شدة الحر
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: إن الله - تعالى - بحكمته ورحمته خَلَقَ الليلَ والنهار، والشمس والقمرَ، وجعل الظلماتِ والنور، والحرَّ والبرد، في الشتاء والصيف؛ لحِكَمٍ عظيمة، ومنافعَ جسيمةٍ، فهذه المخلوقات من آياته، ودلائل قدرته وعظمته وتوحيده، وفيها مصالحُ للعباد في ليلهم ونهارهم، في أمور دينهم ودنياهم.
ونعيش هذه الأيام موجة من الحر شديدة توجب لبعضنا التأفف والانزعاج ولكن المؤمن الحق له في حالة ذكرى وموعظة وتعلق برب البرية .
أيها الناس: ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: ((اشتكت النار إلى ربها فقالت: أكل بعضي بعضًا، فأذِن لها بنفسَين: نفَس في الشتاء، ونفَس في الصيف، فأشد ما تجدون من الحر من سموم جهنم، وأشد ما تجدون من البرد من زمهرير جهنم)).
فهذا الحر يذكِّرنا بحرِّ جهنم، ويوجب لنا الاستعاذة بالله منها، وتجنُّب الأعمال الموصِّلة إليها، من ترك الواجبات، وفعل المحرَّمات، وإضاعة الأوقات فيما لا تحمد عقباه، وفي الحديث الصحيح: ((إذا اشتد الحر فأَبرِدوا بالصلاة؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم)) يعني: صلاة الظهر.
ومما يؤمَر بالصبر عليه في شدة الحر: النفر للجهاد، والدعوة إلى الله تعالى؛ قال - تعالى - عن المنافقين: {وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ} [التوبة: 81].
ومما يؤمَر بالصبر عليه في شدة الحر: المشيُ إلى المساجد لصلاة الجُمَع والجماعات، وشهود الجنائز وتشييعها، إلى غير ذلك من العبادات كالحج.
وينبغي لمن كان في حرِّ الشمس أن يتذكر حرَّها يوم القيام، حين تدنو من رؤوس العباد، ويزاد في حرِّها، وينبغي لمن لا يصبر على حر الشمس في الدنيا أن يتجنَّب من الأعمال ما يستوجب به صاحبُه دخولَ النار؛ فإنه لا صبر لأحد عليها كالشرك بالله والتخلف عن الجمع والجماعات وعقوق الوالدين وقطيعة الرحم والغيبة والنميمة والسب والشتم وغيرها كثير .
ومما يضاعف ثوابُه في شدة الحر: الصيام؛ لما فيه من ظمأ الهواجر، ولهذا كان معاذ بن جبل يتأسَّف عند موته على ما فاته من ظمأ الهواجر، وكذلك غيره من السلَف، وكان أبو الدرداء يقول: صوموا يومًا شديدًا حرُّه لحرِّ يوم النشور، وصلوا ركعتين في ظلمة الليل لظلمة القبور، وتصدَّقوا بصدقة السِّرِّ لحر يوم عسير.
ومن أعظم ما يذكِّر بنار جهنم: النارُ التي في الدنيا؛ قال - تعالى -: {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ} [الواقعة: 73]؛ يعني: أن نار الدنيا جعلها الله تذكرةً بنار جهنم، ونار الدنيا جزء من سبعين جزءًا من نار جهنم . وكان عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - يقول: أكثروا ذكر نار جهنم؛ فإن حرَّها شديد، وقعرها بعيد، ومقامعها حديد.
والمصيبة العظمى حين تنطبق النار على أهلها، وييئسون من الفرج والمخرج، وهو الفزع الأكبر الذي يأمَنُه أهل الجنة؛ قال - تعالى - : {إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ * لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ} [الأنبياء: 101 - 103]. قال البيضاوي في تفسيره: الفزَع الأكبر هو النفخة الأخيرة؛ لقوله - تعالى -: {وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ} [النمل: 87]، أو الانصراف إلى النار، أو حين يطبق على النار، أو حين يذبح الموت، والله أعلم.
كل ما في الدنيا من نعيم يذكِّر بنعيم الجنة، وما فيها من عذاب يذكِّر بعذاب النار، وما فيها من حر يذكر بحر جهنم، وما فيها من برد يذكِّر بزمهرير جهنم؛ فإن الله - تعالى - جعل في الدنيا أشياءَ كثيرةً تذكِّر بالنار المعَدَّة لمن عصاه، وما فيها من آلام وعقوبات.
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. قلت ما سمعتم وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا . أما بعد:
عباد الله:
ولقد أمر الله عباده أن يقوا أنفسهم وأهليهم من النار فقال سبحانه: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ)- [التحريم/6].
ومعنى قوا أنفسكم أي اتخذوا وقاية بينكم وبين النار تقيكم من حرها وعذابها وذلك بطاعة الله تعالى وترك معصية الله، فإنه لا يقي من هذه النار كثرة الحصون أو كثرة الجنود أو كثرة المال والأولاد وإنه يقي منها رحمة الله تعالى والعمل الصالح.
وكذلك أمركم بأن تقوا أهلكم وأولادكم من النار، والأولاد والأهل هم الأولاد والنساء ومن تحت يد الإنسان، فإنه مكلف ومسؤول عنهم بأن يأمرهم بطاعة الله وينهاهم عن معصية الله وأن يبعد عن بيته وسائل الفتن التي كثرت في هذا الزمان فيخلي بيته من وسائل الفتن والشرور التي أضلت وأفسدت كثيراً من الناس إلا من رحم الله.
عباد الله:
إن المسؤولية عظيمة، خصوصاً لما اشتدت الفتن في هذا الزمان، فيجب على أهل البيوت أن يحموا بيوتهم من هذه الأخطار التي هي طريق إلى النار.
يا من تتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفُّسها كل عام، حتى يحس به ويتألم، وهو مصرٌّ على ما يقتضي دخولها مع أنه يعلم، ستعلم إذا جيء بجهنم تُقاد بسبعين ألف زمام من يندم، ألك صبر على سعيرها وزمهريرها؟! قل لي وتكلم.
فاتقوا الله عباد الله، واحذروا من هذه النار ولا يكفي أن الإنسان يقول: أعوذ بالله من النار بلسانه بل يقول: أعوذ بالله من النار، ويعمل الأعمال التي تبعده من النار لقوله تعالى: -(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا)- [التحريم/6]، وقد أمر النبي صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير أن نستعيذ بالله من أربع من عذاب جهنم ومن عذاب القبر ومن فتنة المحيا والممات ومن فتنة المسيح الدجال، فبدأ بالاستعاذة من نار جهنم لشدة خطرها وعظيم ضررها وأنها أم المهلكات نسأل الله العافية.
أجارنا الله وإياكم من عذاب جهنم بمنِّه وكرمه، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار، ربنا اصرف عنا عذاب جهنم إن عذابها كان غرامًا، ربنا تقبل منا إنك أنت السميع العليم. اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم اقسم لنا من خشيتك ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا فى ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا، اللهم أنت ربنا لا إله إلا أنت، خلقتنا ونحن عبيدك، ونحن على عهدك ووعدك ما استطعنا، نعوذ بك من شر ما صنعنا، نبوء لك بنعمتك علينا، ونبوء بذنوبنا، فاغفر لنا، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. اللهم أعنا ولا تعن علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكر لنا ولا تمكر علينا، واهدنا ويسر الهدى لنا، وانصرنا على من بغى علينا، اللهم اجعلنا لك شاكرين.. لك ذاكرين.. لك راغبين.. لك راهبين. اللهم تقبل توبتنا، واغسل حوبتنا، وثبت حجتنا، واهد قلوبنا، ويسر أمورنا، وطهر قلوبنا، واسلل سخيمة قلوبنا، برحمتك يا أرحم الراحمين. اللهم إنا نسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرشد، والغنيمة من كل بر، والسلامة من كل إثم، والفوز بالجنة والنجاة من النار، برحمتك يا أرحم الراحمين!، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشبعان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |