الفِرَارُ إِلَى الله
خطبة جمعة بتاريخ / 15-10-1439 هـ
الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له ، ومن
يضلِل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبدُه ورسوله، وصفيُّه وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛
فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون
: اتقوا الله تعالى، وراقبوه في سركم وعلانيتكم مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه
ويراه ، ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ
اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69) يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ
لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ
وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:70-71] .
أيها المؤمنون : عبوديةٌ عظيم شأنها ، جليلٌ أمرها ، كبيرٌ
خطبها ، جديرٌ بكل مسلم أن تعظم عنايته بها ، ففيها بَرُّ الأمان ، وسبيل النجاة ،
وتحقق السعادة في الدنيا والآخرة ؛ إنها -يا معاشر العباد- عبودية الفرار إلى الله
جل في علاه ، كما قال الله تبارك وتعالى في سورة الذاريات: ﴿فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ
مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) ﴾ ، ما أعظم شأن هذه العبودية ، وما
أعظم عوائدها وفوائدها على الفارين إلى الله .
أيها المؤمنون: والناس في هذا الباب على قسمين:
سعداء وأشقياء ؛ فأما السعداء فهم الفارون إلى الله، طالبون بفرارهم إليه سعادتهم
وفوزهم وفلاحهم في الدنيا والآخرة . وأما الأشقياء فهم الفارون من الله لا إلى
الله ، وهذا سبيل شقاء وهلاك في الدنيا والآخرة .
أيها المؤمنون : الفرار إلى لله جل وعلا يحتاج إلى
مهروب منه وإلى مهروب إليه ، وفي الآية ذكر للمهروب إليه جل في علاه ﴿ فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ﴾ ، ولم يُذكر
فيها المهروب منه وذلك ليتناول كل قاطعٍ وعائق وحائلٍ بين العبد وبين الفرار إلى
الله والوصول إلى رضاه جل في علاه .
أيها المؤمنون : وهذا الفرار إلى الله عز وجل يتطلب
من الفار إلى الله أمورًا ثلاثة؛ يحققها علما وعملا :
الأمر الأول : معرفة من يفر إليه ؛ وهو الله العظيم
جل في علاه معرفةً بأسمائه وصفاته ، وعظمته ، وجلاله ، وكماله، وعظيم اقتداره جل
في علاه ، وشدة بطشه وانتقامه سبحانه وتعالى ، وكلما عظُمت معرفة العبد بالله
ازداد فراره إليه جل في علاه ، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا
يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ﴾
[فاطر:28] ، فمن كان
بالله أعرف كان منه أخوف ولعبادته أطلب وعن معصيته أبعد .
والأمر الثاني عباد الله : معرفة الطريق التي يسلكها
الفار إلى الله جل وعلا ؛ وهي لزوم طاعته سبحانه ، ولهذا جاء عن ابن عباس رضي الله
عنهما في معنى قوله تعالى: ﴿ فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ﴾، قال : «فروا
من الله إلى الله بلزوم طاعته» ، فالطريق التي يسلكها الفار إلى الله أن يلزم صراط
الله المستقيم ، وأن لا يحيد عنه ولا ينحرف بل يمضي على استقامة الصراط والطريق
الموصل إلى الله جل وعلا بفعل الأوامر واجتناب المناهي طلبًا لرضا الله عز وجل
وحرصًا على الظفر بعظيم موعوده جل في علاه .
والأمر الثالث عباد الله : معرفة مآل هذه الطريق وما
توصل إليه ؛ وهو الفوز بجنة الله ورضوانه جل في علاه، فالفرار إلى الله عز وجل
نجاةٌ من السخط وفوزٌ بالرضوان . الفارون إلى الله عز وجل هم الذين يُزحزحون يوم
القيامة عن النار ويُدخلون الجنة دار الأبرار ﴿فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ
الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ﴾
[آل
عمران:185] .
وقد جُمعت هذه الأمور الثلاثة في قول الله جل وعلا: ﴿ وَمَنْ
أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ
سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا﴾ [الإسراء:19] .
أيها المؤمنون: وجاء الأمر في هذه الآية بطاعة الله
عز وجل ولزوم عبادته بهذه الصيغة﴿ فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ﴾ ؛ تنبيهًا
للعباد إلى أن الأمر إذا لم يكن فيه فرار إلى الله فإن المرء على خطر عظيم وهلاك
متحتِّم ، وهو مقامٌ يتطلب من العبد عدم التواني والتقاعس والتكاسل والتباطؤ ، بل
هو يتطلب مسارعةً، ﴿ فَفِرُّوا﴾ أي مسرعين إلى
الله عز وجل، وقد قال الله: ﴿ وَسَارِعُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [آل عمران:133] ، وقال: ﴿ سَابِقُوا
إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ﴾ [الحديد:21] فالمقام لا
يحتمل التواني والتباطؤ والتسويف وإنما يتطلب مسارعةً كما هو واضح في قوله: ﴿ فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ﴾ .
ومن أعظم ما يعين على هذا الفرار إلى الله عز وجل: أن
تتأمل الآيات التي تسبق هذه الآية في سورة الذاريات؛ حيث ذكر جل وعلا قبلها ما أحلَّه
بالفارين من الله من أنواع المثلات وصنوف العقوبات ، وما ذكره قبلها أيضا من آياته
العظيمة ومخلوقاته الجسيمة الدالة على عظمته وكمال اقتداره ؛ فختمها بقوله: ﴿ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا
إِلَى اللَّهِ﴾ .
نسأل الله عز وجل
بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يرزقنا أجمعين حُسن الفرار إليه ، وأن يوفقنا
لسلوك سبيله الذي يرضيه ، وأن يعيذنا من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا؛ إنه تبارك
وتعالى سميعٌ قريبٌ مجيب .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن
محمداً عبدُه ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمّا بعد
أيها المؤمنون : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : إنَّ الفرار إلى
الله عز وجل أمٌر يتجدد مع المؤمن بتجدد الليالي والأيام ؛ فإن الفتن تلاحقه ، والصوارف
والصواد تطارده ، والشيطان من جهته قاعد له بالمرصاد ، وهناك نفس أمارة بالسوء ، وهناك
أبوابٌ على كل باب منها شيطان يدعو إليه ؛ فالمقام مقامٌ عظيم جدا يحتاج من العبد
المؤمن صادق الإيمان أن يحسن الفرار إلى الله الرحمن ، طالبًا بفراره إلى الله عز
وجل أن يخرج من هذه الحياة الدنيا وقد نجا من سخط الله عز وجل وفاز برضوانه جل في
علاه .
هذا التجدد في الفرار إلى
الله عز وجل هو تجددٌ في الإيمان وحسن الصلة بالله جل في علاه ، وتأملوا في هذا
المقام «مقام الفرار
إلى الله عز وجل» هذا الحديث العظيم العجيب وهو في الصحيحين ؛ عن البراء بن عازب رضي الله
عنه قال : قَالَ لِي رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : ((إِذَا
أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وَضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى
شِقِّكَ الْأَيْمَنِ وَقُلِ : «اللَّهُمَّ أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ ، وَوَجَّهْتُ وَجْهِي إِلَيْكَ ، وَفَوَّضْتُ
أَمْرِي إِلَيْكَ ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ
، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، آمَنْتُ بِكِتَابِكَ
الَّذِي أَنْزَلْتَ وَبِنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ» وَاجْعَلْهُنَّ مِنْ آخِرِ
كَلاَمِكَ ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ مُتَّ وَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ )) .
تأمل قوله صلى الله عليه
وسلم في هذا الدعاء العظيم «لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَا مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ» ؛ لتعلم يقينًا يتكرر معك
هذا العلم كل ليلة عندما تؤوي إلى فراشك مجدِّدًا بذلك إيمانك أن لا مفرَّ لك من
الله إلا إلى الله ، فإن كل شيء تخافه تفر منه إلا الله عز شأنه وجلَّ أمره سبحانه
؛ فإن من عظُم خوفه من الله فر إلى الله عز وجل ، لأنه لا ملجأ من الله إلا إليه .
هذا وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله
بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال عليه
الصلاة والسلام: ((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين؛ أبي بكر وعمر وعثمان
وعلي ، وارض اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم
الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم
أعزَّ الإسلام والمسلمين . اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل مكان يا حي يا
قيوم ، وانصر يا ربنا جنودنا المرابطين على حدود البلاد، واجزهم عنا خير الجزاء يا
حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام . اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة
أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق
ولي أمرنا لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وفِّقه وولي
عهده يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، زكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها . اللهم
إنا نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم
وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . ربنا إنا
ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين . ربنا آتنا في الدنيا
حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
سبحان ربك
رب العزة عما يصفون ، وسلام على المرسلين ، والحمد لله رب العالمين .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |