إِنْ تَنْصُرُوا اَللهَ يَنْصُرْكُمْ
الْحَمْدُ للهِ الْقَائِلِ: ﴿فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾، نَحْمَدُهُ حَمْدًا يَلِيقُ بِكَرِيمِ وَجْهِهِ ، وَعَظِيمِ سُلْطَانِهِ ، وَنَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ، وَعَدَ بِنَصْرِهِ مَنْ نَصَرَهُ ، وَنَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ، وَمَنْ سَارَ عَلَى نَهْجِهِ وَاقْتَفَى أَثَرَهُ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ - عَزَّ وَجَلَّ - وَصِيَّتُهُ لِعِبَادِهِ ، يَقُولُ جَلَّ جَلَالُهُ : ﴿وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ﴾ ، فَاتَّقُوا اللهَ - عِبَادَ اللهِ - وَاعْلَمُوا - رَحِمَكُمُ اللهُ- بِأَنَّ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ وَعَدَ بِنَصْرِهِ لِمَنْ يَنْصُرُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَقَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ﴾ .
وَكَيْفَ يَنْصُرُ الْمُؤْمِنُونَ اللهَ ؟
يَنْصُرُونَ اللهَ ـ عَزَّ وَجَلَّ ـ بِتَوْحِيْدِهِ ، وَعَدَمِ اَلْاِشْرَاْكِ بِهِ .
يَنْصُرُونَ اللهَ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى دِينِهِوَبِالْعَمَلِ بِهِ وَبِالدَّعْوَةِ إِلَيْهِ وَنَشْرِهِ .
يَنْصُرُونَ اللهَ بِنُصْرَةِ كِتَابِهِ ، بِتَحْكِيمِهِ وَبِالرُّجُوعِ إِلَيْهِ .
يَنْصُرُونَ اللهَ ، بِسَعْيِهِمْ وَجِهَادِهِمْلِتَكُونَ كَلِمَتُهُ هِيَ الْعُلْيَا .
يَنْصُرُونَ اللهَ بِإِقَامَةِ حُدُودِهِ فِي أَرْضِهِ ، وَبِتَحْكِيمِ شَرْعِهِ .
يَنْصُرُونَ اللهَ بِامْتِثَالِ أَوَامِرِهِ وَاجْتِنَابِ نَوَاهِيهِ.
يَنْصُرُونَ اللهَ بِحُكْمِ عِبَادِهِ بِمَا أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَسَلَّمَ .
هَكَذَا هِيَ نُصْرَةُ اللهِ ، فَإِنْ فَعَلُوا ذَلِكَ ، فَهُمْ يَسْتَحِقُّونَ النَّصْرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ ، وَالْجَزَاءُ مِنْ جِنْسِ الْعَمَلِ ، فَمَنْ نَصَرَ اللهَ نَصَرَهُ اللهُ وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ نُصْرَةِ اللهِ فَإِنَّ اللهَ لَا يَنْصُرُهُ ، إِنَّمَا يُسَلِّطُ عَلَيْهِ عَدُوَّهُ ، يَقُولُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى : ﴿ وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ ﴾ وَيَقُولُ سُبْحَانَهُ : ﴿ وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ يَقُولُ ابْنُ كَثِيرٍ : أَيْ هُوَ حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَلَى نَفْسِهِ الْكَرِيمَةِ ، تَكَرُّمًا وَتَفَضُّلًا .
فَنَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ ، حَقٌّ أَوْجَبَهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَفْسِهِ ، وَلَنْ يُخْلِفَ وَعْدَهُ ، وَلَكِنْ مَا هِيَ صِفَات أُولَئِكَ الَّذِينَ يَسْتَحِقُّونَ النَّصْرَ مِنَ اللهِ ؟
اسْمَعُوا صِفَاتَهُمْ مِنْ كِتَابِ اللهِ ؛ يَقُولُ تَعَالَى :﴿الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ﴾ ، يَقُولُ صَاحِبُ أَضْوَاءِ الْبَيَانِ : الَّذِينَ لَا يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ ، وَلَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ، وَلَا يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَا يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، لَيْسَ لَهُمْ وَعْدٌ مِنَ اللهِ بِالنَّصْرِ الْبَتَّةَ . فَمَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الْأَجِيرِ الَّذِي لَمْ يَعْمَلْ لِمُسْتَأْجِرِهِ شَيْئًا ثُمَّ جَاءَهُ يَطْلُبُ مِنْهُ الْأُجْرَةَ . فَالَّذِينَ يَرْتَكِبُونَ جَمِيعَ الْمَعَاصِي ، مِمَّنْ يَتَسَمَّوْنَ بِاسْمِ الْمُسْلِمِينَ ثُمَّ يَقُولُونَ : إِنَّ اللهَ سَيَنْصُرُنَا مَغْرُورُونَ ؛ لِأَنَّهُمْ لَيْسُوا مِنْ حِزْبِ اللهِ الْمَوْعُودِينَ بِنَصْرِهِ كَمَا لَا يَخْفَى .
أَيُّهَا الْإِخْوَةُ :
إِنَّ الِاتِّكَالَ عَلَى الْعَدَدِ وَالْعُدَدِ ، وَالْإِعْجَابَ بِالْكَثْرَةِ ، لَا يُغْنِي شَيْئًا ، يَقُولُ تَعَالَى : ﴿ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ ﴾ .
فَالنَّصْرُ مِنَ اللهِ .. فَالنَّصْرُ مِنَ اللهِ ، يَنْصُرُ مِنْ عِبَادِهِ الْمُسْتَضْعَفِينَ ، وَيَنْصُرُ مِنْ عِبَادِهِ الْأَذِلَّةَ ، الْقَلِيلِينَ بِعَدَدِهِمْ وَعُدَدِهِمْ ، يَقُولُ تَعَالَى : ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ﴾ نَصَرَهُمْ بِبَدْرٍ ، ثَلَاثُمِائَةٍ وَثَلَاثَةَ عَشَرَ رَجُلًا ، عَلَى فَرَسَيْنِ وَسَبْعِينَ بَعِيرًا ، وَعَدُوُّهُمْ قُرَابَةَ الْأَلْفِ ، نِسْبَةً لَا تُقَارَنُ ، وَاحِدٌ إِلَى ثَلَاثَةٍ ! وَلَكِنَّهُ أَيُّ وَاحِدٍ ، إِنَّ الْوَاحِدَ مِنْهُمْ مِنَ الَّذِينَ قَالَ اللهُ فِيهِمْ : ﴿ فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ .
وَفِي غَزْوَةِ مُؤْتَةَ ، كَانَ عَدَدُ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ آلَافٍ ، يُقَابِلُهُمْ مِائَتَا أَلْفٍ مِنَ الرُّومِ وَأَعْوَانِهِمْ ، فَيَقُومُ فِيهِمْ عَبْدُ اللهِ بْنُ رَوَاحَةَ ـ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ ـ خَطِيبًا قَائِلًا : أَيُّهَا النَّاسُ : وَاللهِ إِنَّ الَّتِي تَكْرَهُونَ ، لَلَّتِي خَرَجْتُمْ تَطْلُبُونَ ـ يَعْنِي : الشَّهَادَةَ ـ وَمَا نُقَاتِلُ النَّاسَ بِعَدَدٍ وَلَا قُوَّةٍ وَلَا كَثْرَةٍ ، مَا نُقَاتِلُهُمْ إِلَّا بِهَذَا الدِّينِ الَّذِي أَكْرَمَنَا اللهُ بِهِ ، فَانْطَلِقُوا ، فَإِنَّمَا هِيَ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ : إِمَّا ظُهُورٌ وَإِمَّا شَهَادَةٌ . فَيَنْطَلِقُونَ فَيَنْصُرُهُمُ اللهُ عَلَى عَدُوِّهِمْ .
فَالنَّصْرُ ـ أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - عِنْدَ اللهِ وَمِنَ اللهِ ، فَاللهَ .. اللهَ ، بِالرُّجُوعِ إِلَى اللهِ ، وَنُصْرَتِهِ بِالتَّمَسُّكِ بِكِتَابِهِ ، وَالْعَمَلِ بِشَرْعِهِ ، و ﴿ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾، بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ بِالْقُرْآنِ الْعَظِيمِ ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ ، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ، فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
وَمِنْ وَسَائِلِ وَسُبُلِ النَّصْرِ عَلَى الْأَعْدَاءِ ، بَلْ مِنْ أَهَمِّهَا : الرُّجُوعُ إِلَى اللهِ وَالتَّوْبَةُ إِلَيْهِ ، وَكَمَا قَالَ تَعَالَى : ﴿ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ ﴾ فَعُودُوا إِلَى رَبِّكُمْ أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ، وَالْتَفُّوا حَوْلَ وُلَاةِ أَمْرِكُمْ ، وَارْجِعُوا إِلَى عُلَمَائِكُمْ ، وَاحْذَرُوا الْخَوْضَ فِي الْفِتَنِ وَالتَّعَرُّضَ لَهَا ، وَأَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاللهِ ، وَاحْرِصُوا عَلَى جَمْعِ الْكَلِمَةِ ، وَوَحْدَةِ الصَّفِّ ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى :﴿ وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَلا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ﴾ .
عَلَيْكُمْ بِالدُّعَاءِ يَا عِبَادَ اللهِ ، فَإِنَّ لِلدُّعَاءِ شَأْنًا عَظِيمًا ، اسْأَلُوا اللهَ أَنْ يَحْفَظَ بِلَادَكُمْ وَوُلَاةَ أَمْرِكُمْ وَعُلَمَاءَكُمْ ، وَأَعْرَاضَكُمْ وَدِمَاءَكُمْ ، وَإِخْوَانَكُمُ الْمُسْتَضْعَفِينَ فَإِنَّهُ خَيْرُ مَسْؤُولٍ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ أَنْ تُنَفِّسَ كَرْبَ الْمَكْرُوبِينَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ، وَتُفَرِّجَ هَمَّ الْمَهْمُومِينَ ، وَتَقْضِيَ الدَّيْنَ عَنِ الْمَدِينِينَ ، اللَّهُمَّ مَنْ أَرَادَ أَهْلَ السُّنَّةِ وَالْجَمَاعَةِ بِسُوءٍ ، فَاللَّهُمَّ اشْغَلْهُ بِنَفْسِهِ ، وَاجْعَلْ كَيْدَهُ فِي نَحْرِهِ ، وَتَدْبِيرَهُ سَبَبًا لِتَدْمِيرِهِ يَا قَوِيُّ يَا عَزِيزُ . اللَّهُمَّ آمِنْ رَوْعَاتِنَا ، وَاحْفَظْ عَوْرَاتِنَا ، وَاغْفِرْ زَلَّاتِنَا ، وَارْفَعْ دَرَجَاتِنَا ، وَاجْعَلْنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ .﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾.
عِبَادَ اللهِ : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ، وَاشْكُرُوهُ عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ.