الاعتبار بشدة الحر والنار
الحمد لله ذي الجلال والإكرام، أحمده سبحانه وأشكُرُه على عظيم الإنعام ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الملك القدوسُ السلام، وأشهد أن نبيَّنا محمدًا عبدُه ورسولُه المبعوث رحْمةً للأنام، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِهِ البرَرَة الكرام، صلاةً وسلامًا دائمَيْن ما تعاقَبَت الليالي والأيام، أما بعد:
فاتقوا الله – يا عباد الله- واحمدوه على ما أراكم من آياته التي تعرفون بها وحدانيته، وكمال ربوبيته، واستحقاقه للعبادة دون غيره.
فإن العاقل البصير يرى في كل ما حوله آية تذكِّره بعظمة الله، وتقوده إلى الإخبات والإنابة إلى مولاه، فإن كان مما يوافق رغبته، ويفرح به قلبه، علم أنه مُطالب بعبادة عظيمة، عبادة الشكر والاعتراف بالفضل لأهله، ثم سأل الله من فضله.
وإن كان بضد ذلك مما يحزن قلبه، ويضيق به صدره تذكر العبادة الأخرى، عبادة الصبر وحبس النفس عما يسخط الله، وانتظر فرج الله وتيسيره لأن مع العسر يسراً.
عباد الله.
وإن مما يدعو للاعتبار والتفكر في آيات الله ما نعيشه، ونواجهه هذه الأيام من شدة حرارة الجو الذي ضاقت به صدور أقوام فتذمّروا، وربما سخطوا وندبوا حظهم أن كانت بلادهم بهذه الحرارة , ولكن المسلم العاقل له نظرٌ آخر، نظر الاعتبار والتأمل في بديع حكمة الله.
أيها المسلمون، ما عُبد الله عز وجل بمثل الخوف منه، من عقابه وناره وغضبه قال تعالى: {وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ}، أي: ولمن خاف مقامه بين يدي الله - عز وجل - يوم القيامة ، {وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى }، ولم يطغَ ، ولا آثر الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدّى فرائض الله ، واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان .
قال أبو سليمان الدراني رحمه الله: "أصل كل خير في الدنيا والآخرة الخوف من الله عز وجل، وكل قلب ليس فيه خوف لله فهو قلب خرب".
وإن لشدة الحر – يا عبد الله – حكماً كثيرة :
فمن ذلك : أن الله جعل هذا الحر سبباً لتطهير الأرض، وتنقية الأبدان، وطيب الثمار ونضجها.
ومن ذلك: بيان ضعف هذا الإنسان المخلوق الذي ربما تكبَّر على بني جنسه، وأخذته العزة بالإثم بحيث أنه لايستطيع أن يمكث دقائق يسيرة جدا خوفاً من شدة الحر .فهلا اعتبرنا!!.
ومن الحكم والعبر في شدة الحر أن يتذكّر الإنسان وهو يمسح العرق عن جبينه، ويزيل أذيَّته بمنديله، أن يتذكر قول النبي صلى الله عليه وسلم : « تُدْنَى الشَّمْسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْخَلْقِ حَتَّى تَكُونَ مِنْهُمْ كَمِقْدَارِ فَيَكُونُ النَّاسُ عَلَى قَدْرِ أَعْمَالِهِمْ فِي الْعَرَقِ فَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى كَعْبَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى رُكْبَتَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَكُونُ إِلَى حَقْوَيْهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يُلْجِمُهُ الْعَرَقُ إِلْجَامًا». قَالَ وَأَشَارَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- بِيَدِهِ إِلَى فِيهِ. رواه مسلم.
ومن الحكم في شدة الحر ما ثبت في "الصحيحين " من حديث أَبي هُرَيْرَةَ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : «اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ فِي الْحَرِّ - من سموم جهنم- وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ البرد من زمهرير جهنم» ففي الحديث بيان شدة حرارتها أعاذنا الله وإياكم من شرها وفيه أن النار مخلوقة الآن.
أجل ، يا عباد الله إن أشد ما نجده من الحر هو من فيح جهنم، هكذا أخبرنا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الأمر الغيبي، الذي يبعث في النفس المؤمنة مزيد إيمان وتصديق.
فشدة الحر تذكِّر – يا عباد الله – بمصير الكافرين، والعاصين في نار جهنم وهم يصطرخون فيها.
ولئن اجتهدنا في اتقاء هذا الحر الدنيوي أو تخفيفه فأصلحنا وسائل التكييف والتبريد في بيوتنا وسياراتنا وهذا حسن منَّا – إن شاء الله – ولكن ما هو اجتهادنا في اتقاء الحر العظيم والسموم المقيم {قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا}.
ولقد جعل الله نارنا هذه – نار الدنيا – جعلها الله تذكرة لنار الآخرة {نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً}.
فيا من تتلى عليه أوصاف جهنم، ويشاهد تنفسها كل عام- مرة أو مرتين - حتى يحس به، وهو مصرٌ على ما يقض دخولها، ألك صبرٌ على سعيرها وزمهريرها ؟
فاتقوا الله – يا عباد الله – واعلموا أن شدة الحر ليست عذراً في التكاسل عن واجب، ولا في الوقوع في محرم، بل ولا في التهاون والتخلف عن مستحب والأجر على قدر النصب والتعب.
وإن السلف الصالح لم يعرفوا شيئاً مما عرفناه من وسائل الراحة والتكييف، والتبريد، وكانوا أحرص الناس على العبادة، وكانت مساجدهم المفروشة بالحصباء، والمسقوفة بالجذوع والسعف، تمتلئوا بهم ، ويحضر إليها صغيرهم قبل كبيرهم.
بل إن شدة الحر لم تمنع النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه من الخروج للجهاد، ذروة سنام الإسلام، ففي صيف العام التاسع من الهجرة خرج النبي صلى الله عليه وسلم ومعه ثلاثون ألفاً من أصحابه مستجيبين لقوله تعالى: { انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالا} خرجوا لغزوة تبوك ولم يتخلف عن هذه الغزوة إلا منافق مغموس في نفاقه، أو رجل ممن عذر الله من الضعفاء.
فهذه – يا عباد الله – إشارات تدلكم على أن شدة الحر فيه من آيات الله الشيء الكثير، وأنه لم يكن مانعاً يوماً من الدهر عن عمل صالح، وهكذا شأن أصحاب العقيدة، والإيمان الراسخ لا يفرحون بالثمار والظلال، بل يؤثرون الحر والظمأ والجوع في سبيل الله، فهي غنيمتهم التي يدخرونها لآخرتهم.
{رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا}. ربنا قنا عذاب الجحيم وأدخلنا جنة النعيم واغفر لنا ولوالدينا ولجميع المسلمين إنك أنت الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله مُعزّ من أطاعه ومُذل من عصاه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له مجير من استجاره ومجيب من ناداه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ومصطفاه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أجمعين ومن والاه.
أما بعد فيا أيها المؤمنون: إن من أعظم ما يُدفع به العذاب وتُتقى به النار الاستكثار من الحسنات والتخفف من السيئات، فذاك هو -والله- الزاد، ومن ذلك الصيام في شدة الحر ففي الحديث «مَنْ صَامَ يَوْماً فِي سَبِيلِ الله بَاعدَ الله وَجْهَهُ عَنْ النَّارِ سَبْعِينَ خَرِيفًا»، وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يتأسف عند موته على ما يفوته من ظمأ الهواجر. ووصّى عمر رضي الله عنه عند موته ابنه عبدالله فقال له: عليك بخصال الإيمان وسمى أولها : الصوم في شدة الحر في الصيف، وهذا أبو الدرداء رضي الله عنه يقول : صوموا يوما شديدا حرُّهُ لحرِّ يوم النشور.
ومما يُنجي من عذاب النار - بعد رحمة الله - القيام بما افترضه الله ومنع النفس من الوقوع في المحرمات؛ إن الله تعالى يقول: {فَأَمَّا مَنْ طَغَى * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى} .
ومن ذلك أيضًا سؤال الله الجنة والنجاة من النار، وفي الحديث الصحيح الذي أخرجه النسائي والترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: «مَنْ سَأَلَ اللَّهَ الْجَنَّةَ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ الْجَنَّةُ: اللَّهُمَّ أَدْخِلْهُ الْجَنَّةَ وَمَنْ اسْتَجَارَ مِنْ النَّارِ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ قَالَتِ النَّارُ: اللَّهُمَّ أَجِرْهُ مِنْ النَّارِ ».
فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام، إنا نسألك بأنك أنت الله لا إله إلا أنت الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفوا أحد : نسألك الجنة اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم إنا نسألك الجنة، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجرنا من النار، اللهم أجر من النار، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة والمعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم خالف بين كلمتهم وألقِ في قلوبهم الرعب وأنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز.
اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اكفنا شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وديارنا وأمننا وأمتنا واجتماع كلمتنا بسوءٍ اللهم فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرا عليه يارب العالمين، اللهم إنا ندرؤك في نحورهم ونعوذ بك من شرورهم. اللهم احفظ جنودنا وقواتنا وقوِّ عزائهم واربط على قلوبهم، وأحكم أمرهم وسدد رأيهم، واحفظهم من بين أيديهم ومن خلفهم وعن أيمانهم وعن شمائلهم ومن فوقهم واحفظهم أن يغتالوا من تحتهم.
رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
وهذه خطبة سابقة عن حر الصيف والتذكير بنار جهنم للشيخ عبدالرزاق البدر - حفظه الله تعالى -
http://www.islamekk.net/play-600.html |