في نزول المطر شكر وعبر
الحمدُ لله الغني الحميد، المبدئ المعيد ، الفعال لما يريد ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ذو العرش المجيد ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الداعي لمرضاة ربه بفعله وقوله السديد، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والتسديد، وسلم تسليما كثيراً إلى يوم الوعيد أما بعد :-
فاتقوا الله تعالى فإن رحمته قريب من المحسنين، واشكروه على نعمه فإنه توعد بالمزيد للشاكرين .
موضوع خطبتنا هذا اليوم - أيها الإخوة - هو حديث المجالس، فكيف لا يكون حديث المنابر.
إننا في هذه الأيام نتقلّب في نعمٍ من الله وافرة وخيرات عامرة، سماؤنا تمطر، وشجرنا يثمر، وأرضنا تخضرّ، فتح لنا أبواب السماء، فعمّ بغيثه جميع أرضنا، فامتلأت السدود والوديان والنخيل والآبار وارتوت الأرض.
فاللهم إنَّا نَحمدك على ما أوليت به علينا من نعمة الغيث، وأسبغت علينا من نعمة المطر، اللهم فاجعله قوة لنا على طاعتك .
تجمعت سحب كالجبال تسود مرة وتبيض أخرى، تتراكم وتتبدد تنتظر إذن خالقها فلما أذن الله لها أفرغ السحاب المتجمع مابه ، فترى الودق يخرج من خلاله ، وتباشر الناس بأخباره، وتساءلوا عن جهاته ومدى انتشاره .
( اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ * فَانظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَةِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِي الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: " عَجِبَ رَبُّنَا مِنْ قُنُوطِ عِبادِهِ وَقُرْبِ غِيَرِهِ، يَنْظُرُ إِلَيْكُمْ أَزلينَ قَنِطِينَ، فَيَظَلُّ يَضْحَكُ يَعْلَمُ أَنَّ فَرَجَكُمْ قَرِيبٌ ".
عباد الله: جاء في صحيحي البخاري ومسلم عن زيد بن خالد رضي الله عنه أنه قال: صلى بنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم الصبح بالحديبية على أثر سماء كانت بليل، أي: بعد ليلة ممطرة، فلما انصرف النبيّ صلى الله عليه وسلم أقبل على الناس فقال: " هل تدرون ماذا قال ربكم؟ " قالوا: الله ورسوله أعلم، قال: " أصبح من عبادي مؤمن بي و كافر، فأما من قال: مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكوكب، وأما من قال: بنوء كذا أو كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكوكب ".
فبعد نزول المطر ينقسم الناس إلى قمسين أحدهما: المؤمن الموقن بخالقه ورازقه فيقول: مطرنا بفضل الله ورحمته وهذا الواجب، والآخر: من ينسب هذه النعمة إلى النجم الفلاني أو المنخفض الجوي أو غيرها وهذا من كفر النعمة .
فالشاهد من الحديث أن على كل المسلم أن ينسب نزول المطر لله وحده لا شريك له، وأن يشكره تعالى ويقول: مطرنا بفضل الله ورحمته، وأن لا يعلق نزول المطر بشيء من المخلوقات كوكب كان أو نجم أو طبيعة كما يزعم البعض . وهذا أمر يجب التفطن له، وعلينا عدم التأثر بما ينشر ببعض وسائل الإعلام، أو بعض الصحف ومواقع الانترنت، من أن هذا ناشئ عن كذا وكذا، عن الانخفاض الجوي، عن كذا وكذا من الأسباب التي يتوهمونها، وينسون أن هذا المطر من الله ( وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ) . ويعظم الابتلاء إذا توقع الفلكيون ثم وقع ما توقعوه فيلبس هذا على العوام ( إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ).
عباد الله : هل في نزول المطر عبر أو عظات ؟
إي والله ، إنَّ في نزول المطر شيئاً من بيان عظمة الخالق الرازق وقد لفت الله أنظار عباده لينظروا في حقيقة هذا الماء النازل .
( أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ ) والأرض الجرز هي الأرض اليابسة التي لا نبات فيها .
فأنزل الله من السماء ماء بقدر فسالت أودية بقدرها، وجعل الله نزول المطر من عُلْوٍ ليعم سقيُه وهاد الأرض وتلالها ومنخفضها ومرتفعها. ولو أتاها من تحتها لتعذر على الناس سكناها ولو أتاها من أطرافها عن يمينها وشمالها لم يستفد مَن بأعلاها إلا بعد أن يغطي من بأسفلها فسبحان اللطيف الخبير .
عباد الله: ومن عبر هذا المطر الذي ينزل أنه لا ينزل إلا بأمر الله فلقد وكَّل الله بهذا السحاب ملكاً يسوقه حيث شاء الله . فميكائيل موكل بالقطر والنبات اللذين يخلق الله منهما الأرزاق وبهما حياة الناس والأنعام .
فالرياح تلقح السحاب ثم يصرف الله الرياح فتسوق السحاب إلى الأرض التي يأذن الله بسقيها فقد تتخطى مكانا إلى مكان وتترك قرية إلى قرية أخرى وهذا معنى قوله تعالى: ( وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ ) .
ومن أعظم عبر نزول المطر وحياة الأرض به أنه مثال لحياة الناس في قبورهم وخروجهم ليوم نشورهم ، فقد ضرب الله المثل لإعادة الحياة إلى الجثث الهامدة والعظام البالية بإحياء الأرض بعد موتها ( وَاللَّه الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِير سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَد مَيِّت فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتهَا كَذَلِكَ النُّشُور) , ( وَمِنْ آيَاتِهِ أَنّكَ تَرَى الأرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَآءَ اهْتَزّتْ وَرَبَتْ إِنّ الّذِيَ أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الْمَوْتَىَ إِنّهُ عَلَىَ كُلّ شَيْءٍ قَدِيرٌ )
عباد الله: وإن نعمة الله تعالى علينا في مطر هذا السنة أن كان مطراً عاما بادرنا به ربنا فهو مطر وسمي ومطر الوسم بأمر الله تعالى أسرع في نبات الربيع قبل البرد الشديد، تخضر به الأشجار، ويعود فيه الرعي وتطول فترته، وتخرج به الكمأة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيها : " الْكَمْأَةُ مِنَ الْمَنِّ ، وَمَاؤُهَا شِفَاءٌ لِلْعَيْنِ " متفق عليه .
عباد الله: لقد فرح الناس كثيراً بهذا الغيث، حيث دمعت العيون، وانشرحت الصدور، وعمت السعادة الكبير والصغير، ورفعت الأيدي إلى علام الغيوب شكراً له على نعمته.
عباد الله: نحن نتقلب ليلاً ونهاراً في كثير من النعم، وكلها منه سبحانه وتعالى، ولكن للأسف الشديد أن البعض منا لا يشكرها، بل ربما يستعملها في غير طاعته، بل الأدهى والأمر أن يباهي بها البعض في الجهر بمعصيته.
لقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده أن يشكروه، ويحمدوه، ويرجعوا الفضل إليه، فاشكروا الله على نعمه وقوموا بحقه فالله أكرم من عبده. وإنَّ شكر الله واجب على الجميع كبيراً وصغيراً، ذكراً وأنثى، فالشكر يأتي بالزيادة، قال تعالى: ( وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكمْ )، والشكر ينافي الكفر، قال تعالى: ( فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ ).
والشكر على ثلاثة أركان :
فالأول: شكر القلب، وهو تصور النعمة وتيقنها أنها منه سبحانه(وما بكم من نعمة فمن الله.
والثاني: شكر اللسان: وهو الثناء على المنعم بما هو أهله.
والثالث: شكر الجوارح: وهو مكافأة النعمة بقدر استحقاقه، وذلك بالقيام بحقه، والاجتهاد في طاعته، وإخلاص العمل من أجله.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه ملء السماوات وملء الأرض وملء ما شاء من شيء بعد، والحمد لله على نعمه الكثيرة، وجزيل عطائه، وعموم فضله وجوده وكرمه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خير من شكر الله تعالى على نعمه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
أيها الإخوة المسلمون، لقد علّمنا رسول الله أدعية وأذكارا تقال آناء الليل وأطراف النهار، ومنها ما هو مخصوص بحسب الحال والمكان، وما ذلك إلا ليبقى المسلم دائما متصلا ومتعلّقا بربه جل وعلا، ذاكرا وداعيا إياه مستغيثا ومناجيا.
ومن ذلك ما ورد من الأذكار التي تقال عند نزول المطر وبعد نزوله فقد روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها أن رسول الله كان إذا رأى المطر قال: " اللهم صيبا نافعا " ، وفي رواية لأبي داود: " اللهم صيبا هنيئاً "، وعند مسلم كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأى المطر قال: ( رحمة ). وعندما يتوقف يقول: " مطرنا بفضل الله ورحمته ".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحسر عن ثوبه حتى يصيبه من المطر ، فسئل عن ذلك فقال: " لأنه حديث عهد بربه " رواه مسلم .
وإذا نزل المطر وخُشي منه الضرر دعا - عليه الصلاة والسلام- وقال: " اللهم حوالينا ولا علينا، اللهم على الآكام والظراب وبطون الأودية ومنابت الشجر " .
وجاء في الأثر بسند صحيح عن عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث وقال: " سبحان الذي يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ".
والدعاء ـ يا عباد الله ـ عند نزول الغيث مستجاب، فعن سهل بن سعد رضي الله عنه عن النبيّ رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: " ثنتان ما تردان: الدعاء عند النداء وتحت المطر" حسنه الألباني في صحيح الجامع. فهذا حديث عظيم يدل على فضل الدعاء عند نزول الغيث، فما لنا لا نغتنمها؟! فلا ينبغي للمسلم أن تفوته مثل هذه الأدعية والأذكار.
عباد الله، وفي أثناء فرحتنا بهذه النعم العظيمة بنزول الغيث يحسن التنبيه على أمور أهمها:
أولاً: ضبط تلك الرحلات البرية، فلا تضيع صلاة مكتوبة، بل المشروع الآذان لكل صلاة وجمع الأهل والأولاد وكل من خرج للصلاة جماعة.
ثانياً: أن لا يترتب على تتبع السيول والأمطار والبحث عن مضآنها تضييع الساعات الطويلة والأوقات الكثيرة فيضيع بسبب ذلك مشاغل الأهل والأولاد.
ثالثاً: الحذر من تبرج النساء، أو خروجهن بكامل زينتهن، أو كشف الوجه أمام السيارات المارة والمتنزهين الآخرين.
رابعاً: وفي هذه الأجواء يحسن التنبيه والتأكيد بتوخّي الحذر أثناء قيادة السيارة , فالنزول في أماكن الأودية والشعاب سبب للضرر أو الهلاك والواقع يشهد لذلك فخذوا حذركم .
خامساً: أن لا يكون هذا الفرح على حساب آخرتنا، فما نراه من بعض شبابنا من التفحيط بالسيارات والتطعيس والعبث وإيذاء الآخرين ورفع صوت الموسيقى الصاخبة من السيارة ينافي شكر هذه النعمة , وكذا أذية المارّة بأي نوع من الأذية فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: " من آذى المسلمين في طرقهم، وجبت عليه لعنتهم ".
سادساً: كم هو جميل أن تشرك أهلك ووالديك في الاستمتاع بمشاهدة هذا الخير، وأن لا تقصر ذلك على أصحابك وأحبابك.
اللهم إنا نحمدك ونشكرك على ما أنزلت علينا من الغيث، اللهم تابع علينا خيراتك، اللهم اجعل ما أنزلته صيبا نافعاً. اللهم اجعله عطاء مشفوعاً برضى، تصلح بها أحوالنا وتستقيم به قلوبنا يا أرحم الراحمين. اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء إليك أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين. اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا غيثا مغيثا، سحا طبقاً، عاجلاً غير آجل، تسقي به البلاد وتنفع به العباد، وتجعله زاداً للحاضر والباد يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر أهل السنة في كل مكان ، اللهم انصرهم في الشام وفي دماج، اللهم كن لهم عونا ونصيراً ، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا واستقرارنا وقادتنا وجماعتنا، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين وعبث العابثين، اللهم من أراد بلادنا بسوء فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره في تدميره يا قوي يا عزيز، اللهم اجعل بلادنا مستقرة آمنة مطمئنة وسائر بلاد المسلمين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم اغفر لنا ولوالدينا والمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ربنا تب علينا إنك أنت التواب الرحيم، وتقبل منا إنك أنت السميع العليم، وآخر دعوانا الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catsmktba-129.html
|