حفظ الأمانة
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،:
اتقوا الله تبارك وتعالى، واشكروه على ما هداكم للإسلام، وجعلكم من أمة خير الأنام عليه الصلاة والسلام، راقبوه ولا تعصوه واعلموا أنكم لديه محضرون.
عباد الله: يقول الله تبارك وتعالى: (وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ * أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ).
عباد الله: لا راحة في الحياة مهما تيسرت فيها سبل الرخاء، وتنوعت فيها وسائل المتع والملذات، دون أن يشعر فيها الإنسان من الأمان من البوائق، والسلامة من الشرور، وينعم بظل الأمن الوافر، وحتى تستقر القلوب في حنايا الصدور، ولا يتحقق ذلك إلا بالإيمان الصادق بالله، والقيام بالأمانات الموكولة إلى الناس، فالأمانة أم الفضائل، ومنبع الطمأنينة، وهي من أبرز أمارات الإيمان، ودلائل التقوى، بل إن الإيمان نفسه أمانة في عنق العبد، فلا إيمان لمن لا أمانة له، ولا دين لمن لا عهد له.
الأمانة عباد الله: أجلّ صفات المسلم التي تظهر بها ديانته، ويتأكد بها إيمانه، فهي الفضيلة العظمى، والمسؤولية الكبرى، التي تصان بها الحقوق، وتحفظ بها الواجبات من الضياع، إنها الفريضة التي يتواصى المسلمون برعايتها، ويستعينون بالله تعالى على حفظها، حتى إن أحدهم ليودع أخاه في سفره بقوله: أستودع الله دينك وأمانتك وخواتم عملك.
عباد الله: إن الأمانة مسؤولية عظيمة، وعبء ثقيل، إلا على من يسره الله عليه، ولقد أمر الله عباده المؤمنين بالمحافظة على الأمانة وأدائها إلى أهلها، وأن يحكموا بين الناس في تقويم أفعالهم وتصرفاتهم، والحكم بينهم بالعدل، وهذان أمران عظيمان لا تقوم الأمانة إلا بهما قال تعالى: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا). وقال تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَماناتِكُمْ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَدِّ الأَمَانَةَ إِلَى مَنِ ائْتَمَنَكَ وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ» رواه أحمد وغيره. وقال أنس بن مالك رضي الله عنه: ما خطبنا نبي الله صلى الله عليه وسلم إلا قال: « لا إِيمَانَ لِمَنْ لا أَمَانَةَ لَهُ ، وَلا دِينَ لِمَنْ لا عَهْدَ لَهُ » رواه أحمد.
وقد كان صلى الله عليه وسلم يقول: «اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْجُوعِ فَإِنَّهُ بِئْسَ الضَّجِيعُ وَأَعُوذُ بِكَ مِنَ الْخِيَانَةِ فَإِنَّهَا بِئْسَتِ الْبِطَانَةُ» رواه أبو داود وغيره.
عباد الله: لقد فرض الإسلام على المسلمين الأخذ بخلق الأمانة، وحرم عليهم أن يسلكوا مسالك الخيانة، فمن كان أمينا كان مطيعا لربه في إسلامه، ومن كان خائنا كان عاصيا لربه في إسلامه.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ، وَاللَّهِ لَا يُؤْمِنُ ». قيل ومن يا رسول الله ؟ قال: « الذي لا يَأْمَنُ جَارُهُ بَوائِقَه » متفق عليه. والبوائق هي الغوائل والشرور والخيانات.
وقال صلى الله عليه وسلم: « الْمُسْلِمُ : مَنْ سَلِمَ الْمُسْلِمُونَ مِنْ لِسَانِهِ وَيَدِهِ ، وَالْمُؤْمِنُ : مَنْ أَمِنَهُ النَّاسُ عَلَى دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ » رواه الترمذي وغيره.
بل قد جعل المصطفى صلى الله عليه وسلم الخيانة علامة بارزة من علامات النفاق، حيث قال صلى الله عليه وسلم: «آيَةُ الْمُنَافِقِ ثَلاَثٌ إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ وَإِذَا ائْتُمِنَ خَانَ وإن صام وصلى وزعم أنه مسلم» متفق عليه واللفظ لمسلم. وقال صلى الله عليه وسلم: « يُطْبَعُ الْمُؤْمِنُ عَلَى الْخِلالِ كُلِّهَا إِلا الْخِيَانَةَ وَالْكَذِبَ » رواه أحمد.
وتضييع الأمانة من علامات الساعة قال صلى الله عليه وسلم: « إِذَا ضُيِّعَتْ الْأَمَانَةُ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ » قالوا :كيف إضاعتها؟ قال: « إِذَا أُسْنِدَ الْأَمْرُ إِلَى غَيْرِ أَهْلِهِ فَانْتَظِرْ السَّاعَةَ » فانظر إلى كثير من الأمور قد أسندت إلى أناس ليسوا بأهل لها فكثرت الرشوة وذهبت الحقوق وضاع الضعيف نسأل الله العافية والسلامة.
عباد الله: الأمانة ليست متعلقة فقط بحفظ المال والودائع فهذا معنى من عدة معاني مهمة للأمانة، فتوحيدك لله وإفراده بالعبادة أمانة وبعدك عن الشرك والتحذير منه أمانة، والصلاة أمانةٌ إذا ضيّعها العبد فهو لما سواها أضيع. والزكاة أمانة قاتل الصديق أبو بكر رضي الله عنه مانعيها وأطلق عليهم وصف الرِدَّة, والأمانة قوةٌ في حفظ الحقوق كما أجاب يوسف عليه السلام الملك لمّا قال: (إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ).
والأمانة مراقبة ٌللسمع، ومحاسبةٌ للبصر, ومتابعة للفؤاد (إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا), وحبسٌ للسان عن المهالك «وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ عَلَى مَنَاخِرِهِمْ فِي جَهَنَّمَ إِلا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهِمْ»، (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ).
والأمانة شهادةٌ لله، ونصيحةٌ للمسلمين, وبيانٌ للحق, والأمانة تركٌ للادعاء الكاذب فإن «الْمُتَشَبِّعُ بِمَا لَمْ يُعْطَ كَلَابِسِ ثَوْبَيْ زُورٍ».
والأمانة أن يعتني الأب بتربية من تحت يديه من زوجة وأولاد والعناية بذلك وبذل الأسباب الشرعية لهدايتهم ودعاء الله بإلحاح (رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي) ومتابعتهم في فرائض الدين كالصلاة وغيرها من العبادات وكذلك متابعة جوالاتهم وأصدقائهم فإنك ستسأل عنهم يوم القيامة.
نسأل الله لنا ولكم العافية والسلامة من كل بلاء وشر وفتنة ، وأن يرزقنا الأمانة في أقوالنا وأعمالنا، ونسأله تعالى أن يغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمداً كثيراً طيّباً مباركاً فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا . أما بعد:
ومن صور الأمانة : الأمانة في الوظيفة أن الله تعالى يقول: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ)، ومن الوفاء بالعقود أن تحافظ على وظيفتك وتواظب عليها لأن الإخلال بها إخلال بالأمانة وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم قال «من استعملناه - أي وليناه عملا- منكم على عمل فكتمنا مخيطا - كناية عن القلة- فما فوقه كان غلولا يأتي به يوم القيامة» رواه الإمام مسلم، قال العلامة العثيمين رحمه الله تعالى: "وكثير من الموظفين لا يقومون بواجب الوظيفة، فتجده يتأخر عن الدوام، أو يتقدم فيخرج قبل وقت انتهاء الدوام، وهذا ليس راتبه حلالاً؛ بل إنه يأكل من الحرام بقدر ما نقص من عمل الوظيفة؛ لأنه ملتزم بالعقد مع الحكومة مثلاً أنه يقوم بوظيفته من كذا إلى كذا، فلو فتشت الناس اليوم لوجدت كثيراً منهم يكون في ماله دخن من الحرام" أهـ. وبضد الأمانة : الخيانة وفي الحديث الصحيح « لِكُلِّ غَادِرَ يُنْصَبُ لَهُ لِوَاءٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ اسْتِهِ، - أي: مؤخرته عياذا بالله أمام الناس -، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرَةُ فُلَانٍ بن فُلَانٍ »، باسمه لأن غدره في الدنيا كان بخفية وستر فعاقبه الله بنقيض قصده ففضحه أمام الناس ليروه بأبصارهم ويعرفونه باسمه جزاء وفاقا.
وهذا يَدُلُّ عَلى أَنَّ النَّزاهَةَ والأَمانَةَ في الأموالِ، ومُحارَبَةَ الفسادِ في ذلك، والحِفاظَ عَلى المالِ العامِّ، وعَدَمَ الاعْتِداءِ عَلَيْهِ، مُسْئُولِيَّةُ الجَمِيعِ، مِمَّا يُوجِبُ تَعاوُنَ أَفرادِ المُجْتَمَعِ ومَسْئُولِيهِ في ذلك، حَتَى ما يَتَعَلَّقُ بالإبلاغِ عَنْ جرائِمِ الفساد ومُرْتَكِبِيها.
اللهم اكفنا بحلالك عن حرامك، وأغننا بفضلك عما سواك، اللهم خلصنا من حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا وأمننا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم أصلح قادتنا ووفقهم لكل خير واستعملهم في الخير واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر يا أرحم الراحمين. اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام . اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد الشبعان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-129.html |