وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ
الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ
خطبة جمعة بتاريخ / 15-11-1439 هـ
الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد
أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله، وصفيُّه
وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ، ما ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه
، ولا شرًّا إلا حذَّرها منه؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .أما
بعد:
أيها المؤمنون: اتقوا الله ؛
فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه . وتقوى الله جل وعلا:
عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من
الله خيفة عذاب الله .
أيها المؤمنون : الْهداية منَّةٌ إلهية وعطيةٌ ربانية ؛ يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم فضلًا منه ومنًّا ، قال الله تبارك وتعالى:﴿وَلَكِنَّ
اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ
الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَو َالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ
اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾[الحجرات:7-8] .
معاشر المؤمنين : لنتأمل هذا السياق العظيم من سورة الحجرات في بيان شأن
الهداية وأنها بيد الله عز وجل ؛ يهدي من يشاء ، ويحبِّب الإيمان إلى قلوب من شاء ،
ويزيِّنه في قلوب من شاء ، ويكرِّه لقلوب عباده وأوليائه وأصفيائه الكفر والفسوق
والعصيان ، ومن كان شأنه كذلك فهو الراشد ﴿ أُولَئِكَ
هُمُ الرَّاشِدُونَ ﴾.
أيها المؤمنون : إن المعرفة بأن هذه الهداية هبةٌ من الله عز وجل وعطيةٌ
منه جل وعلا ومنَّة تولِّد في العبد أنواعًا من الأعمال التي تستوجبها هذه المعرفة
:
وأول ذلك : حمد الله
جل في علاه وشكره على نعمائه والاعتراف بأن الفضل فضله جل وعلا ؛ ﴿ الْحَمْدُ
لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ
هَدَانَا اللَّهُ﴾ [الأعراف:43] ، كان نبينا
عليه الصلاة والسلام يوم الأحزاب يحمل التراب مع أصحابه -صلى الله عليه وسلم ورضي
عنهم أجمعين- ويقول : ((وَاللهِ لَوْلَا اللهُ مَا اهْتَدَيْنَا، وَلَا صُمْنَا
وَلَا صَلَّيْنَا)) فالفضل فضله ، والمن منُّه جل في علاه .
وثاني هذه الأمور : أن يُقبِل
العبد على الله جل وعلا سبحانه داعيًا سائلًا راجيًا طامعا ؛ فإن الأمر بيد الله
عز وجل ، والهداية منَّته وفضله جل في علاه ، ومن دعاء نبينا عليه الصلاة والسلام
ما جاء في المسند وغيره عن رفاعة الزُّرقي قال : لما كان يوم أحد انكفأ المشركون
فقال النبي عليه الصلاة والسلام : ((اسْتَوُوا حَتَّى أُثْنِيَ عَلَى رَبِّي)) ، ثم
قال: (( اللهُمَّ لَكَ الْحَمْدُ...لَا مُعْطِيَ لِمَا مَنَعْتَ، وَلَا مَانِعَ
لِمَا أَعْطَيْتَ)) إلى أن قال: ((اللهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْإِيمَانَ
وَزَيِّنْهُ فِي قُلُوبِنَا، وَكَرِّهْ إِلَيْنَا الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ
وَالْعِصْيَانَ، وَاجْعَلْنَا مِنَ الرَّاشِدِينَ))؛ وهي دعوة عظيمة جدير بالمسلم
أن تكون من جملة دعائه الذي يدعو الله جل وعلا به ، وكان من أكثر دعاء نبينا عليه
الصلاة والسلام ((يَا مُقَلِّبَ القُلُوبِ ثَبِّتْ قَلْبِي عَلَى دِينِكَ))، ولما
قال له علي رضي الله عنه «علمني دعاء أدعو الله به» قال : ((قُلِ
اللَّهُمَّ اهْدِنِى وَسَدِّدْنِى، وَاذْكُرْ بِالْهُدَى هِدَايَتَكَ الطَّرِيقَ ،
وَالسَّدَادِ سَدَادَ السَّهْمِ)) .
ثالث هذه الأمور أيها
العباد: أن يستشعر العبد ضعفه وقلة حيلته وأنه لا حول له ولا
قوة إلا بالله؛ جاء عن التابعي الجليل مطرف ابن عبد الله بن الشخير رحمه الله
تعالى قال :«لو أُخرج
قلبي فجُعل في يدي هذه اليسار، وجيء بالخير كله وجُعل في يدي اليمين ؛ لم أستطع أن
أجعل شيئا من الخير في قلبي إلا ان يكون الله هو الذي يضعه سبحانه»، فالعبد لا
حول له ولا قوة إلا بالله تبارك وتعالى .
ورابع هذه الأمور أيها المؤمنون: أن هذا
الاستشعار لهذه المنة والعطية يُبعد عن العبد عُجبه وغروره بنفسه ، لأن الإنسان
ربما أصابه عجبٌ بعمله من صيام أو صلاة أو صدقة أو طلب للعلم أو غير ذلك ، فإذا
استحضر هذه المنة كان ذلك أعظم طارد للعجب ومُبعِد له عن النفس ، لأن العبد يستشعر
أن هذه الهداية بتفاصيلها وجميع جوانبها إنما هي محض منَّة الله عليه وفضله جل في
علاه .
خامس هذه الأمور : أن يعمل العبد
مجاهدًا نفسه على نيل هذه الهداية ببذل أسبابها ، قال الله جل وعلا : ﴿ وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ
الْمُحْسِنِينَ﴾ [العنكبوت:69]، فالمقام
مقامٌ يتطلب من العبد مجاهدةً للنفس وأخذًا بأسباب الهداية ،كما قال عليه الصلاة
والسلام : ((احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ)) ، وليحذر من
مسالك طرق الزيغ والضلال وأبواب الفتن والشر ، ولينأى بنفسه عنها وليبتعد عن
مسالكها ؛ حفظًا لإيمانه وطلبًا لهداية قلبه ، والله جل وعلا يقول: ﴿ فَلَمَّا
زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ﴾ [الصف:5].
نسأل الله جل في علاه أن
يحفظ قلوبنا أجمعين ،وأن يحبِّب إلينا الإيمان ، وأن يزيِّنه في قلوبنا ، وأن
يجعلنا هداة مهتدين ، وأن يجعلنا أجمعين من الراشدين ، منًّا منه وفضلا .
أقول هذا القول وأستغفر الله
لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله
إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه
وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد:
أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى، وراقبوه في أعمالكم وجميع
حركاتكم وسكناتكم ؛ مراقبة من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه.
أيها المؤمنون: ذُكر في
الأخبار أنَّ هذه الليلة القادمة ليلة السبت سيكون في أول الليل منها خسوف للقمر ،
والخسوف آية من آيات الله العظيمة الباهرة ، وقد قال الله تعالى: ﴿ وَمَا
نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا﴾ [الإسراء:59]
، وقد يتساءل بعض الناس حول هذه الأخبار ومدى مصداقيتها والاعتماد عليها ، وفي
هذا الباب أنقل إلى مسامعكم فتوى عظيمة جدًا لمشايخنا
الكرام في اللجنة الدائمة للإفتاء ، قالوا حفظهم الله ورحم من مات منهم وجزاهم عنا
وعن المسلمين خير الجزاء: «قد يُعرف وقت خسوف القمر وكسوف
الشمس عن طريق حساب سير الكواكب ، ويُعرف به كذلك كون ذلك كُليا أو جزئيا ، ولا
غرابة في ذلك؛ لأنه ليس من الأمور الغيبية بالنسبة لكل أحد، بل غيبٌ بالنسبة لمن
لا يعرف علم حساب سير الكواكب ، وليس بغيبي بالنسبة لمن يعرف ذلك ، لكونه يستطيع
أن يُعرف بسبب عادي وهو هذا العلم، ولا ينافي ذلك كون الكسوف أو الخسوف آيةً من
آيات الله تعالى التي يخوِّف بها عباده ليرجعوا إلى ربهم ويستقيموا على طاعته ، لكن
لا يجوز تصديقهم ولا العمل بقولهم؛ لأنهم قد يخطئون، وإنما العمدة على رؤية الكسوف
، لقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا
ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله يرسلهما يخوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم
ذلك فصلُّوا وادعوا حتى يُكشف ما بكم)) ». انتهى ما جاء في هذه الفتوى .
واعلموا -عباد الله-أنَّ أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهُدى هُدى محمد صَلَّى
اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، وشرُّ الأمور محدثاتها ، وكلَّ محدثةٍ بدعة ، وكلَّ
بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم
الله- علىمحمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ
صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ على
محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌمجيد ، وبارك
على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.وارضَ
اللَّهم عن الخلفاء الراشدين ؛ أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة
أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنـِّك
وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام
والمسلمين ، اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة
نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل
مكان ، اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم وانصر
إخواننا المرابطين في حدود البلاد وأيِّدهم بتأييدك واجزهم عنا وعن المسلمين خير
الجزاء .اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ،واجعل عمله في رضاك ، وأعنه على طاعتك يا حي
يا قيوم ، اللهم وفقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكها أنت خير من زكاها، أنت
وليها ومولاها. اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزينه في قلوبنا ،وكرِّه إلينا الكفر
والفسوق والعصيان واجعلنا من الراشدين. اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة
والغنى ، اللهم اهدنا فيمن هديت ، اللهم اهدنا وسددنا ، اللهم اهدنا إليك صراطًا
مستقيما . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ،
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم
، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّه
ُيَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ﴾
[العنكبوت:45].
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |