ما منكم من أحدٍ إلا سيكلِمُه ربُه
إن الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ، صلى اللهُ عليه وعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً أما بعد:
أيها النّاس:
اتقوا الله تعالى وأطيعوه، واعملوا لآخرتكم من الصالحات ما يكون به خلاصكم ونجاتكم ، ورفعة لدرجاتكم ؛ فإن هول المطلع شديد، وإن خسارة الآخرة لا يعدلها خسارة ( قُلْ إِنَّ الخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الخُسْرَانُ المُبِينُ ).
أيها الناس : من محبة النبي صلى الله عليه وسلم لأمته، وشفقته من عذابها، وحرصه على نجاتها وفوزها - كان يحدّث عن يوم القيامة وأوصافه وما يقع فيه؛ تذكيراً للعباد به، وترغيباً لما يقع فيه من الفوز العظيم، وترهيباً مما فيه من الأهوال والعذاب الأليم ؛ ليأخذ الناس بأسباب الفوز والنجاة، ويجتنبوا أسباب الخسارة والعذاب.
ومن تلك المواعظ : ما جاء في الصحيحين عن عدي بن حاتم رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " مَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا سَيُكَلِّمُهُ اللَّهُ ، لَيْسَ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُ تُرْجُمَانٌ، فَيَنْظُرُ أَيْمَنَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ أَشْأَمَ مِنْهُ فَلَا يَرَى إِلَّا مَا قَدَّمَ ، وَيَنْظُرُ بَيْنَ يَدَيْهِ فَلَا يَرَى إِلَّا النَّارَ تِلْقَاءَ وَجْهِهِ، فَاتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ، فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ ".
يا له من حديث عظيم ، تعدّدت مواعظُه ، وتنوّعت فوائده ؛ فقد تضمّن من عظمة الباري ما لا تحيط به العقول ولا تعبّر عنه الألسن.
أخبر صلى الله عليه وسلم أن جميع الخلق سيكلمهم الله مباشرة من دون ترجمان ولا واسطة ، ويسألهم عن جميع أعمالهم : خيرِها وشرها، دقيقها وجليلها، سابقها ولاحقها، ما علمه العباد وما نسوه منها ؛ وذلك أنه لعظمته وكبريائه كما يخلقهم ويرزقهم في ساعة واحدة، ويبعثهم في ساعة واحدة ، فإنه يحاسبهم جميعهم في ساعة واحدة ؛ فتبارك من له العظمة والمجد، والملك العظيم والجلال.
وفي هذه الحالة التي يحاسبهم فيها ليس مع العبد أنصار ولا أعوان ولا أولاد ولا أموال ، قد جاءه حافياً عارياً فرداً كما خلقه أول مرة ؛ قد أحاطت به أعماله تطلب الجزاء بالخير أو الشر، عن يمينه وشماله ؛ وأمامه النار لابد له من ورودها ، فهل إلى صدوره منها سبيل؟ لا سبيل إلى ذلك إلا برحمة الله ثم بما قدّمت يداه من الأعمال المنجية منها.
ولهذا حث النبي صلى الله عليه وسلم أمته على اتقاء النار ولو بالشيء اليسير، كشق تمرة، فمن لم يجد فبكلمة طيبة.
وفي هذا الحديث : دليل على كلام الله عز وجل ، وأنه سبحانه وتعالى يتكلم بكلام مسموع مفهوم ، لا يحتاج إلى ترجمة ، يعرفه المخاطب به ؛ وأن الإيمان بذلك واجب حتم ، لأنه من الإيمان بأسماء الله وصفاته .
وفي الحديث : أعظم ما يبعث في النفوس الرجاء في الله ، حين يرى حسناته كلها قد كُتبت له كبيرها وصغيرها حتى مثاقيل الذر.
وفي الحديث أيضاً : أعظم ما يبعث في النفوس الخوف من الله ، حين يرى تلك السيئات والغدرات ، وحين يرى تلك الخطايا والقاذورات المنسيّات ، يراها كلَّها قد كُتبت عليه كبيرها وصغيرها حتى مثاقيل الذر.
وكل ذلك - يا عبد الله - مصداقاً لقول الرب تبارك وتعالى: {وَبَدَا لَهُم مِّنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ} ؛ فوالله ما أشده من موقف، ووالله ما أعظمها من مفاجأة حينما يظهر للإنسان شيء لم يحسب له حساباً - والله المستعان -.
وفي الحديث : أن من أعظم المنجيات من النار، الإحسان إلى الخلق بالمال والأقوال ، وأن العبد لا ينبغي له أن يحتقر من المعروف ولو شيئاً قليلاً.
وفيه : دليل على أن الصدقة ولو قلّت فإنها تُنجي من النار ، لقوله صلى الله عليه وسلم: ( اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ ) .
وفي الحديث : دليل على أن الكلمة الطيبة هي أيضاً تنجي من النار .
والكلمة الطيبة - يا عباد الله - : تشمل النصيحة للخلق بتعليمهم ما يجهلون، وإرشادهم إلى مصالحهم الدينية والدنيوية. وتشمل الكلام المسر للقلوب ، الشارح للصدور، المقارن للبشاشة والبشر.
والكلمة الطيبة أيضاً : تشمل ذكر لله والثناء عليه، وذكر أحكامه وشرائعه.
فكل كلام يقرب إلى الله ويحصل به النفع لعباد الله ، فهو داخل في الكلمة الطيبة ، قال تعالى: {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ} ، وقال تعالى: {وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً} وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ : هي كل عمل وقول يقرب إلى الله ، ويحصل به النفع لخلقه .
فالحمد لله أولاً وآخراً أن بيّن لنا طُرق الخير وكثّرها ويسّرها علينا ؛ فاللهم جنّبنا طُرقَ الشر والغواية ، وأعِذْنا من أسباب الغفلة والقسوة والجهالة ؛ ووفقنا للتوبة والإنابة، وافتح لنا أبواب القبول والإجابة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله بعدله ضلَّ الضالون ، وبفضله اهتدى المهتدون ، لا يُسألُ عمّا يفعلُ وهم يُسألون ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن اقتفى أثره واستنّ بسنته وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين أما بعد فيا عباد الله :-
إن الغفلة عن لقاء الله واليوم الآخر وما فيه من أهوال وشدائد ، وعدم تذكّر ذلك والتذكير به ، من شأنه أن يُنسِي العبد ما له وما عليه ، الأمر الذي يؤثّر في حياة المسلم وفي سلوكه ومعاملاته..
بخلاف المؤمن المتذكّر للقاء الله واليوم الآخر ، فإن ذكرى ذلك كفيل بصلاح قلبه ونيته ، وعلو همّته وعزمه وحُسن خُلُقه..
لذلك لا تكاد تمر صفحةٌ من صفحات كتاب ربنا دون وصف دقيق ليوم القيامة وما فيه من لقاءِ الله وجنة ونار ، وعذابٍ ونعيم ، فضلاً عمّا في السُنة النبوية المطهرة التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يتخوّل بها صحابته في كل موقف بموعظة تَجْهَش منها العيونُ بالبكاء ، وترقّ منها القلوب خوفاً ورجاء.
وأيضاً كان صلى الله عليه وسلم مع ذلك التخويف والترهيب يبشر أصحابه ، ويؤمّلهم بالله خيراً ؛ جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: ( إِنَّ اللهَ عَزَّ وَجَلَّ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ، فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ مِنَ النَّاسِ، وَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، وَيَقُولُ لَهُ: أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا، حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ، وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ قَدْ هَلَكَ ، قَالَ: فَإِنِّي قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا، وَإِنِّي أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ، ثُمَّ يُعْطَى كِتَابَ حَسَنَاتِهِ ؛ وَأَمَّا الْكُفَّارُ وَالْمُنَافِقُونَ، {فَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ} )..
فاتقوا الله عباد الله ، واتقوا يومًا ترجعون فيه إلى الله، يومئذٍ تُعرضون لا تخفى منكم خافية ، في موقف يُذِيب هولُه الأكبادَ ، وتَذهل فيه كلُّ مُرضعة عما أرضعت، وتضع كل ذات حملٍ حملها، وترى الناس سُكارى وما هم بسكارى، ولكنَّ عذاب الله شديد..
تذكَّروا - يا عباد الله - ولا تغفلوا فتقُسوا وتُعرِضوا ، تذكَّروا القبر والبعثَ والنشور، تذكَّروا الكتابَ المسطور، تذكَّروا يوم العرض على الله ، { أَلا يَظُنُّ أُوْلَئِكَ أَنَّهُم مَّبْعُوثُونَ. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ. يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ }.
فاللهم يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام إنا نعوذ بك من الغفلة والقسوة ومن الذلة والمسكنة ، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ همنا ، اللهم أحْسِن عاقبتنا في الأمور كلِّها، وأجِرْنا من خِزي الدنيا وعذاب الآخرة، اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها اللهم أيقظ قلوبنا من غفلتها. اللهم إنا نسألك خشيتك في الغيب والشهادة ونسألك كلمة الحق في الغضب والرضى، ونسألك القصد في الفقر والغـنى، ونسألك نعيمًا لا ينفد ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضى بعد القضاء ونسألك برد العيش بعد الموت، ونسألك لذة النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة ولا فـتنة مضلة، اللهم زينا بزينة الإيمان، واجعـلنا هداة مهتدين يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك ، ونحن غير مفتونين ، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم اغفر لجميع موتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم وأكرم نزلهم ووسع مدخلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، اللهم جازهم بالحسنات إحساناً وبالسيئات عفواً وغفرانا، اللهم أقل عثرات المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم واحقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم آمنا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا واجعل اللهم ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا أرحم الراحمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |