أصول الشر وفروعه
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
فاتقوا الله أيها المؤمنون لعلكم تفلحون .
عباد الله: حديث نبوي عظيم النفع، كبير الفائدة، جمع أُصولَ الشر وفروعَه، ومبادِيَه وغاياتِه، وموارِدَه ومصادرَه، حريٌّ بكل مسلم الوقوف عنده والتأمل في ألفاظه، والتفكر في معانيه، إذ كان من أكثر الأدعية التي يحافظ عليها النبي صلى الله عليه وسلم، فقد ثبت في الصحيحين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: كنت أخدم النبي صلى الله عليه وسلم, فكنت أسمعه كثيرا يقول: " اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ وَالْحَزَنِ وَالْعَجْزِ وَالْكَسَلِ وَالْبُخْلِ وَالْجُبْنِ وَضَلَعِ الدَّيْنِ وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ ".
ثمانِ خصال وردت في الحديث، كُلُّ خصلتين منها قرينتان.
فالهم والحزن قرينان وهما من آلام الروح :
وذلك أن الهم توقع الشر في المستقبل , والحزن التألم على حصول المكروه في الماضي .
فاستعاذ منهما لما فيهما من شدة الضرر على البدن، وإذابة قواه، وتشويش الفكر والعقل. والإنشغال بهما يفوِّتان على العبد الكثير من الخير، وانشغال الفؤاد والنفس عن الطاعات والواجبات، هذا إن كان الهمّ والحزن في أمور الدنيا، أما همّ الآخرة، فهو محمود؛ لأنه يزيد في الطاعة، ويبعث النفس على الجدّ، والعمل، والمراقبة، قال النبي صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ جَعَلَ الْهُمُومَ هَمًّا وَاحِدًا: هَمَّ الْمَعَادِ، كَفَاهُ اللَّهُ هَمَّ دُنْيَاهُ، وَمَنْ تَشَعَّبَتْ بِهِ الْهُمُومُ في أَحْوَالِ الدُّنْيَا، لَمْ يُبَالِ اللَّهُ فِي أَيِّ أَوْدِيَتِهِ هَلَكَ )). رواه ابن ماجه وابن أبي شيبة وصححه الألباني.
وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (( مَنْ كَانَتْ الْآخِرَةُ هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ غِنَاهُ فِي قَلْبِهِ وَجَمَعَ لَهُ شَمْلَهُ، وَأَتَتْهُ الدُّنْيَا وَهِيَ رَاغِمَةٌ، وَمَنْ كَانَتْ الدُّنْيَا هَمَّهُ جَعَلَ اللَّهُ فَقْرَهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وَفَرَّقَ عَلَيْهِ شَمْلَهُ، وَلَمْ يَأْتِهِ مِنْ الدُّنْيَا إِلَّا مَا قُدِّرَ لَهُ)). رواه الترمذي وحسّنه الألباني.
والجبن والبخل قرينان : فإن عدم النفع منه، فإن كان ببدنه فهو الجبن، وإن كان بماله فهو البخل. فالإحسان المتوقَّع من العبد إما بماله وإما ببدنه، فالبخيل مانع لنفع ماله، والجبان مانع لنفع بدنه.
وضلع الدين وقهر الرجال قرينان وهما مؤلمان للنفس معذبان لها أحدهما قهر بحق وهو ضلع الدين والثاني قهر بباطل وهو غلبة الرجال وأيضا فضلع الدين قهر بسبب من العبد في الغالب وغلبة الرجال قهر بغير اختياره.
والعَجْز والكسل قرينان وهما من أسباب الألم لأنهما يستلزمان فوات المحبوب، فالعجز يستلزم عدم القدرة, والكسل يستلزم عدم إرادته، فتتألم الروح لفواته بحسب تعلقها به والتذاذها بإدراكه لو حصل. ولذا جاء في الحديث الصحيح (( استعن بالله ولا تعجز )). فالعجز والكسل يفوّت على العبد كثيراً من الواجبات من أعمال الصالحات التي ترجع إليه بالنفع في دينه ودنياه وآخرته.
فأصل المعاصي يا عباد الله كُلها من العجزُ، فإن العبدَ يَعجِز عن أسباب أعمالِ الطاعات، وعن الأسباب التي تُبْعِدُه عن المعاصي، وتحول بينه وبينها، فيقعُ في المعاصي، ولذ فإن الذنوب والمعاصي إما تميت القلب ، أو تمرضه مرضا مخوفا ، أو تضعف قوته، وهذا بابه العجزُ والكسل.
والعجزُ عباد الله، يفتحُ عملَ الشيطان، فإنه إذا عَجَزَ عما ينفعُه، صار إلى الأماني الباطِلة بقوله: لو كانَ كذا وكذا، ولو فعلتُ كذا، يُفتح عليه عمل الشيطان، ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم: "فإن لو تفتحُ عمل الشيطان" فالمتمنِّي مِن أعجز الناس وأفلسهم، فإن التمني رأسُ أموال المفاليسِ، والعجزُ مفتاح كُلِّ شر.
والمعاصي والذنوب هي من أقوى الأسباب الجالبة لهذه الثمانية الواردة في هذا الحديث، كما أنها من أقوى الأسباب الجالبة لجهد البلاء ، ودرك الشقاء ، وسوء القضاء ، وشماتة الأعداء ، ومن أقوى الأسباب الجالبة لزوال نعم الله ، وتحول عافيته إلى نقمته وتجلب جميع سخطه .
بارك الله لي ولكم بالقرآن العظيم ، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب ، فإنه هو الغفور الرحيم .
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وإخوانه، وسلم تسليمًا كثيرًا.
أما بعد: فلما كان الشر له سبب هو مصدره وله مورد ومنتهى وكان السبب إما من ذات العبد وإما من خارجه , ومورده ومنتهاه إما نفسه وإما غيره.
كان هنا أربعة أمور : شر مصدره من نفسه، ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى، وشر مصدره من غيره وهو السبب فيه، ويعود على نفسه تارة، وعلى غيره أخرى .
جمع النبي صلى الله عليه وسلم هذه المقامات الأربعة في الدعاء الذي علّمه الصديق رضي الله عنه أن يقوله إذا أصبح وإذا أمسى وإذا أخذ مضجعه: " اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ رَبَّ كُلِّ شَيْءٍ وَمَلِيكَهُ أَشْهَدُ أَنْ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنْتَ أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ نَفْسِي وَشَرِّ الشَّيْطَانِ وَشِرْكِهِ وَأَنْ أَقْتَرِفَ عَلَى نَفْسِي سُوءًا أَوْ أَجُرَّهُ إِلَى مُسْلِمٍ " .
فذكر في هذا الحديث مصدري الشر وهما النفس والشيطان، وذكر مورده ونهايتيه وهما عوده على النفس أو على أخيه المسلم، فجمع الحديث مصادر الشر وموارده في أوجز لفظه وأجمعه وأبينه.
فاللهم فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة رب كل شيء ومليكه نشهد أن لا إله إلا أنت نعوذ بك من شرور أنفسنا ومن شر الشيطان وشركه .
اللهم أعذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا يا رب العالمين .
نعوذ بالله من الهم والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل ومن ضلع الدين وغلبة الرجال.
اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء.
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، وارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا ونسائنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catsmktba-129.html |