تعلق القلب بالصلاة 1- 7 - 1440هـ
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ
ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ
فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا
شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ صَلِّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ
وَأَصْحَابِهِ وَسَلِّمَ تَسْلِيماً كَثِيراً . أما بعد:
فاتقوا
الله عباد الله واعلموا أن من أجل صفات المتقين أنهم يقيمون الصلاة ويحافظون عليها
ويخشعون فيها ويأنسون بها (( الم ذَٰلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ
هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ
بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ))
أيها المصلون عباد الله:
الصلوات الخمس, عمود الإسلام، وثاني أركانه العظام، وفريضة ربنا اليومية على الدوام،
نحبها ونحافظ عليها. ولكن هل قلوبنا معلقة بها؟ هل نجد فيها راحتنا؟ هل تحيا بها أرواحنا؟
هل تقر بها عيوننا؟ .
إن
تعلق القلب بالصلاة بقدر تعلق القلب بالله تعبداً واستعانة وبقدر القرب منه سبحانه.
أيها المصلون
عباد الله: إن ثمة وسائل تزيدنا حباً للصلاة وتعلق
قلوبنا بها.
أول هذه
الوسائل: أن نستشعر بأن الصلوات الخمس المفروضة
مواعيد يومية رئيسة للقاء بملك الملوك سبحانه والوقوف بين يديه جل جلاله ومناجاته بذكره
وبكلامه، فيتلوا المصلي ويعظم ويمجد ويحمد، ويسبح ويستعين ويدعوا ويوحد، ورَبُّة تبارك
وتعالى يجيبه فمقام المصلي أشرف المقامات وأكبرها لذة وروحانية.
قال
أحد السلف: من مثلك يا ابن آدم، خلي بينك وبين المحراب والماء متى ما شئت دخلت على
ربك ليس بينك وبينه ترجمان ولا حاجب. [قاله
بكر بن عبدالله المزني ـ حلية الأولياء ح 2227]
لقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في شرف مقام
المصلي: (إن أحدكم إذا كان في الصلاة فإنما يناجي ربه) أخرجه البخاري، وجاء في حديث
آخر صحيح: (إِنَّ اللَّهَ أَمْرَكُمْ بِالصَّلَاةِ، فَإِذَا نَصَبْتُمْ وُجُوهَكُمْ
فَلَا تَلْتَفِتُوا فَإِنَّ اللَّهَ يَنْصِبُ وَجْهَهُ لِوَجْهِ عَبْدِهِ حِينَ يُصَلِّي
لَهُ، فَلَا يَصْرِفُ عَنْهُ وَجْهَهُ حَتَّى يَكُونَ الْعَبْدُ هُوَ يَنْصَرِفُ) [أحمد
والترمذي وابن خزيمة واللفظ له وصححه الألباني]
وقال
صلى الله عليه وسلم: (لا يزال الله مقبلاً على العبد في صلاته؛ ما لم يلتفت) [أبو
داود وابن خزيمة وصححه الألباني] لذا كان أقرب
ما يكون العبد من ربه وهو ساجد في صلاته قال الله: ((واسجد واقترب))
فإذا
استشعر المصلي مقابلة الملك ومناجاته؛ خضع قلبه وخشع، وأقبل على الصلاة بكل جوارحه
فَخَشَعَتْ كلها، لذا يشرع له أن يقول في ركوعه: ((أنت ربي خشع لك سمعي وبصري، ومخي
وعظمي وعصبي وما استقلت به قَدَمَيَّ))[حديث
صحيح أخرجه أحمد وابن حبان] وهذا يزيد المؤمن
تلذذا بالصلاة وأنساً وطمأنينة.
وجاء
عن السلف أحوال وأقوال من استشعارهم للقاء الرب في الصلاة
ومناجاته واستغراقهم في ذلك:
يقول
عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: المصلي يقرع باباً ومن يدم قرع باب الملك يوشك أن يفتح
له.[الزهد لأبي داود/153]
وقال
عدي بن حاتم رضي الله: ما جاءت الصلاة قط إلا وأنا إليها بالأشواق, ولا جاءت قط إلا
وأنا مستعد.[أخرجه ابن المبارك، وابن أبي شيبة
في المصنف ح 35248]
وقال
محمد بن واسع: ما بقي في الدنيا شيء ألذ من الصلاة في الجماعة.[الحلية
4/291]
وبقي
أبو زرعة عشرين سنة وفي محرابه كتابة لم يدر عنها ولما سئل عنها قال : سبحان الله رجل
يدخل على الله ويدري ما بين يديه. [صفة
الصفوة 4/89]
وقال
آخر: ما ظننت أن أحداً يكون في الصلاة فيقع في سمعه غير ما يخاطبه به الله .[السير
9/586]
ومن
استغراقهم في المناجاة كانوا لا يشوش عليهم لسع الزنبور ولا وقوع الذباب على شيء من
أجسادهم بل ولا الرمي بالسهم كما وقع لعباد بن بشر رضي الله عنه.
وجاء
عن ابن المسيب وعن غيره أنه بقي ثلاثين سنة وأربعين سنة ، ما أذن المؤذن إلا وهو في
المسجد، أدباً مع الله في الحضور قبل ندائه.[
السير 5/240]
وقال
سفيان ابن عيينة: من توقير الصلاة أن تأتي قبل الإقامة.[الحلية
7/285]
وقال
وكيع: من لم يأخذ أهميةً للصلاة قبل وقتها لم يكن وقرها. [الحلية
8/270]
أيها المصلون
عباد الله: ومما يساعد العبد على استشعار مقابلة الملك جل جلاله عند حضور الصلاة:
أنه
إذا أُذِّنَ للصلاة استشعر العبد أن ملك الملوك جل جلاله يناديه للقائه ومناجاته في
الموعد الذي حدده.
وإذا
توضأ استشعر أنه يستعد لملاقاته بتطهير جوارحه، لذا كان علي زين العابدين بن الحسين
يتغير لونه وتأخذه رعدة عند الوضوء استشعاراً لهذا اللقاء ويقول: ويحكم أتدرون إلى
من أقوم ومن أريد أن أناجي. [الزهد لأحمد
/ 307]
فإذا
دخل المسجد استحضر أنه دخل بيته أحب البقاع إليه، فإذا كبر واستفتح وتعوذ وبسمل وقرأ
علم أنه بدأ بالمناجاة، فاستلذ وتنعم وأحكم قلبه من أن ينصرف عن هذه المناجاة واللذة.
أيها المصلون
عباد الله: ثاني الوسائل
المساعدة على تعلق القلب بالصلاة ومزيد حب لها:
أن نعلم أن الصلاة على وقتها هي أحب الأعمال
إلى الله عز وجل وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، ومساجدها أحب البقاع إليه سبحانه،
فبقدر حبنا لله ولرسوله يكون حبنا للصلاة، سأل عبد الله بن سعود رسول الله صلى الله
عليه وسلم أي الأعمال أحب إلى الله فقال : (الصلاة على وقتها) متفق عليه. وثبت عن النبي
صلى الله عليه وسلم أنه قال: (جُعِلَتْ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاة).[حديث
صحيح أخرجه أحمد والنسائي]
فلنحب
محبوبَ أعظمِ حبيبين (اللهَ ورسولَه). قال الله: ((وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا
لِّلَّهِ))
ثالثاً مما
يزيد من تعلق القلب بالصلاة: أن يستشعر العبد دوما
فقره وفاقته وحاجته لمولاه الغني الحميد الحي القيوم القوي العزيز الكريم, القائل سبحانه:
((يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ
الْحَمِيدُ)) فالعبد محتاج للوقوف بين يديه والخضوع له بالركوع والسجود، ومناجاته وسؤاله
وإظهار الفاقة والفقر له واستمداد القوة منه سبحانه، فالصلاة خير معين للعبد على كرب
وهموم الحياة ومشاقها وأحزانها، فالصلاة تمد المصلى بالعزة والقوة وتمد روحه بالأنس
والسلوة عن الأحزان، وقد قال الرحمن: ((وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ))،
وهذا يحبب العبد بالصلاة ويقوي ارتباطه بها.
رابعاً مما
يزيد من تعلق القلب بالصلاة: أن نعلم ونتذكر بأن الصلاة
مطهرة للمصلي من الذنوب والخطايا , فلا تبقي ذنباً صغيراً إلا محته فتجعل المرء نقياً
طاهراً من الأوزار الصغار، ففي صحيح مسلم قال عليه الصلاة والسلام: (أَرَأَيْتُمْ لَوْ
أَنَّ نَهْرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ
هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ - أي وسخه - شَيْءٌ؟، قَالَ: فَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ
الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا)) وفي حديث صحيح يقول صلى الله عليه
وسلم: (إنَّ العبدَ إذا قَامَ يُصلِّي أُتِي بُذُنوبِه كُلِّها فَوُضِعَتْ على رأسِه
وعاتِقَيْهِ، فكُلَّما رَكعَ أو سَجدَ تَساقَطَتْ عَنْهُ) [رواه
ابن حبان والطبراني والبيهقي وابن نصر وصححه الألباني].
فمَنْ
كان كثير الذنوب والخطايا ـ وكلنا كذلك ـ أحب الصلاة وتعلق قلبه بها .
وكذلك
مَنْ عرف بقية فضائل الصلاة وثوابها أحبها وتعلق بها.
اللهم حبب إلينا الإيمان والصلاة، ورازقنا الخشوع
والطمأنينة وإقبال القلب وتعلقه بها.
بارك
الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من المواعظ والحكمة ، وأستغفر
الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِه، وَالشُّكْرُ
لَهُ عَلَى تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشهَدُ أَن لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ
لا شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَأَنِهِ، وأَشهدُ أنَّ نبيَّنا مُحمَّدًا عَبدُهُ وَرَسُولُه
الدَّاعِي إِلى رِضْوَانِهِ، صَلِّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَإِخْوَانِهِ
وسلِّمَ تَسلِيماً كَثِيراً . أما بعد:
خامساً مما يزيد من تعلق القلب
بالصلاة: أن نتأمل في أسرارا الصلاة، وأنها عبادة عظيمة اجتمع
فيها أنواع من العبوديات الجليلة التي لم تجتمع في سواها، ففي الصلاة عبودية توجه الوجه
والجسد إلى قبلتهما البيت الحرام، وتوجه القلب إلى قبلته السماء بالتوحيد، وفيها عبودية
الخشوع والتذلل والانكسار بين يدي الله والإقبال على الله، وفيها عبودية الخضوع لله
بالقيام والقعود والركوع والسجود، وفيها التكبير والتحميد والتسبيح والتشهد والتهليل
والاستغفار، وفيها التلاوة ومواطن الدعاء، وفيها الصلاة والسلام على نبي الإسلام، وختامها
السلام على المؤمنين.
فالصلاة بهذه الأسرار
محققة لتوحيد العبد ومثبتة لأركانه في قلبه، وهو الغاية العظمى من الوجود، وهذا داع
لمزيد حب للصلاة تعلق بها
سادساً مما
يزيد من تعلق القلب بالصلاة: أن نتأمل في أثر الصلاة
على العبد وآثارها , فالصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر, وتبث الأمن والطمأنينة والسكينة
في الحياة، وتربي على الوقار والأدب مع الله, وتجمع أجساد وقلوب المؤمنين وتزيدهم حباً
ووداً وتحقق حِكَما اجتماعية عديدة.
وسابعاً
وأخيراً عباد الله: أن نكثر من الحديث في مساجدنا ومجالسنا عن
الصلاة، نتحدث عن فضائلها المتعددة ومكانتها الكبيرة، وأحكامها وآدابها، فمن أحب شيئاً
أكثر من ذكره، ومن أكثر من ذكر شيء أحبه وتعلق به.
عباد الله: من تعلَّق قلبه بالمساجد
أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله، ومن تَوَطَّنَ المسجد تبشبش الله في وجهه كلما
جاء إليه، ومن أحب الصلاة أحبه الله، فأحبوا الصلاة وعلقوا قلوبكم بها.
فوالله الذي لا اله
إلا هو إن قلباً وجسداً لم يعرفا الصلاة لهما خراب مستوحشان معذبان، فالصلاة هي النور
والنجاة والبرهان والإنس والسرور والعز والقوة في الدنيا والآخرة.
حدثوا أبناءكم وأهليكم
بما سمعتم، واتبعوا أحسن القول، ليكون حجة لكم لا عليكم، فالقلوب تشوشت وذهلت ولهت
بسبب كثرة الملهيات، فلا تلهو عن الصلاة فهي آخر عرى الدين نقضاً وضياعاً ((فَخَلَفَ
مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ
غَيًّا)).
اللهم ردنا والمسلمين إليك رداً جميلاً ،، اللهم
أصلح حالنا وحال المسلمين مع الصلوات الخمس يا أرحم الراحمين، اللهم علّق قلوبنا
بالصلاة، اللهم حبّب الصلاة إلى قلوبنا وزينها لنا وارزقنا لذة الخشوع والمحافظة
عليها يا رب العالمين، ربنا اجعلنا مقيمي الصلاة ومن ذرياتنا ربنا وتقبل دعاء،
ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمؤمنين يوم يقوم الحساب، اللهم إنا على ذكرك وشكرك
وحسن عبادتك، اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا
والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع،
ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك،
والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زيّنا بزينة الإيمان واجعلنا
هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ
علمنا ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألْحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين
، اللهم ألّف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور
وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا
وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها
وأتمها علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على
نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121
|