النَّظَرُ إلى أُمُورِ الدنيا، وأُمُورِ الآخِرَةِ، مَعَ التَّذْكِيرِ
بِخصائصِ شهر محرم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ
ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ
أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ،
وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا
عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً
كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ اللهِ: اتَّقُوا اللهَ تعالى،
واعْلَمُوا أَنَّ التَذَكُّرَ والتَفَكُّرَ، مِنْ سِماتِ المؤْمِنِينَ الكُمَّلِ،
أَهْلِ القُلُوبِ الحَيَّةِ النَّيِّرَةِ، لا سِيَّمَ إذا كانَ المؤمِنُ يَرْبِطُ
ما يَرَى ويَسْمَعُ، بِما يَتَعَلَّقُ بِإيمانِهِ وبِالأَمْرِ الذي خُلِقَ مِن
أَجْلِه، وبِما يَكُونُ بَعْدَ المَوْتِ. فإذا رَأى ما يُعْجِبُهُ مِن مُتَعِ
الدُّنْيا، تَذَكَّرَ أَنَّها مَتاعٌ زائِلٌ، وأَنَّ العَيْشَ عَيْشُ الآخِرَةِ.
وإذا رَأى سُرْعَةَ مُرُورِ الأيَّامِ ومَراحِلِ العُمُرِ، تَذَكَّرَ سُرْعَةَ
مُرُورِ الأَيَّامِ وانْقِضاءِ الدُّنْيا. وإذا رَأى الناسَ في الحَرِّ الشَّدِيدِ،
يَتَسارَعُونَ إلى الظِّلِّ والمَكانِ البارِدِ تَذَكَّرَ المَحْشَرَ ودُنُوَّ
الشَّمْسِ مِن العِبادِ، إلا مَنْ يُظِلُّهُمْ اللهُ في ظِلِّهِ يَوْمَ لا ظِلَّ
إلا ظِلُّه.
قال تعالى حاثًّا عِبادَه عَلى التَفَكُّرِ
وعَدَمِ التَطَلُّعِ إلى مُتَعِ الدُّنْيا الفانِيَةِ، والتَنافُسِ عَلَيْها: (
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَىٰ مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ
زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ ۚ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ
وَأَبْقَى ). وقال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَيُّكُمْ مالُ وارِثِهِ
أحَبُّ إلَيْهِ مِن مالِهِ؟ قالوا: يا رَسولَ اللَّهِ، ما مِنَّا أحَدٌ إلَّا
مالُهُ أحَبُّ إلَيْهِ، قالَ: فإنَّ مالَهُ ما قَدَّمَ، ومالُ وارِثِهِ ما
أخَّرَ.( وعن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنها
أنَّهُم ذَبَحُوا شاةً فقال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: ( ما بَقِيَ مِنها؟ )
قالت: ما بَقِي مِنْها إلا كَتِفُها. قال: ( بَقِيَ كُلُّها غَيْرَ كَتِفَها ).
والْمعنى: أَنَّها بَقِيَتْ لَنا في الآخِرة إلا كَتِفَها. وقال رسولُ اللهِ صلى
الله عليه وسلم: ( اشْتَكَتْ النارُ إلى رَبِّها، فقالت: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي
بَعْضًا، فأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ، نَفَسٍ في الشِّتاءِ ونَفَسٍ في الصَّيْفِ،
فَهُوَ أَشَدُّ ما تَرَوْنَ مِن الحَرِّ، وأَشَدُّ ما تَرَوْنَ مِن الزَّمْهَريرِ
). وقال انسٌ رضي الله عنه: ( أُهْدِيَ للنبيِّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ جُبَّةُ
سُنْدُسٍ، وكانَ يَنْهَى عَنِ الحَرِيرِ، فَعَجِبَ النَّاسُ منها، فَقالَ: والذي
نَفْسُ مُحَمَّدٍ بيَدِهِ، لَمَنَادِيلُ سَعْدِ بنِ مُعَاذٍ في الجَنَّةِ أحْسَنُ
مِن هذا ).
والأَدِلَّةُ في هذا البابِ كَثِيرةٌ، تَدُلُّ
عَلى وُجُوبِ التَفَكُّرِ في أَمْرِ الدُّنْيا، وأَنَّها مَتاعٌ زائِلٌ، وأَنَّها
لا تَسْتَحِقُّ أَنْ يَتَفَكَّرَ فيها الإْنْسانُ. وتَحَثُّ العَبْدَ عَلَى أَنْ
لا يَكُونَ بَلِيدَ القَلْبِ، فِيما يَمُرُّ بِهِ مِنْ أَحْداثٍ ومَراحِلَ، وفيما يَحْصُلُ
لَهُ مِن مَواقِفَ، ونِعَمٍ أو ابْتِلاءاتٍ، وإِنَّما يَجْعَلُها تَبْصِرَةً
وَعِظَةً وذِكْرَى.
وإِنَّ مِنْ أَعْظَمِ ما يَنْبَغِي
الاعْتِبارُ بِهِ، الوَباءَ الذي انْشَغَلَ بِهِ العالَمُ بِأَسْرِهِ، وصارَ حديثَ
البُيُوتِ والشارِعِ، والإعْلامِ والْمُفَكِّرين،َ ورجالِ الطِّبِّ والاقْتِصادِ
والسِّياسَةِ. مُنْذُ أَنْ بَدَأَ وحتى هذه الساعة.
هَلْ تَفَكَّرْنا في أَمْرِهِ كَما
يَنْبَغِي. وَرَبَطْنا ذلك في أَمْرِ الآخِرَةِ.
لَوْ أَنَّ كُلَّ مُسْلِمٍ سَأَلَ نَفْسَه:
هَلْ تَوَقَّيْنا النارَ، كَما نَتَوَقَّى هذا الوَباءَ؟ هَلْ تَوَقَّيْنا
الذُنُوبَ كَما تَوَقَّيْنا هذا الوَباءَ؟. هَلْ طَبَّقْنا التَباعُدَ عن جُلَساءِ
السُّوءِ، كَما نُطَبِّقُه مَعَ مَنْ نَشُكُّ بِأَنَّهُ مُصابٌ. وهَلْ سَأَلَ
المُسْلِمُ نَفْسَه: ما الفَرْقُ فِيما لَو مِتُّ وأَنا مُصابٌ بِهذا الوَباءِ.
أَوْ مِتُّ وأَنا مُضَيِّعٌ لِصلاتِي، أَو عاقٌّ لِوالِدَيَّ، أَو آكِلٌ لِلرِّبا؟
ولا يَعْنِي ذلك أَنَّنا نُهْمِلُ
أَنْفُسَنا، ونَتَساهَلُ في أَخْذِ أَسْبابِ السَّلامَةِ، ولَكِنَّ الْمُؤْمِنَ
صاحِبَ القَلْبِ الحَيِّ لابُدَّ وأَنْ يُوجَدَ في قَلْبِهِ مِثْلُ هذه
التَّساؤُلاتِ فَيُحْدِثُ في قَلْبِهِ حَياءً مِن اللهِ، وشُعُورًا بالتَّقْصيرِ.
فالأَخْذُ
بالأَسْبابِ مَعَ التَوَكُّلِ عَلى اللهِ سَبيلُ المُؤْمِنِينَ. والتَّعاوُنُ فيما
بَيْنَنا مِنْ أَجْلِ أَنْ نَعُودَ كَما كُنا، مُتَراصِّينَ في صُفُوفِ الصلاةِ،
ومُتَزاحِمِينَ في حِلَقِ العِلْمِ، وأَنْ يَعُودَ المُعُلِّمُونَ والطُّلَّابُ
إلى مَدَارِسِهِم، لِيَتَلَقَّوا العِلْمَ بِطُرُقِهِ الصَّحِيحَةِ النَّافِعَةِ،
هاجِسٌ لا يَغِيبُ عَنْ قُلُوبِنا. وهذا يَحْصُلُ بَعْدَ تَوْفِيقِ اللهِ، بِالتَّعاوُنِ،
وبَذْلِ أَسْبابِ السلامَةِ والأَخْذِ بالتَدابيرِ والاحْتِرازاتِ التي مِنْها
أَخْذُ اللِّقاحِ، وغَيْرِهِ مِنْ طُرُقِ الوِقايَةِ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي
وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا
تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ
ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْـحـَمْدُ
للهِ ربِّ العَالَمِين، وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين، وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى
الظَّالِمين، وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشهدُ
أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عبادَ الله: نَسْتَقْبِلُ في هذه الأيامِ
شَهْرًا مُعَظَّمًا، مِن الأَشْهُرِ الحُرُمِ، ألا وَهُو شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ،
الذي اختَصَّهُ اللهُ تعالى بِبعضِ الأحكام، وَحَصَلَ له منَ الصحابَةِ رضي الله
عنهم عنايَةٌ بعدَ وفاةِ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم. والتي مِنْها:
أَنَّ النبيَّ صلى اللهُ عليه وسلم أضافه
إلى اللهِ، فسماه: " شهرَ اللهِ المُحَرَّم "، وهذهِ الإضافَةُ تَدُلُّ
على شَرَفِهِ وفَضْلِهِ.
ومِنْها: أنه مِن الأشهُرِ الأَرْبَعَةِ
الحُرُمِ التي حَرَّمَها اللهُ وعَظَّمَها.
ومِنْها: أنَّ صيامَه يأتي في المَرتَبةِ
الثانيةِ بعد صيامِ رمضان، قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( أَفْضَلُ
الصيامِ بَعْدَ رَمَضانَ شَهْرُ اللهِ المُحَرَّمِ، وَأَفْضَلُ الصلاةِ بَعْدَ
الفريضةِ صَلاةُ اللَّيْلِ ). فَصِيامُ هذا الشَّهْرِ كامِلاً مُسْتَحَبٌّ بِنَصِّ
هذا الحديثِ، وصيامُ بعضِهِ كذلك.
ومِنْها: أنَّ في شهرِ اللهِ المُحَرَمِ
ذِكرى جَمِيلَةً، ومُناسَبةً عَظِيمَةً، لَها مَكَانَةٌ في قُلوبِ المؤمنين،
فَهُوَ شَهْرٌ انتَصَرَ فِيهِ الحَقُّ عَلَى الباطِلِ، حَيْثُ أَنْجَى اللهُ
تعالَى موسى عليهِ السلامُ وقَوْمَه، مِنْ فِرعونَ وَقَوْمِهِ، ومَكَّنَ اللهُ
لِعِبادِهِ المؤمنينَ في الأرضِ، وجَعَلَهُم أئِمةً ومُلُوكاً، وجَعَلَ فيهمُ
الأنبياءَ والصالحينَ والمُصلِحين. وكانَ هذا النصرُ في يومِ عاشوراءَ، أفضلُ
أيامِ شهرِ اللهِ المُحَرَّمِ. فكانَ صيامُهُ آكَدَ أيامِ الشهر.
اللهم
اسْتَعْمِلْنا في طاعَتِكَ، وانْصُرْ بِنا دِينَكَ، وأَعْلِ بِنا كَلِمَتَكَ، واجْعَلْنا هُداةً مُهْتَدِين، اللهم خلصنا من
حقوق خلقك، وبارك لنا في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين، اللهم
أصلح قلوبنا وأعمالنا وأحوالنا، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أنزل على
المسلمين رحمة عامة وهداية عامة يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اجمع كلمة المسلمين
على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، اللهم اجعل كلمتهم واحدة ورايتهم
واحدة واجعلهم يداً واحدةً وقوة واحدة على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم
يا قوي يا عزيز، اللهم احفظ بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم احفظ
بلادنا مما يكيد لها، اللهم احفظ لهذه البلاد دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها
وسيادتها، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات ومن هذا البلاء، واجعلها أقوى
مما كنت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح مما كانت، اللهم أصلح أهلها
وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا واحدة على من عداهم يا قوي يا
عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات
إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد.
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|