الحياء من الله حق الحياء
الحمد لله الذي له الحمد كله ، وله الملك كله ، وبيده الخير كله ، وإليه يرجع الأمر كله. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له في ذاته وأسمائه وصفاته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله أفضل مخلوقاته ، اللهم صل وسلم على محمد وعلى آله وأصحابه ، المقتدين به في كل حالاته أما بعد :
فاتقوا الله أيها الناس وآمنوا بربكم وتمسكوا بدينكم وبهدي نبيكم صلى الله عليه وسلم الذي ما من خير إلا دلكم عليه ولا شر إلا حذركم منه, ومن الخير الذي أمركم به وحثكم عليه التحلي بالأخلاق الجميلة والخصال السامية، ومنها خلق الحياء ذاك الخلق الجم الذي يُزيِّن العبد ويجعله عالياً عند ربه محبوبا عند خلقه فكم من حديث أتى لبيان فضل خلق الحياء هذا الخلق الذي به تتقرب إلى الله فتعبده حق العبادة .
عباد الله الحياء صفة خلقية وسجية نفسية تراعي مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم وهي كلها خير .
وقد تواترت الأحاديث في هذا الباب فمنها ما في الصحيحين أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « الحياء من الإيمان »، وقال: « الحياء كله خير »، وقال: « الحياء لا يأتي إلا بخير » وغيرها كثير .
لكن ما هو ضابط الحياء الذي هذا فضله ؟!
ضابط الحياء - عباد الله - هو الذي يحفظ به العبد حدود الله ومحارمه، وربما يتطلب ذلك ورعا واتقاء للشبهة، فهو خلق يبعث العبد على فعل الطيبات وترك القبيحات .
ومما يدل على فضيلته ومدى أهميته أن الحياء من صفات الله التي تليق بجلاله وعظمته وكبريائه لا كحياء المخلوقين، فربنا أجلّ وأكرم من أن يشابهه أحد من خلقه لا ملَك مقرب ولا نبي مرسل (( لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ )) ولكنه حياء لا تدركه الأفهام ولا تكيفه العقول، فإنه حياء كرم وبر وجود وجلال، فإنه حيي كريم يستحي من عبده إذا رفع إليه يديه أن يردهما صفرا، ويستحي أن يُعذّب ذا شيبةٍ شابت في الإسلام, والله سبحانه يحب أسماءه وصفاته ويحب ظهور آثارها في خلقه فهو سبحانه كريم يحب الكرماء حيي يحب أهل الحياء , شكور يحب الشاكرين .
ثم في سنة النبي صلى الله عليه وسلم فكان عليه الصلاة والسلام أشد حياءً من العذراء في خدرها - من شدة حيائه - .
أيها الجمع المبارك : أعظم الحياء وأوجبه الحياء من الله عز وجل الذي هو معك أينما كنت استمع لقول الحق تبارك وتعالى: (( وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ ))، وقوله: (( أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى ))، وقوله: (( وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ )) وغيرها كثير .
ثبت في المسند والترمذي - وحسنه الألباني رحمه الله - عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « اسْتَحْيُوا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ » ، قَالَ : قُلْنَا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّا نَسْتَحِي ، وَالْحَمْدُ لِلَّهِ ، قَالَ : « لَيْسَ ذَلِكَ ، وَلَكِنْ مَنْ اسْتَحَيى مِنَ اللَّهِ حَقَّ الْحَيَاءِ ، فَلْيَحْفَظْ الرَّأْسَ وَمَا حَوَى ، وَلْيَحْفَظْ الْبَطْنَ وَمَا وَعَى ، وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى ، وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ ، تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ ، فَقَدْ اسْتَحْيَا مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ حَقَّ الْحَيَاءِ ».
وحفظ الرأس وما وعى يدخل فيه حفظ السمع والبصر واللسان من المحرمات قال جل وعلا: (( إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا )) , وحفظ البطن وما حوى يتضمن حفظ القلب عن الإصرار على محرم وأخطر الذنوب ذنوب القلوب وفي دعاء الخليل عليه السلام (( وَلا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ يَوْمَ لا يَنفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ )).
والقلب السليم هو الذي سلم من الشرك والغل والحقد والحسد والشح والكبر وحب الدنيا والرياسة ، ولا تتم له سلامته مطلقا حتى يسلم من خمسة أشياء : من شرك يناقض التوحيد ، وبدعة تخالف السنة ، وشهوة تخالف الأمر ، وغفلة تناقض الذكر ، وهوى يناقض التجريد والإخلاص .
ويتضمن حفظ البطن أيضا أن تحافظ عليه من المآكل والمشارب المحرمة وفي الحديث « كُلُّ جَسَدٍ نَبَتَ مِنْ سُحْتٍ فَالنَّارُ أَوْلَى بِهِ » رواه أحمد وصححه الألباني . ويتضمن حفظ البطن أيضاً المحافظة على الفرج « مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ لَهُ الجَنَّةَ ». أخرجه البخاري.
ومن أدعية النبي صلى الله عليه وسلم « اللَّهُمَّ إنِّي أعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ سَمْعِي ومِنْ شَرِّ بَصَرِي وَمِنْ شَرِّ لِسانِي ومِنْ شَرِّ قَلْبِي ومِنْ شَرِّ مَنِيِّي » رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني، فانظر كيف خص الاستعاذة من شر المني فإن اختلاط المني يوجب الفساد في المجتمع واختلاط في الأنساب .
وقوله: « وَلْيَذْكُرْ الْمَوْتَ وَالْبِلَى » فتتذكر مصيرك يا عبد الله وأنك ميت (( كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْت ))، أورث هذا في قلبك الإقبال على الله والاستعداد للرحيل وستُضجع في قبرك ويأتيك ملكان أزرقان أسودان فيقولان لك : من ربك؟ ما دينك؟ من نبيك؟ فيثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت ويضل الله الظالمين، فأكثروا عباد الله من ذكر هادم اللذات ومفرق الجماعات، فاليوم عمل ولا حساب وغدا حساب بلا عمل. فاللهم اجعل آخر كلامنا من الدنيا لا إله إلا الله .
وقوله: « وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ، تَرَكَ زِينَةَ الدُّنْيَا » هذا فيه تزهيد في الدنيا وعدم الاشتغال بها إلا على وفق ما أمر الله به، بخلاف حالنا اليوم فجعلنا الدنيا أكبر همنا ومبلغ علمنا، أحببنا من أجلها وأبغضنا من أجلها، فتجد الأخ لا يكلم أخاه من أجل الدنيا والزوج يفارق زوجته من أجل الدنيا والمطلوب منا أكثر من هذا « مَنْ أَحَبَّ لله، وَأَبْغَضَ لله، وَأَعْطَى لله، وَمَنَعَ لله، فَقَدِ اسْتَكْمَلَ الإِيمَانَ »، وقد حذّرنا نبينا عليه الصلاة والسلام في غير ما حديث من الدنيا والافتتان بها فقال: « اتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ »، وقال: « فَوَاللَّهِ مَا الفَقْرَ أخْشى علَيْكمْ ولكِنْ أخْشى عليكمْ أنْ تُبْسَطَ عليْكمُ الدُّنْيا كَمَا بُسِطَتْ على مَنْ كانَ قَبْلَكمْ فَتنافَسُوها كَمَا تَنافَسُوها فَتُهْلِكَكمْ كَمَا أهْلَكَتْهُمْ ».
فتجرؤ العبد على المعاصي واستخفافه بالأوامر والنواهي الشرعية يدل على عدم إجلاله لربه وعدم مراقبته لربه ومن وصايا النبي صلى الله عليه وسلم لبعض أصحابه قال له: « أوصِيكَ أَن تَسْتَحِيَ مِنَ الله تَعالى كَمَا تَستَحِيي مِنَ الرَّجُلِ الصَّالِحِ مِنْ قَوْمِكَ » وصححه الألباني في صحيح الجامع.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم. أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين إنه هو الغفور الرحيم.
الحمد لله حمداً كثيراً على عموم فضله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً، أما بعد:
فاتقوا الله تعالى، واحمدوه على نعمه الظاهرة والباطنة روى البخاري حديثا عن أبي مسعود عقبة بن عمرو الأنصاري البدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ مِمَّا أَدْرَكَ النَّاسُ مِنْ كَلَامِ النُّبُوَّةِ الْأُولَى: إِذَا لَمْ تَسْتَحْيِ فَاصْنَعْ مَا شِئْتَ » وهذا الحديث معناه أن الذي نزع منه الحياء فإنه سيعمل ما يشاء من شر، لأن الحياء لا يأتي إلا بخير وهذا قد نزع منه الحياء عياذاً بالله وسوف يجازى عن كل ما عمل إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
عباد الله هناك مفاهيم خاطئة حول خلق الحياء يظنها الناس حياءً وهي في الحقيقة على خلاف ذلك:
فمنها ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فتجد الواحد منا تُفعل المعصية أمام عينيه بل ربما في مجلسه ولا ينكر ولا يتمعّر وجهه وإذا قلت له ِلمَ لَمْ تنكر ؟! قال أنا مستحي . وهذا في الحقيقة خوف وخور وجبن، وهذا من الحياء المذموم الذي يحاسب عنه العبد في صحيح مسلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: « مَن رَأى مِنكُم مُنكَرَاً فَليُغَيِّرْهُ بِيَدِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِلِسَانِهِ، فَإِنْ لَمْ يَستَطعْ فَبِقَلبِه وَذَلِكَ أَضْعَفُ الإيمَانِ ».
ومن الحياء المذموم : ترك العلم حياءً فتجد الواحد منا يقع في أخطاء في صلاته وفي صيامه وفي طهارته وإذا قلت له : لِمَ لا تتعلم أو تسأل ؟ قال : أنا مستحي .ويستمر على خطأه بزعم الحياء ويستشهدون بعبارة خاطئة أيضاً "لا حياء في الدين" وهذه عبارة خاطئة لأن الحياء من الدين وإنما الصحيح أن يقال: " لا حياء في العلم " تقول عائشة رضي الله عنها: « يرحم الله نساء الأنصار ما منعهن الحياء أن يتفقهن في الدين »، ويقول مجاهد رحمه الله " لا ينال العلم مستحً ولا متكبر " .
وبعد عباد الله فهذه بعض فضائل هذا الخلق الجم "خلق الحياء " فتمسكوا به واسألوا الله أن يرزقكم حياءً يقربكم إلى طاعته ويبعدكم عن معاصيكم .
اللهم إنا نسألك بأن لك الحمد لا إله إلا أنت ، المنان يا بديع السماوات والأرض ، يا ذا الجلال والإكرام ، يا حي يا قيوم ، نسألك أن تجعلنا أجمعين من الذين يستحُون منك حقَّ الحياء، اللهم اجعلنا أجمعين من الذين يستحون منك حق الحياء، اللهم اجعلنا أجمعين من الذين يستحون منك حق الحياء، اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت ، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها.
اللهم اجمع كلمة المسلمين على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك صلى الله عليه وسلم.
اللهم انصر أهل السنة في كل مكان ، اللهم كن لهم عونا ونصيراً ، اللهم ثبت أقدامهم وانصرهم على القوم الكافرين.
اللهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم اقسم لنا من خشيتك ما يحول بيننا وبين معاصيك ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك ومن اليقين ما يهون علينا مصيبات الدنيا ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا وقوتنا ما أحييتنا واجعله الوارث منا واجعل ثأرنا على من ظلمنا وانصرنا على من عادانا ولا تجعل مصيبتنا في ديننا ولا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم اغفر لنا خطئنا وجهلنا وإسرافنا في أمورنا وما أنت أعلم به منا، اللهم اغفر لنا خطئنا وعمدنا وهزلنا وجدنا وكل ذلك عندنا، اللهم اغفر لنا ما قدمنا وما أخرنا وما أسررنا وما أعلننا أنت المقدم وأنت المؤخر وأنت على كل شيء قدير .
اللّهمّ أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغنيّ ونحن الفقراء، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهمّ أغِثنا، اللهم أغِثنا، اللهم أغثنا، اللّهمّ نسألك غيثا مباركا تحيي به البلادَ وتسقِي به العبادَ وتجعله بلاغًا للحاضِر والباد، اللهم اسقِ عبادك وبهائمَك وأحيِ بلدَك الميت، اللهمّ سقيا رحمة، لا سقيا عذابٍ ولا بلاء ولا هدم ولا غرق.
اللّهمّ إنا نستغفرك إنك كنت غفارًا، فأرسل السماء علينا مدرارًا. اللّهمّ إنا خلق من خلقك، فلا تمنع عنّا بذنوبِنا فضلك. اللهم أنزل علينا الغيثَ، واجعل ما أنزلتَه قوّةً لنا على طاعتك وبلاغًا إلى حين. اللّهمّ أسقِنا الغيثَ وآمِنّا من الخوف ولا تجعلنا آيسين ولا تهلِكنا بالسنين، واغفِر لنا أجمعين وارحمنا برحمتك إنك أنت الغفور الرحيم. ربَّنا تقبّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، سبحان ربِّك ربِّ العزة عمّا يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله ربِّ العالمين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129 |