((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ
يَشْفِيِن))
10 - 06 - 1440هـ
الحمد لله الذي خلقنا
فهو يهدينا، والذي هو يطعمنا ويسقينا، وإذا مرضنا فهو يشفينا، والذي يميتنا ثم
يحيينا، والذي نطمع أن يغفر لنا خطيئاتنا يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله المبعوث رحمة
للعالمين في أبدانهم وأرواحهم، ودنياهم وأخراهم، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه،
ومن تمسك بهديه إلى يوم الدبن، وسلم تسليما . أما
بعد:
فاتَّقوا الله عباد الله واعبدوه
واشكروا له، إليه ترجعون.
واعلموا رحمكم الله أن الله يبتلي عبده
بالمرض لحكم عظيمة:
ــ فيبتليك ربك بالمرض ليعرفك بضعفك
وبشريتك وحاجتك لخالقك لتديم الافتقار والخضوع له سبحانه.
ــ يبتليك بالمرض ليعرفك قدر نعمته
عليك بالصحة والعافية.
ــ يبتليك ليستخرج دعاءك وتضرعك ولجوءك
إليه سبحانه.
ــ يبتليك ربك بالمرض ليختبر إيمانك
وصبرك ورضاك بقدره وتوكلك عليه وحسن ضنك به، والتزامك باستعمال الأشفية المشروعة،
والبعد عن التداوي بالطرق المحرمة .
ــ يبتليك ليكفر عنك السيئات ويرفع لك
الدرجات إن صبرت واحتسبت ورضيت.
أيها المسلمون: عندما يمرض المؤمن،
يتوجه قلبه إلى الله الذي في السماء، طالباً الشفاء، فتجد المؤمن المريض يقلب وجهه
نحو السماء قائلاً يا رب رحمتك ولطفك وشفاءك، لاعتقاده بأن الله هو الشافي وحده، فمن
أسماء ربه الحسنى (الشافي), والشافي هو المتفرد بشفاء الخلق من الأمراض والعلل، فالشفاء
شفاؤه، والدواء دواؤه، وهو سبحانه خالق الأدويةِ والأشفيةِ، وأسبابِ الشفاء كلِّها،
وكاشفُ أسرارِها، ومُيَسِّرُ سُبُلِهَا، وجاعلُ الأثرِ فِيِهَا، ومقدرُ نفعِها لمن
شاء من عباده، يشفي الأبدان ، ويشفي الصدور والأرواح من الأدران.
ثبت في الصحيحين: أن النبي صلى الله
عليه وسلم كان إذا عاد مريضًا يقول: (أذهب البأس رب الناس ، اشفِ أنت الشافي ،
لا شفاء إلا شفاؤك، شفاء لا يغادر سَقمًا) (أنت الشافي): توسل من النبي صلى الله
عليه وسلم باسم الله الشافي في هذا الدعاء والرقية النبوية .
ــــ لقد قال إمام الحنفاء إبراهيم
الخليل عليه السلام، أمام قومة المشركين داعياً لهم إلى إفراد الله بالتعلق تعبداً
واستعانة، قال: ((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)).
((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ))
يجب أن تكون عقيدة يقينية مدوية في وجدان كل موحد حنيف.
((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ))
يقينٌ بشفاء من خلق الداء والدواء.
((وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ)) ركونٌ
إلى ركن ركين، وتوجه إلى كاشف الكرب عن المكروبين.
عباد الله: من أنفع الطرق التي يُطْلَبُ
بها شفاء رب السماء، ما شرعه الله لنا من الاستشفاء بـ (الرقية الشرعية) . الرقية بكلام
الله تعالى (القرآن الكريم)، الذي قال الله تعالى فيه: ((وننزل من القرآن ما هو
شفاء ورحمة للمؤمنين)) فالقرآن شفاء كله لكل الأمراض، وقال: ((قل هو للذين آمنوا
هدى وشفاء)).
وأيضاً الرقية بالرقى والتعويذات
والأدعية النبوية الثابتة.
واعلموا عباد الله أن الأصل في الرقية
أن يقرأ المريض على نفسه، أو يقرأ عليه أحد من أهله، فقد ثبت في الصحيحين عَنْ
عَائِشَةَ رضي الله عنها: (أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
كَانَ إِذَا اشْتَكَى يَقْرَأُ عَلَى نَفْسِهِ بِالْمُعَوِّذَاتِ
وَيَنْفُثُ.. قالت عائشة: فَلَمَّا اشْتَدَّ وَجَعُهُ كُنْتُ أَقْرَأُ عَلَيْهِ
وَأَمْسَحُ عَنْهُ بِيَدِهِ رَجَاءَ بَرَكَاتِهَا) .
وهذا عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ
الثَّقَفِيِّ رضي الله عنه شَكَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
وَجَعًا يَجِدُهُ فِي جَسَدِهِ مُنْذُ أَسْلَمَ، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلى
الله عليه وسلم: ((ضَعْ يَدَكَ عَلَى الَّذِي تَأَلَّم مِنْ جَسَدِكَ وَقُلْ:
بِاسْمِ اللَّهِ، ثَلَاثًا، وَقُلْ سَبْعَ مَرَّاتٍ: أَعُوذُ بِاللَّهِ
وَقُدْرَتِهِ مِنْ شَرِّ مَا أَجِدُ وَأُحَاذِرُ)) رواه مسلم. فانظروا عباد الله، لم
يقرأ عليه النبي عليه الصلاة والسلام، ولم يرشده إلى أحد يقرأ عليه، بل علمه كيف
يرقي نفسه فأمره أن يضع يده على موضع الألم ويقول ما علمه إياه .
ذلك عباد الله لأن المريض هو صاحب
الحاجة والاضطرار، فإذا دعا ورقى نفسه أظهر حاجته وفقره متضرعاً لمولاه الشافي
سبحانه، وهذه الحال من أسباب الإجابة قال تعالى: ((أمَّن يجيب المضطر إذا دعاه
ويكشف السوء)).
ـــ وإذا رقيت نفسك عبد الله، فشفاك
الله فإنك ستحمد الله وحده ولا تحمد أحداً سواه، بينما لو رقاك آخر لربما اجتهدت
في حمد الراقي وضَعُفْتَ عن حمد الله الذي يسَّر وقدر الشفاء.
فيا عباد الله : مادام الأمر كذلك،
فلماذا لا نرقي أنفسنا؟
لماذا نهجر الاستشفاء بالقرآن بأنفسنا؟
ــ كلنا يحفظ سورة الرقية (الفاتحة)
أعظم سورة في القرآن والتي رقى بها صحابيٌ رجلاً لديغاً كافراً فشفي في لحظته، فقال النبي صلى الله عليه وسلم
للصحابي: (وما يدريك أنها رقية؟).
والكل يحفظ (قل هو الله أحد) التي تعد
ثلث القرآن وفيها صفة الرحمن.
والكل يحفظ المعوذتين اللتين قال
النبي صلى الله عليه وسلم فيهما ( لم يُرَ مِثْلُهُن ) وقال: (ما سأل سائل بمثلهما،
ولا استعاذ مستعيذ بمثلهما).
والكل يحفظ أعظم آية في القرآن الحصن
الحصين آية الكرسي.
ونحن مؤمنون بالله وأنه الشافي، وموقنون
بأثر القرآن ونفعه العظيم في علاج الأمراض، فكل أدوات الرقية متوفرة فينا ...
قال الله تعالى في تأثير القرآن : ((وَلَوْ
أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ
كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَ)) يعني لكان هذا القرآن.
وقال تعالى : ((لَوْ أَنزَلْنَا
هَٰذَا الْقُرْآنَ عَلَىٰ جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا مِّنْ
خَشْيَةِ اللَّهِ)) هذا هو أثر القرآن ، وكم عايش الناس من مواقف ظهر لهم فيها أثر
القرآن .
فليرق كلٌ منا نفسه، ولنترك الجري
وراء الرقاة والبحث عنهم، والتجمع عند أبوابهم، فقد فتنهم الناس بأنفسهم.
عالج نفسك عبد الله بالرقية بالقرآن
مستشعراً عظمة كلام الله وارق بأذكار السنة مستيقناً، أيقن بالنفع، وأحسن الظن
بالله الشافي الرحيم الكريم، واستمر واصبر حتى يأذن الله بالشفاء وإن طال بك
البلاء، وإياك واليأس من روح الله، فإنه ((لا ييأس من روح الله إلا القوم
الكافرون)).
فبهذا تجمع بين الاستشفاء، والتقرب
إلى الله بأنواع من العبوديات.
بارك الله لي ولكم في الكتاب
والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر الله لي ولكم إنه هو
الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي خلق فسوى
, وقدَّر فهدى , وأخرج المرعى ، نعمُهُ تترى , وفضله لا يُحصى , لا مُعطي لما منع ولا
مانع لما أعطى , وكلُّ شيء عنده بقدر وأجلِ مسمى .
وأشهد أن لا إله إلا الله
وحده لا شريك له , له الحكمةُ فيما قدّر وقضى ، وأشهد أن محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الأخشى
لربه والأتقى ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيرا ، أما بعد :
أيها المسلمون: طلب الرقية من الغير
جائز، فإن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرقي أهله وأصحابه، ورقاه جِبْرِيلَ عليه
السلام فقد جاء جبريل إلى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: ( يَا
مُحَمَّدُ، اشْتَكَيْتَ؟ فَقَالَ: نَعَمْ، فقَالَ جبريل: بِاسْمِ اللَّهِ
أَرْقِيكَ، مِنْ كُلِّ شَيْءٍ يُؤْذِيكَ، مِنْ شَرِّ كُلِّ نَفْسٍ أَوْ عَيْنِ
حَاسِدٍ، اللَّهُ يَشْفِيكَ، بِاسْمِ اللَّهِ أَرْقِيكَ). رواه مسلم.
ورقية الآخرين فيها أجر للراقي إن احتسب،
لأن فيها امتثال لقَول النبي صلى الله عليه وسلم: ((مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ
يَنْفَعَ أَخَاهُ فَلْيَفْعَلْ)) رواه مسلم، وفيها تفريج وتنفيس لكربة المريض، وتسبب
بعودته لعبادة الله وعمل الصالحات بعد شفائه، لذا يرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم
فيقول: (إِذَا جَاءَ الرَّجُلُ يَعُودُ مَرِيضًا، فليقل: اللهُمَّ اشْفِ عَبْدَكَ،
يَنْكَأُ لَكَ عَدُوًّا، وَيَمْشِي لَكَ إِلَى الصَّلَاةِ) [رواه أحمد وأبو داود والحاكم، وحسنه
ابن حجر وصححه الألباني]
عباد الله: في الرقاة أخيار صالحون متبعون للسنة
مبتعدون عن الأمور المحدثة، فكم نفع الله بأمثال هؤلاء الرقاة من عباد الله، فلا
تحصى الأسحار التي فكها الله على أيديهم، وكم من معيون وممسوس خلصه الله من ضرره
بسببهم.
ولكن يوجد من الرقاة من حملهم الجهل
أو الافتتان بكثرة المعالجين عندهم، على استعمال طرق علاجية غير مشروعة أفتى
العلماء بمنعها وعدم جوازها.
كاستعمال الحُجُبِ وإن كانت من
القرآن، واستعمال جلد الذئب، وغمس الأوراق بما الزعفران المقروء فيه، أو ختم
الآيات بماء الزعفران
أو إلصاق الآيات المكتوبة على موضع
الألم ، أو الرقية بواسطة مكبر الصوت أو بواسطة الهاتف؛ أو الرقية الجماعية.
ومن طرقهم غير المشروعة: مس جسد
المرأة، فلا حاجة في الرقية للمس، وكذلك الطلب من المريض تخيل العائن.
ومن أخطر طرقهم المحرمة: الاستعانة
بالجن في التشخيص ومعرفة مكان السحر والمتسبب به ، فيسألون عن اسم الأم من أجل ذلك،
ويزعمون أنهم يستعينون بجن مسلمين.
كل ذلك جاءت فتاوى علمائنا من علماء
الجنة الدائمة برئاسة ابن باز ومن غيرهم، جاءت بتحريمها ومنعها .
ومنهم من حول الرقية إلى متاجرة
متجاوزة الحد، ومنهم من يتوسع ويدخل فيما لا يعلم ولا يحسن فيشخص للمريض مرضه وليس
عنده ما يجزم به، ومنهم من أصبح يصرف أدوية وخلطات عملها باجتهاده دون ميزان علمي
معرفي فضرت وأمرضت.
فاتقوا الله عباد الله: فأنتم تملكون
أدوات الرقية الشرعية فارقوا أنفسكم واطلبوا الشفاء من ربكم مباشرة دون واسطة، ومن
اضطر منكم لطلب الرقية من راق فليَتَحَرّ الموثوق، وليحذر من المتوسع المخالف
الجريء على ما لا يحسن.
اللهم اجعل القرآن ربيع
قلوبنا وشفاء صدورنا وأبداننا وجلاء همومنا وأحزاننا، اللهم إنا نسألك العافية
والمعافاة الدائمة في الدين والدنيا والآخرة، اللهم إنا نعوذ بك من البرص والجنون
والجذام وسيء الأسقام يا ذا الجلال والإكرام. اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول
عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء،
وسوء القضاء، وشماتة الأعداء .
اللهم اقسم لنا من خشيتك
ما تحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به
علينا مصائب الدنيا، اللهم متعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث
منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا،
ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، وﻻ مبلغ علمنا، وﻻ تسلط علينا من ﻻ يرحمنا برحمتك يا أرحم
الراحمين .
اللهم إنا نسألك خشيتك في
الغيب والشهادة، وكلمة الحق في الغضب والرضا، والقصد في الفقر والغنى، ونسألك نعيما
لا ينفد وقرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء وبَرَّدَ العيش بعد الممات ولذة
النظر إلى وجهك الكريم والشوق إلى لقاءك في غير ضراء مضرة ولا فتنة مضلة يا أرحم الراحمين.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك فعل الخيرات، وترك المنكرات، وحب المساكين، وأن تغفر
لنا وترحمنا، وإذا أردت بقوم فتنة فتوفنا إليك، ونحن غير مفتونين برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا
الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلا للذين آمنُوا ربنا إنك رءوف رحيم. ربنا
آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا
وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب. ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات
والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله
يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ
صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |