مواعظ نبوية (2)
((آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ))
17/5/1437هـ
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
عباد الله: لقد أوتي نبينا صلى الله عليه وسلم جوامع الكلم وفواتحه وخواتمه ، وجعل الله لقوله أثراً بالغاً على القلوب المؤمنة الحية ، ففي حديثه غنية لنا عن كثير من المواعظ .
وهذا حديث صحيح من أحاديثه صلى الله عليه وسلم الجياد أخرجه الإمام أحمد والترمذي وأبو يعلى وابن خزيمة وابن حبان وصححاه وصححه الترمذي والألباني والوادعي ، ابن باز رحمهم الله جميعاً ، وقال ابن باز رحمه الله عنه : ( هذا حديث جيد عظيم جدا ، جيد الإسناد جيد المعنى )
فاستمعوا عباد الله بآذان واعية وقلوب حية حاضرة :
عَنِ الْحَارِثِ الْأَشْعَرِيِّ رضي الله عنه ، أَنَّ نَبِيَّ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( إِنَّ اللهَ أَمَرَ يَحْيَى بْنَ زَكَرِيَّا بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ: أَنْ يَعْمَلَ بِهِنَّ ، وَأَنْ يَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَكَادَ أَنْ يُبْطِئَ ، فَقَالَ لَهُ عِيسَى عليه السلام: إِنَّكَ قَدْ أُمِرْتَ بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، أَنْ تَعْمَلَ بِهِنَّ ، وَأَنْ تَأْمُرَ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنْ يَعْمَلُوا بِهِنَّ ، فَإِمَّا أَنْ تُبَلِّغَهُنَّ ، وَإِمَّا أُبَلِّغَهُنَّ ، فَقَالَ لَهُ : يَا أَخِي ، إِنِّي أَخْشَى إِنْ سَبَقْتَنِي أَنْ أُعَذَّبَ أَوْ يُخْسَفَ بِي، قَالَ : فَجَمَعَ يَحْيَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي بَيْتِ الْمَقْدِسِ ، فاجتمعوا حَتَّى امْتَلَأَ الْمَسْجِدُ ، وَقَعَدَ الناسُ عَلَى الشُّرَفِ ، فَحَمِدَ اللهَ وَأَثْنَى عَلَيْهِ ثُمَّ قَالَ :
إِنَّ اللهَ أَمَرَنِي بِخَمْسِ كَلِمَاتٍ ، أَنْ أَعْمَلَ بِهِنَّ وَآمُرَكُمْ أَنْ تَعْمَلُوا بِهِنَّ :
ـ أَوَّلُهُنَّ : أَنْ تَعْبُدُوا اللهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ مَثَلُ رَجُلٍ اشْتَرَى عَبْدًا مِنْ خَالِصِ مَالِهِ بِوَرِقٍ ، أَوْ ذَهَبٍ ، فَجَعَلَ يَعْمَلُ وَيُؤَدِّي عَمَلَهُ إِلَى غَيْرِ سَيِّدِهِ ، فَأَيُّكُمْ يَسُرُّهُ ، أَنْ يَكُونَ عَبْدُهُ كَذَلِكَ، وَإِنَّ اللهَ خَلَقَكُمْ وَرَزَقَكُمْ، فَاعْبُدُوهُ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا .
ـ وَأَمَرَكُمْ بِالصَّلَاةِ ، فَإِنَّ اللهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ مَا لَمْ يَلْتَفِتْ ، فَإِذَا صَلَّيْتُمْ فَلَا تَلْتَفِتُوا .
ـ وَأَمَرَكُمْ بِالصِّيَامِ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ مَعَهُ صُرَّةٌ مِنْ مِسْكٍ فِي عِصَابَةٍ، كُلُّهُمْ يَجِدُ رِيحَ الْمِسْكِ ، وَإِنَّ خُلُوفَ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِنْدَ اللهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ .
ـ وَأَمَرَكُمْ بِالصَّدَقَةِ ، فَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ أَسَرَهُ الْعَدُوُّ ، فَشَدُّوا يَدَيْهِ إِلَى عُنُقِهِ ، وَقَرَّبُوهُ لِيَضْرِبُوا عُنُقَهُ ، فَقَالَ : هَلْ لَكُمْ أَنْ أَفْتَدِيَ نَفْسِي مِنْكُمْ ، فَجَعَلَ يَفْتَدِي نَفْسَهُ مِنْهُمْ بِالْقَلِيلِ وَالْكَثِيرِ ، حَتَّى فَكَّ نَفْسَهُ .
ـ وَأَمَرَكُمْ بِذِكْرِ اللهِ كَثِيرًا، وَإِنَّ مَثَلَ ذَلِكَ كَمَثَلِ رَجُلٍ طَلَبَهُ الْعَدُوُّ سِرَاعًا فِي أَثَرِهِ، فَأَتَى حِصْنًا حَصِينًا ، فَتَحَصَّنَ فِيهِ، وَإِنَّ الْعَبْدَ أَحْصَنَ مَا يَكُونُ مِنَ الشَّيْطَانِ إِذَا كَانَ فِي ذِكْرِ اللهِ )).
فهذه خمس يحيى بن زكريا عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام :
ـ أمرهم بالتوحيد ونهاهم عن الشرك وضرب لهم مثلا للمشرك .
ـ وأمرهم بالصلاة وأخبرهم أن الملك العظيم جل جلاله يقابل العبد بوجهه الكريم إذا هو قام يصلي ، وهذا تشريف لمقام العبد في الصلاة فحقيق بالمصلي أن يخشع قلبه وتسكن جوارحه عند أثناء هذا اللقاء الشريف .
ـ وأمرهم بالصيام وضرب لهم مثلا لخلوف فم الصائم بمن يحمل طيباً طيِّباً فواحا ًمسكاً .
ـ وأمرهم بالصدقة وضرب لها مثلا للمتصدق بمن افتدى نفسه من القتل بماله .
ـ وأمرهم بذكر الله كثيراً ، وضرب لهم مثلاً للذاكر بالمتحصن بحصن حصين من أعدائه .
وهذه الخمس نحن أيضاً مأمورون بها لأنها قد نقلها لنا نبينا صلى الله عليه وسلم على سبيل الإقرار ، وقد أُمرنا بها بنصوص كثيرة في الكتاب والسنة الصحيحة فهي أركان في إسلامنا .
فاللهم احفظ علينا ديننا وبارك لنا في أعمارنا . باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ الدَّائمِ توفيقُه, المتواترِ عطاؤُه وتسديدُه, وأشهدُ أنْ لا إلهَ إلاَّ الله وحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ تَعظِيماً لشأنه، وَأَشْهَدُ أنَّ مُحمّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُهُ الدَّاعِي لِرِضْوَانِهِ، وَالْهَادِي إِلَى إِحْسَانِهِ، صَلّى اللهُ عَلْيِهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَسلّمَ تَسْلِيماً كَثِيْراً إِلَى يِوْمِ لِقَائِهِ . أما بعد:
عباد الله : ثم يكمل رسول الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الحديث فيقول :
(( وأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ ))
ماذا تظنون يا عباد الله أن يأمرنا الله عز وجل به مقابل هذه الخمس العظام التي أمر بها بني إسرائيل ؟
قال عليه الصلاة والسلام: (( وأَنَا آمُرُكُمْ بِخَمْسٍ اللهُ أَمَرَنِي بِهِنَّ : آمركم بِالْجَمَاعَةِ ، وَالسَّمْعِ ، وَالطَّاعَةِ ، وَالْهِجْرَةِ ، وَالْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللهِ ))
فهذه الخمس جعلت مقابل تلك الخمس العظام ، وذلك للإشعار ببالغ أهميتها في شريعة الإسلام ، فهي عنوان لقوة المسلمين وتمسكهم بإسلامهم ، فهي كما جاء على لسان جمع من أئمة أهل السنة ويروى عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنهم قالوا : ( لَا إِسْلَامَ إِلَّا بِجَمَاعَةٍ وَلَا جَمَاعَةَ إِلَّا بِإِمَارَةٍ وَلَا إِمَارَةَ إِلَّا بِطَاعَةٍ ) ، لا دين إلا بجماعة ، ولا جماعة إلا بإمامة ، ولا إمامة إلا بسمع وطاعة .
ثم ينفر صلى الله عليه وسلم من مفارقة الجماعة فيقول مكملاً الحديث : (( فَإِنَّهُ مَنْ خَرَجَ مِنَ الْجَمَاعَةِ قِيدَ شِبْرٍ ، فَقَدْ خَلَعَ رِبْقَة الْإِسْلَامِ مِنْ عُنُقِهِ ، إِلَّا أَنْ يَرْجِعَ )) والرِبْقَة ما يُجعل في عنق الدابة كالطوق يمسكها لئلا تشرد ، فيكون المعنى: من خرج عن طاعة الجماعة وفارقهم في الأمر المجمع عليه فقد ضل وهلك وكان كالدابة إذا خلعت الربقة التي هي محفوظة بها فإنها لا يؤمن عليها عند ذلك الهلاك والضياع .
ثم يكمل صلى الله عليه وسلم فيقول :
(( وَمَنْ دَعَا بِدَعْوَى الْجَاهِلِيَّةِ فَهُوَ مِنْ جُثَا جَهَنَّمَ ، قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ ، وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ؟ قَالَ: " وَإِنْ صَامَ وَصَلَّى ، وَزَعَمَ أَنَّهُ مُسْلِمٌ ، فَادْعُوا الْمُسْلِمِينَ بِمَا سَمَّاهُمُ اللهُ : الْمُسْلِمِينَ الْمُؤْمِنِينَ عِبَادَ اللهِ )) .
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: "كل ما خرج عن دعوى الإسلام والقرآن من نسب أو بلد أو جنس أو مذهب أو طريقة فهو من عزاء الجاهلية ، بل لما اختصم مهاجري وأنصاري فقال المهاجري : يا للمهاجرين وقال الأنصاري : يا للأنصار ، قال صلى الله عليه وسلم : أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهركم؟ وغضب لذلك غضبا شديداً" . انتهى كلامه .
فلا يتداعى المسلمون إلا بما سماهم الله وأذن لهم به من الأسماء ، حتى لا يفترق الناس بسبب هذه التسميات .
اللهم احفظنا بالإسلام قائمين، واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين، ولا تشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم يا مقلب القلوب ثبتنا على دينك، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفاف والغنى، اللهم أحينا على الإسلام والسنة وتوفنا عليها وأنت راضِ عنّا يا رب العالمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك وتحول عافيتك وفجاءة نقمتك وجميع سخطك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك، ونحن غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم آمنا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام واجزهم خيراً على ما يقدمونه لخدمة الإسلام والمسلمين يا رب العالمين .
اللهم ادفع عن بلادنا مضلات الفتن ، اللهم من أراد بلادنا وبلاد المسلمين بسوء وفتنة فاجعل كيده في نحره يا قوي يا متين .
اللهم انصر جُندنا المرابطين، اللهم سدد رميهم واربط على قلوبهم وثبت أقدامهم وأنزل عليهم النصر من عندك يا قوي يا متين، اللهم من مات منهم فتقبله في الشهداء يا رب العالمين ، ومن أصيب فألبسه ثياب الصحة والعافية يا لطيف يا رحيم يا كريم.
اللهم يا ذا الجلال والإكرام يا حي يا قيوم أعز السنة وأهلها في كل مكان اللهم قو أهل السنة وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً وظهيراً . اللهم كن لهم ولا تكن عليهم وأعنهم ولا تعن عليهم وامكر لهم ولا تمكر عليهم . اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم احقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم يا أرحم الراحمين
اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق يا قوي يا متين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |