يَوْمُ السُّؤَال
خطبة جمعة بتاريخ / 2-5-1439 هـ
إنَّ الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من
شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له،
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ بلَّغ
الرسالة ، وأدى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فما
ترك خيرًا إلا دلَّ الأمة عليه ، ولا شرًا إلا حذَّرها منه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه
وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله ربكم ، وراقبوه في جميع أعمالكم ؛ مراقبة
من يعلمُ أن ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها
المؤمنون : إنكم موقوفون بين يدي الله جل في علاه يوم القيامة ، ومسؤولون في ذلك
اليوم العظيم ؛ فيوم القيامة يوم السؤال ، ومن علِم أنه موقوف وأنه مسؤول فليُعِد
للمسألة جوابا ، قال الله تعالى: ﴿ فَوَرَبِّكَ
لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الحجر:92-93]، وقال الله تعالى: ﴿ وَقِفُوهُمْ
إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ﴾ [الصافات:24]، وقال الله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ
عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ
مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36]، وقال الله تعالى: ﴿ ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:8]، والآيات في هذا المعنى كثيرة .[ولا تزول قدما عبدٍ بين يدي الله يوم
القيامة حتى يُسأل عن مسألتين ماذا كنتم تعبدون ؟ وماذا
أجبتم المرسلين ؟ فجواب الأولى بتحقيق " لا إله إلا الله " معرفة
وإقرارا وعملا . وجواب الثانية بتحقيق " أن محمدا رسول الله " معرفة
وإقرارا وانقيادا وطاعة .قال أبو العالية رحمه الله:كلمتان يسأل عنهما الأولون والآخرون ماذا كنتم تعبدون وماذا أجبتم المرسلين].
أيها المؤمنون:
وأول ما يكون عنه السؤال يوم القيامة من الأعمال ؛ الصلاة المكتوبة التي هي عماد
الدين ، ففي الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال :
((أَوَّلُ مَا يُحَاسَبُ بِهِ الْعَبْدُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ عَمَلِهِ صَلَاتُهُ
؛ فِإِنْ صَلَحَتْ فَقَدْ أَفْلَحَ وَأَنْجَحَ، وَإِنْ فَسَدَتْ فَقَدْ خَابَ وَخَسِرَ)).
أيها
المؤمنون : وعن سمع المرء وبصره وفؤاده يُسأل يوم القيامة كما تقدم في قول الله: ﴿ إِنَّ
السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا﴾ [الإسراء:36] أي هل استعمل هذه الحواس والقوى في طاعة الله أم في عصيانه ؟.
أيها
المؤمنون : العمر والعلم والمال والجسم ؛ أمورٌ أربعة سيُسأل عنها العبد يوم
القيامة ، يُسأل عن كل واحد منها سؤال واحد وعن المال سؤالان ، روى الترمذي عن أبي
برزة الأسلمي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((لاَ تَزُولُ
قَدَمَا عَبْدٌ يَوْمَ القِيَامَةِ حَتَّى يُسْأَلَ عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا
أَفْنَاهُ ، وَعَنْ عِلْمِهِ فِيمَ فَعَلَ ، وَعَنْ مَالِهِ مِنْ أَيْنَ
اكْتَسَبَهُ وَفِيمَ أَنْفَقَهُ ، وَعَنْ جِسْمِهِ فِيمَ أَبْلاَهُ)) .
أيها المؤمنون
: ويوم القيامة يسأل الله جل وعلا كل راعٍ عما استرعاه -قلَّت الرعية أو كثُرت-
أكان ناصًحا لهم أم غاشا؟ أكان حافظًا لهم أم مضيِّعا ؟ فقد روى النسائي في سننه
وابن حبان في صحيحه عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((إِنَّ
اللَّهَ سَائِلٌ كُلَّ رَاعٍ عَمَّا اسْتَرْعَاهُ أَحَفِظَ ذَلِكَ أَمْ ضَيَّعَ ،
حَتَّى يُسْأَلَ الرَّجُلَ عَلَى أَهْلِ بَيْتِهِ)) .وفي هذا المعنى ما ثبت في الصحيحين
من حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((أَلاَ كُلُّكُمْ رَاعٍ
وَكُلُّكُمْ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ؛ فَالأَمِيرُ الَّذِي عَلَى النَّاسِ
رَاعٍ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالرَّجُلُ رَاعٍ عَلَى أَهْلِ
بَيْتِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُمْ ، وَالْمَرْأَةُ رَاعِيَةٌ عَلَى بَيْتِ
بَعْلِهَا وَوَلَدِهِ وَهِىَ مَسْئُولَةٌ عَنْهُمْ، وَالْعَبْدُ رَاعٍ عَلَى مَالِ
سَيِّدِهِ وَهُوَ مَسْئُولٌ عَنْهُ ؛ أَلاَ فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَكُلُّكُمْ
مَسْئُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ)).
أيها
المؤمنون : يوم القيامة يسأل الله عز وجل الناس عن النعيم الذي متَّعهم به في هذه
الحياة ؛ من صحة في الأجسام ، وطيب مطعمٍ وشرابٍ وغذاء ومسكنٍومركوبٍ، وغير ذلك من
أنواع النعم ، كما تقدم في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿ ثُمَّ
لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ﴾ [التكاثر:8]. روى الترمذي عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إِنَّ
أَوَّلَ مَا يُسْأَلُ عَنْهُ يَوْمَ القِيَامَةِ -يَعْنِي العَبْدَ مِنَ
النَّعِيمِ- أَنْ يُقَالَ لَهُ : أَلَمْ نُصِحَّ لَكَ جِسْمَكَ ، وَنُرْوِيَكَ
مِنَ الْمَاءِ البَارِدِ)) .
أيها المؤمنون : نسأل الله
العظيم بأسمائه الحسنى وصفاته العليا أن يعيننا أجمعين على الاستعداد ليوم السؤال ،
وأن يعظم لنا أجمعين في ذلك اليوم العطايا والنوال، إنه تبارك وتعالى سميع الدعاء
وهو أهل الرجاء وهو حسبنا ونعم الوكيل .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد عباد
الله: اتقوا الله تعالى ، فإنَّ من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه
ودنياه .
أيها المؤمنون : روى أبو
نعيم في كتابه «حلية الأولياء» موعظة عظيمة نافعة في هذا الباب للإمام فضيل بن عياض رحمه الله وهو من أجلَّة
علماء التابعين ؛ لقي رحمه الله رجلا فقال له:«كم أتت عليك؟» قال: ستون سنة، قال:«فأنت منذ ستين سنة وأنت تسير إلى ربك وقد أوشكت أن تبلغ»، فقال الرجل: يا أبا علي إنا لله وإنا إليه راجعون ، قال الفضيل:«تعلم ما تقول ؟»قال : قلت إنا لله وإنا إليه راجعون ، قال: «أوَتعلم ما تفسيره ؟» قال : فسره لي يا أبا علي ، قال
: «قولك إنا لله:أي أنا لله عبد ، وقولك إنا إليه راجعون: أي أنا إلى الله
راجع ، فإذا علمتَ أنكلله عبد وأنك إليه راجع فاعلم أنك موقوف ، ومن علم بأنه
موقوف فليعلم بأنه مسئول ، ومن علم أنه مسئول فليُعِد للسؤال جوابا»، فقال الرجل وقد أثرت فيه هذه الموعظة : فما الحيلة؟ قال : «يسيرة» ،قال:وما هي ؟ قال:«أحسن فيما بقي يُغفر لك ما مضى وما بقي ، فإنك إن أسأت فيما بقي أُخذت فيما
مضى وما بقي».
أيها المؤمنون: ليحاسب العبد
نفسه ، وليزن أعماله ، وليتق الله ربه وليُعِد نفسه ليوم السؤال ، قال الخليفة
الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه : «حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزِنوا أعمالكم قبل أن توزنوا ؛ فإنه أهون
عليكم في الحساب غدا ، وتزينوا ليوم العرض على الله ، يوم تعرضون لا تخفى عليه منكم
خافية» .
اللهم أصلح لنا أعمالنا وشأننا كله ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين .
وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك
في كتابه فقال: ﴿ إِنَّ
اللَّه َوَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ علَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى
الله عليه وسلم:((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ
عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين ؛
أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ،وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعنَّا
معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك
وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين
المستضعفين في كل مكان ، اللهم آمن روعاتهم واستر عوراتهم ، اللهم وعليك بأعداء
الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ، ونعوذ بك اللهم من شرورهم .
اللهم أمِّن حدودنا ، واحفظ جنودنا ، اللهم وآمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا
وولاة أمورنا ، اللهم اجعل ولايتنا في من خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين
.اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك ، وأعِنه على طاعتك ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه
وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال .
اللهم
آت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا
نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن ، اللهم إنا نسألك الهدى والتقى والعفة
والغنى . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين ،
اللهم اغفر لنا ذنبنا كله ؛ دقه وجلّه ، أوله وآخره ، علانيته وسره . اللهم اغفر
لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات . اللهم
أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم إنا نسألك غيثًا مغيثا ، هنيئًا مريئا ،
سحًّا طبقا ، نافعًا غير ضار . اللهم أغث قلوبنا بالإيمان وديارنا بالمطر يا حي يا
قيوم يا ذا الجلال والإكرام . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقِنا
عذاب النار .
وآخر
دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق
البدر تجدها هنا
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|