعُودَ اللَّبَنُ في الضَّرْع "، وفي رواية قال: " حُرِّمَتْ النَّارُ عَلَى عَيْنٍ دَمَعَتْ أَوْ بَكَتْ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ " وكلا الحديثين صحيح.
وسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى: (وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ) أَهُوَ الرَّجُلُ يَزْنِي وَيَسْرِقُ ، وَيَشْرَبُ الْخَمْرَ ؟ قَالَ عليه الصلاة والسلام: " لَا ، يَا بِنْتَ أَبِي بَكْرٍ أَوْ لَا يَا بِنْتَ الصِّدِّيقِ وَلَكِنَّهُ الرَّجُلُ يَصُومُ ، وَيُصَلِّي ، وَيَتَصَدَّقُ ، وَهُوَ يَخَافُ أَنْ لَا يُقْبَلَ مِنْهُ " ، قال الحسن: عملوا والله بالطاعات واجتهدوا فيها وخافوا أن ترد عليهم، إن المؤمن جمع إحسانا وخشية وإن المنافق جمع إساءة وأمنا. فمعاتبة النفس والبكاء من خشية الله دليل على حسن الإيمان , وطريق إلى النجاة وسبيل إلى دخول الجنة والفوز بالرضوان .
اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الرضا والغضب، والقصد في الغنى والفقر، ونسألك الرضا بعد القضاء، وبرد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر في وجهك، وشوقا إلى لقائك، من غير ضراء مضرة، أو فتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعلنا من الهداة المهتدين. اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، ونسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، ونسألك قلوبا سليمة ، وألسنة صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب .اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ، ولا همّا إلا فرّجته ، ولا كربا لا نفَّسته ، ولا ضرّا إلا كشفته ، ولا ديْنا إلا قضيته ، ولا عدوا إلا أهلكته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اجعلهم ولاية رحمة وعدل وهداية يا أكرم الأكرمين، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وجماعتنا يا أرحم الراحمين .
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |