(( إني جاعلك للناس إماماً
))
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ ﴾ . أما بعد ..
فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد رسول الله
صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها الناس:
إقبالُ الْموسم العظيم حج بيت الله الكريم يذكرنا برجل عظيم
من عظماء التاريخ, وإمام هدى من أئمة الدنيا في الدين، جعله الله إماماً لنا وللناس
أجمعين, إنه إمام الأئمة إبراهيم، خليل رب العالمين، عليه وعلى نبينا أفض الصلاة وأتم
التسليم، ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي
وَفَّى﴾ وفِّى بجميع الشرائع
والمواثيق بينه وبين الله ، إنه إبراهيم الذي ابتلاه الله بالتكليفات الثقيلة
فأتمهن كلَّهن ﴿ وَإِذِ ابْتَلَىٰ
إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾.
إنه الإمامُ الأُمَّةُ، اجتمعت فيه خصال جماعة : ﴿ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ
أُمَّةً قَانِتًا لِّلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ .
إنه خليل الرحمن, لم ينل درجة خلة الرحمن غيرُه ونبيُّنا
محمدٌ صلى الله عليه وسلم، إنه إمام الحنفاء, وأبو المرسلين والأنبياء, جعل الله
في ذريته النبوة والكتاب، إنه الصِّدِّيق في الأنبياء، إنه الذي جاء ربه بقلب سليم
من والأدواء .
﴿ اجْتَبَاهُ ﴾ ربه ﴿ وَهَدَاهُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
﴾، وبارك عليه وعلى أهل
بيته، وجعل له لسان صدق في الآخرين، تَذْكُرُهُ جميعُ الأمم وتتولاه، وها نحن
المسلمين، هذا كتاب ربنا ذكر اسم إبراهيم اثنين وستين مرة، وهذه صلاتنا
الإبراهيمية نذكر فيها إبراهيم مع ذكر نبينا خاتم المرسلين في كل حين .
إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام، شرفه ربه برفع قواعد
الكعبة أولِ بيت عبادة وُضِعَ في الأرض . وأمره الله أن يؤذن في الناس بالحج لهذا
البيت العتيق , فأذَّن إبراهيم, وبلَّغ الله أذانه جميع الناس، فهذه ملايين البشر
تسمع بآذان قلوبها هذا النداء فتشتاق لحجه ومشاهدته .
أيها
المسلمون :
كل ما قص الله علينا من نبأ إبراهيم في القرآن مما كان عليه
في التوحيد والأصول والعقائد والسيرة والأخلاق، فإن إبراهيم قدوة لنا فيه كله ، وإتباعنا
إياه فيه من ديننا ﴿ إِنِّي جَاعِلُكَ
لِلنَّاسِ إِمَامًا ﴾ .
لذا أكثر الله في القرآن ذكر إبراهيم عليه السلام ومواقفه
وخصاله لنقتدي به فيها .
فأين نحن يا عباد الله من صفات إبراهيم الخليل عليه السلام،
المبثوثة في الكتاب المبين، إن على كل مؤمن قارئ للقرآن أن يعتني بالآيات التي
ذكرت سيرة إبراهيم وصفاته ويتفهم معانيها، ليقتديَ ويأتم .
عباد
الله :
إن الصفة الأجل والخصلة الأعظم التي اتصف بها إبراهيم فصيرته
إماماً للناس، وأثنى الله عليه بها كثيراً:
تحقيقَه للتوحيد, وحنيفيتَه، وإقبالَه على الله بالإخلاص
والتوحيد، وإعراضَه عما سواه وبراءته من الشرك والمشركين .
لقد أُمِرَ نبيُّنا صلى الله عليه وسلم أمراً خاصاً باتباع
ملة إبراهيم الحنيفية: ﴿ ثُمَّ أَوْحَيْنَا
إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ وأُمِرنا نحن المسلمين
أمراً مستقلاً: ﴿ قُلْ صَدَقَ اللَّهُ
فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾، وجعل الله أحسن
الناس دينا دين من اتبع هذه الملة : ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا
مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾، وأمرنا في كل صباح
ومساء أن نقول: (أَصْبَحْنَا عَلَى فِطْرَةِ الْإِسْلَامِ وَكَلِمَةِ
الْإِخْلَاصِ، وَدِينِ نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَمِلَّةِ أَبِينَا
إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا مُسْلِمًا، وَمَا كاَنَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ)
فما أحوج كثير من المسلمين اليوم لفهم الحنيفية الإبراهيمية
التي أمروا باتباعها، فهي أصل الدين القويم وأساسة، وما خُلِقَ الخلق ولا أُمِرُوا
إلا بها وبمحققاتها ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا
لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ
وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ ﴾.
ومن تمام حنيفية إبراهيم إعلانُه الظاهر البين للبراءة من الشرك
والمشركين، حتى من والده الذي أصر على الشرك: ﴿ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ
عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ ﴾، فجعل الله إبراهيم قدوة
لنا في هذه البراءة: ﴿ قَدْ كَانَتْ لَكُمْ
أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ
إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ
وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ
تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ ﴾
هذا هو مقتضى التوحيد
وركنه العظيم : (الكفر بالطاغوت) والبراءة من الشرك والمشركين، ﴿ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللَّهِ
فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىٰ لَا انفِصَامَ لَهَا ﴾ .
فإن كنت موحداً حنيفياً
فيجب أن تتبرأ من المشاهد والأسياد والأضرحة والقباب التي تعبد من دون الله رب
الأرباب .
لقد حقق إبراهيم
التوحيد، وعاش له وعليه ، فمن أجل التوحيد ناظر قومه, واعتزلهم, ومن أجله هاجر
وصابر, ومن أجله كسَّر الأصنام, وفي سبيله أُلْقِيَ في النار .
اللهم إنا نسألك الإقبال عليك والإعراض عما سواك وصلى الله
وسلم وبارك على نبينا محمد .
الخطبة
الثانية
الحمد لله وكفى وصلاة وسلاماً على عبده الذي اصطفى، وعلى
آله وأصحابه وعلى كل من اقتفى ... أما بعد:
أيها
المسلمون: حنيفية
إبراهيم وإخلاص دينه لله، أثمرت له ثمرات جليلة من الخلال:
ــ
أثمرت له قوة
الإيمان واليقين ﴿ وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ
مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ ، وتاق للوصول إلى درجة
الطمأنينة وعين اليقين، فسأل الله، فأراه الله كيف يحيي الموتى عيانا .
فإبراهيم عليه الصلاة والسلام قدوة لنا في طلب قوة الإيمان
والوصول لمرتبة اليقين، ومن أقوى أسباب ذلك التفكر في ملكوت السموات والأرض كما
كان إبراهيم .
ــ
وحنيفية إبراهيم وسلامة قلبه من الشرك، أثمرت له تعلق قلبه بالله وعظيم توكله
عليه، وتفويض الأمر إليه بأكمل الصور .
فها هو إبراهيم عليه الصلاة والسلام لما أُلْقِيَ في النار رفض
العون من جبريل رغم قدرته وقوته على ذلك، قال جبريل: يا إبراهيم، ألك حاجة ؟ قال:
أما إليك فلا . وطلب الكفاية من الله الحسيب وحده فقال: ﴿حسبي الله ونعم
الوكيل ﴾ فجاءت النصرة من النصير الحسيب الكافي جل
جلاله: ﴿ قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي
بَرْدًا وَسَلامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ ﴾ فخرج إبراهيم من
النار أمام قومه يمشي لم يُصب بسوء ... فلما رآه أبوه خرج من النار سالماً قال:
(نعم الرب ربك يا إبراهيم) .
ــ ومن
عجيب ما كلف به إبراهيم وظهر فيه توكله على الله، أن الله أمره أن يضع
زوجته هاجر وابنه الرضيع الوحيد إسماعيل بوادٍ ليس فيه ماء ولا زروع, ولا أنيس من
البشر, وسط جبال موحشة, وأرض قفر وحر، فأجاب إبراهيم وأطاع واستجاب متوكلاً على
الكريم الوهاب, وولَّى عنهما وهو يقول: ﴿ رَبَّنَا إِنِّي
أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا
الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ
مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ﴾ ، فقالت له زوجته المؤمنة
الموقنة هاجر: أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي، الذي ليس فيه إنس ولا شيء ؟ قالت له
ذلك مراراً، وجعل لا يلتفت إليها . فقالت: آلله أمرك بهذا ؟ فقال: نعم . فقالت
المتوكلة : إذن لا يضيعنا . فمضى وتركهما .
فجاءت الكفاية من الحسيب الكافي الكفيل, فأنبع بئر زمزم من
تحت أقدام الصبي إسماعيل، في تلك البقعة التي لا يعرف فيها الماء، واجتمعت حولهما أقوام
من العرب حتى أصبح بلداً عامراً آمناً، بل أصبح أم المدن والقرى يُجبَى إليه ثمرات
كل شيء .
وهذا بئر زمزم إلى يومنا هذا شاهد على هذا الحدث العظيم .
فيا
عباد الله في زمن تعلقت فيه القلوب
بالأسباب الْمادية، ما أحوجنا إلى تقوية توكلنا على الله علام الغيوب، في طلب أرزاقنا،
وحال تداوينا من أمراضنا، وفي حلنا وترحالنا، وفي جميع أحوالنا، ولنوقن بأنه من
يتوكل على الله فهو حسبه, أي: كافيه .
وبعد
عباد الله وأنتم
تقرؤون الكتاب, تلمسوا صفات ومقامات هذا الإمام الأواب. فإن الإقتداء به فيها هو
دين القيمة الذي يريده الله من عباده أولي الألباب .
وسأتحدث إن شاء الله عن صفات أخرى للإمام إبراهيم عليه
السلام، مبثوثة في القرآن وسنة النبي عليه الصلاة والسلام للقدوة والائتمام .
أصبحنا وأمسينا على فطرة الإسلام، وكلمة الإخلاص، ودين
نبينا محمد، وملة أبينا إبراهيم حنيفاً مسلماً وما كان من المشركين، اللهم ارزقنا
التوحيد الخالص، اللهم كمّل التوحيد في قلوبنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة واجعلنا
في الآخرة من الصالحين، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين،
واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين،
اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا على دينك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى،
اللهم أحينا على الإسلام والسنة وتوفنا عليها وأنت راضِ عنّا يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من
زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك
المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك، ونحن
غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم
وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً
على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد
المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا متين .
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في
قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك
أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء
منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر
الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|