احفظ ما هو أغلا من الذهب والفضة
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
= أمّا بعد عباد الله: اتقوا الله حق التقوى.
عباد الله: روى الإمام احمد في مسنده وغيره -وصححه الألباني -أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يا شداد بن أوس، إذا رأيت الناس قد اكتنزوا الذهب والفضة, فاكنز هؤلاء الكلمات: اللَّهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ الثَّبَاتَ فِي الْأَمْرِ، وَالْعَزِيمَةَ عَلَى الرُّشْدِ، وَأَسْأَلُكَ مُوجِبَاتِ رَحْمَتِكَ، وَعَزَائِمَ مَغْفِرَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ شُكْرَ نِعْمَتِكَ، وَحُسْنَ عِبَادَتِكَ، وَأَسْأَلُكَ قَلْبَاً سَلِيمَاً، وَلِسَانَاً صَادِقَاً، وَأَسْأَلُكَ مِنْ خَيْرِ مَا تَعْلَمُ، وَأَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا تَعْلَمُ، وَأَسْتَغْفِرُكَ لِمَا تَعْلَمُ، إِنَّكَ أنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ)) .
هذا الدعاء العظيم المبارك, في غاية الأهمية, فقد اشتمل على أعظم مطالب الدين, والدنيا, والآخرة, وفيه من جوامع الكلم ولهذا أمر النبي صلى الله عليه وسلم شداد بن أوس, والصحابة رضي الله عنهم بالإكثار من هذا الدعاء بأجمل الألفاظ، وأجلّ المعاني و مما يدل على أهمية هذه الدعوات الطيبات أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقولها في صلاته، ففي رواية عند ابن حبان، والطبراني، ولفظ الحديث عند النسائي عن شداد رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول هذا الدعاء في صلاته، صححه الألباني
أي أنه كان يكثر من هذه الدعوات في أعظم الأعمال، وهي الصلاة, فقوله صلى الله عليه وسلم ((فأكثروا))، وأمر صلى الله عليه وسلم(باكتنازها)؛ لأن نفعها دائم لا ينقطع في الدنيا وفي الآخرة, كما قال اللَّه تعالى: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا" وهذا هو الكنز الحقيقي الذي لا يفنى.
فتضمَّن هذا الدعاء المبارك على عدة مقاصد ومطالب جليلة في أعظم مهمات الدين، والمعاش، والمعاد، منها:
1- سؤال اللَّه تعالى الثبات على الهدى في كل الأحوال.
2- التوفيق إلى صالح الأعمال على التمام .
3- الشكر على النعم والآلاء في الليل والنهار.
4- إصلاح أعمال القلب, والأركان.
5- الفوز بكل خير ومنوال على الدوام.
6- السلامة من كل شر في كل الأحوال والأزمان.
7- مغفرة الذنوب في الماضي, والحال, والمآل.
فقوله: ((اللَّهم إني أسألك الثبات في الأمر)): سأل اللَّه تعالى الثبات في الأمر, وهي صيغة عامة يندرج تحتها كل أمر من من أمور الدنيا, والدين, والآخرة؛ فإن الثبات عليها يكون بالتوفيق إليها بالاستقامة، والسداد, وأعظم ذلك الثبات على الدين والطاعة، والاستقامة على الهدى، وأحوج ما يكون العبد لهذه الاستقامة, عند الاحتضار من نزغات الشيطان وإغوائه, والثبات في سؤال الملكين, وعند المرور على الصراط وقد جمع اللَّه تبارك وتعالى كل هذه الأمور, في قوله: (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ) فتضمّنت هذه الدعوة الجليلة الثبات في كل الأحوال, والأوقات, والأماكن.
وقوله: ((والعزيمة على الرشد)): في أمور معاشه وآخرته, والرشد هو الصلاح، والفلاح, والصواب، فلذلك كانت العزيمة على الرشد مبدأ الخير؛ فإن الإنسان قد يعلم الرشد، وليس له عليه عزيمة، فإذا عزم على فعله أفلح, ولا قدرة للعبد على ذلك إلا باللَّه تعالى؛ فلهذا كان من أهم الأمور سؤال اللَّه تعالى العزيمة على الرشد؛ ولهذا علَّم النبي صلى الله عليه وسلم أحد الصحابة أن يقول: ((قل اللَّهم قني شر نفسي، واعزم لي على أرشد أمري)) رواه احمد وصححه الألباني .
فالعبد يحتاج إلى الاستعانة باللَّه, والتوكل عليه في تحصيل العزم, وفي العمل بمقتضى العزم بعد حصول العزم, قال اللَّه تعالى: "فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ).
والرشد: هو طاعة اللَّه ورسوله، كما قال اللَّه تعالى: "وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: ((من يطع اللَّه ورسوله فقد رشد، ومن يعصي اللَّه ورسوله فقد غوى)) وعون اللَّه للعبد على قدر قوة عزيمته، وضعفها, فمن صمَّم على إرادة الخير أعانه، وثبّته. ومن صَدَقَ العزيمة يئس منه الشيطان, ومتى كان العبد متردداً طمع فيه الشيطان, وسوّفه، ومنَّاه.
قوله صلى الله عليه وسلم ((وأسألك موجبات رحمتك)): أي: نسألك من الأفعال, والأقوال، والصفات التي تتحصَّل بسببها رحمتك والتي توجب بها الجنة التي هي أعظم رحماتك، كما قال تعالى: "وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّه هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ".
قوله: ((وعزائم مغفرتك)): أي أسألك أن ترزقنا من الأعمال والأقوال والأفعال التي تعزم، وتتأكد بها مغفرتك, وهذا الدعاء من جوامع الكلم النبوية, فإنه سأله أولاً أن يرزقه ما يوجب له رحمة اللَّه عز وجل ومن فعل ما يوجب له الرحمة, فقد دخل بذلك تحت رحمته التي وسعت كل شيء, واندرج في سلك أهلها, وفي عداد مستحقها, ثم سأله أن يهب له عزماً على الخير يكون به مغفوراً له؛ فإن من غفر اللَّه تعالى له ذنوبه، وتفضّل عليه برحمته، فقد ظفر بخيري الدنيا والآخرة, واستحق العناية الربانية في محياه ومماته؛ لأنه قد صفا من كدورات الذنوب .
قوله: ((وأسألك شكر نعمتك)): أي أسألك التوفيق لشكر نعمك التي لا تُحصى؛ لأن شكر النعمة يوجب مزيدها، وحفظها، واستمرارها على العبد، كما قال اللَّه تعالى: (وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ) والشكر يكون: بالقلب, واللسان, والأركان.
فالشكر بالقلب: ذكرها، وعدم نسيانها.
والشكر باللسان :الثناء، والحمد بالنعم، وذكرها, وتعدادها, والتحدث بها.
والشكر بالأركان, أن يستعان بنعم اللَّه تعالى على طاعته, وأن يجنب في استعمالها في شيء من معاصيه .
قوله: ((وحسن عبادتك)): يكون بإتقانها، والإتيان بها على أكمل وجه، ويكون ذلك على ركنين:
1- الإخلاص للَّه تعالى فيها.
2- المتابعة فيما جاء في الكتاب الحكيم, وسنة المصطفى صلى الله عليه وسلم الرؤوف الرحيم، وأعظم الإحسان في العبادة مقام الإحسان: قال النبي صلى الله عليه وسلم حينما سأله جبريل عن الإحسان، فقال: ((الإحسان أن تعبد اللَّه كأنك تراه، فإن لم تكن تراه, فإنه يراك)).
فأشار إلى مقامين:
أحدهما: أن يعبد اللَّه تعالى مستحضراً لرؤية اللَّه تعالى إياه، ويستحضر قرب اللَّه منه، واطّلاعه عليه, فيخلص له العمل، ويجتهد في إتقانه، وتحسينه.
والثاني: أن يعبده على مشاهدته إياه بقلبه, فيعامله معاملة حاضر لا معاملة غائب.
فينبغي للداعي حينما يدعو ربه تعالى المجيب أن يستحضر هذه المعاني.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد حمداً كثيرا طيبا مباركا فيه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيراً ... أما بعد عباد الله :
وقوله في الدعاء: ((وأسألك قلباً سليماً)): هو القلب النقي من الذنوب، والعيوب الذي ليس فيه شيء من محبة اللَّه ما يكرهه اللَّه تبارك وتعالى, فدخل في ذلك سلامته من الشرك الجلي والخفي, ومن الأهواء والبدع، ومن الفسوق والمعاصي: كبائرها، وصغائرها، الظاهرة، والباطنة، كالرياء، والعجب, والغِلِّ, والغش, والحقد, والحسد، وغير ذلك, وهذا القلب السليم هو الذي لا ينفع يوم القيامة سواه, قال اللَّه تعالى: ((يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ *إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ", فإذا سلم القلب لم يسكن فيه إلا الرب تبارك وتعالى)) .
قوله: ((ولساناً صادقاً)): أي محفوظاً من الكذب, والإخلاف بالوعد, سأل اللَّه تعالى لساناً صادقاً؛ لأنه من أعظم المواهب, وأجلّ المنح والرغائب؛ فإنه أول الطريق إلى درجة الصدِّيقيَّة التي هي أعلى الدرجات بعد الأنبياء, قال النبي صلى الله عليه وسلم ((عليكم بالصدق, فإن الصدق يهدي إلى البر، وإن البر يهدي إلى الجنة, وما يزال الرَّجُل يصدق, ويتحرى الصدق, حتى يكتب عند اللَّه صديقاً...)).
قوله: ((وأسألك من خير ما تعلم)): هذا سؤال جامع لكل خير ما علمه العبد، وما لم يعلمه، فما من خير إلا وقد دخل فيه .
قوله: ((وأعوذ بك من شر ما تعلم)): وهذه الاستعاذة شاملة من كل الشرور: صغيرها، وكبيرها, الظاهر منها، والباطن.
قوله: ((وأستغفرك لما تعلم)): ختم الدعاء بطلب الاستغفار الذي عليه المعوَّل، والمدار؛ فإنه خاتمة الأعمال الصالحة, كما في كثير من العبادات.
ثم ختم دعاءه, بأحسن ختام, من صفات اللَّه تعالى العظام ((إنك أنت علام الغيوب)): باسم من أسمائه المضافة, التي تدل على سعة العلم, فهذا توسّل جليل, لهذا المقام العظيم, فيه غاية الأدب والتعظيم, للرب الجليل .
فتأمل يا عبد الله إلى جلالة هذه الكلمات في هذه الدعوات, من المقاصد, والمطالب, والمضامين المهمّة؛ لذا أمر صلى الله عليه وسلم باكتنازها؛ لأنها هي الكنز الحقيقي الذي ينمو في ازدياد من الخير في الدار الدنيا, والادخار في الدار الآخرة
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر ، والعزيمة على الرشد ، ونسألك شكر نعمتك ، وحسن عبادتك ، ونسألك قلوبا سليمة ، وألسنة صادقة ، ونسألك من خير ما تعلم ، ونعوذ بك من شر ما تعلم ، ونستغفرك لما تعلم ، إنك أنت علام الغيوب .اللهم لا تدع لنا ذنبا إلا غفرته ، ولا همّا إلا فرّجته ، ولا كربا لا نفَّسته ، ولا ضرّا إلا كشفته ، ولا ديْنا إلا قضيته ، ولا عدوا إلا أهلكته ، ولا حاجة من حوائج الدنيا والآخرة إلا قضيتها يا أرحم الراحمين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم حببّ إلينا الإيمان وزيّنه في قلوبنا وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين.
اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك واجعلهم مفاتيح للخير مغاليق للشر يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم اجعلهم ولاية رحمة وعدل وهداية يا أكرم الأكرمين، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وجماعتنا يا أرحم الراحمين .
اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أعلنّا وما أسررنا وما أنت أعلمُ به منا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيءٍ قدير، اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |