يَوْمُ التَّنَاد
خطبة جمعة بتاريخ / 9-5-1439 هـ
إنَّ الحمد لله ؛نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد
أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم
عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تعالى ، وتزودوا ليوم الوقوف بين يديه ،
وتزينوا ليوم العرض عليه .
أيها
المؤمنون :قال العبد الصالح مؤمنُ آل فرعون في موعظته لقومه: ﴿وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ
يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ
مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ﴾ [غافر:32-33]؛ ذكَّرهم بعِظم الخطب وجسامة الأمر في ذلك اليوم العظيم ، وذكر ذلك اليوم
بهذه الصفة «يوم التناد»: وذلك لكثرة النداءات فيه.
عباد الله:
من يتأمل في كتاب الله تعالى وسنَّة نبيه صلى الله عليه وسلم فيما يقع في ذلك
اليوم من نداءاتٍ ونداءات يدرك عِظم الخطب في ذلك اليوم .
أيها المؤمنون:
في ذلك اليوم نداءان عظيمان للأولين والآخرين ،قال الله عز وجل: ﴿وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ
شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ﴾ [القصص:62]، وقال تعالى: ﴿وَيَوْمَ
يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ﴾ [القصص:65]، والنجاة في ذلك إنما تكون بتوحيد المعبود ومتابعة الرسول صلى الله عليه
وسلم .
أيها
المؤمنون: وفي ذلك اليوم يُنادى كل أناس بإمامهم ؛بسعادة السعداء وشقاوة الأشقياء
،﴿ يَوْمَ نَدْعُو
كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ
كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى
فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا﴾ [الإسراء71-72].
أيها
المؤمنون: وفي أرض المحشر ينادي الرب العظيم جل في علاه العباد نداءً يسمعه من بعُد
كما يسمعه من قرُب، ففي المسند والأدب المفرد وغيرهما عن عبدالله بن أنيس رضي الله
عنه قال :قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يُحْشَرُ النَّاسُ يَوْمَ
الْقِيَامَةِ -أَوْ قَالَ الْعِبَادُ- عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا قَالَ : قُلْنَا :
وَمَا بُهْمًا ؟ قَالَ : لَيْسَ مَعَهُمْ شَيْءٌ ، ثُمَّ يُنَادِيهِمْ بِصَوْتٍ
يَسْمَعُهُ مِنْ بُعْدٍ كَمَا يَسْمَعُهُ مِنْ قُرْبٍ : أَنَا الْمَلِكُ ، أَنَا
الدَّيَّانُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ أَنْ يَدْخُلَ
النَّارَ وَلَهُ عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
حَقٌّ حَتَّى أَقُصَّهُ مِنْهُ ، وَلاَ يَنْبَغِي لأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ
أَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ وَلأَحَدٍ مِنْ أَهْلِ النَّارِ عِنْدَهُ حَقٌّ حَتَّى
أَقُصَّهُ مِنْهُ ، حَتَّى اللَّطْمَةُ ، قُلْنَا : كَيْفَ وَإِنَّا إِنَّمَا
نَأْتِي اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ عُرَاةً غُرْلاً بُهْمًا ؟ قَالَ : بِالْحَسَنَاتِ
وَالسَّيِّئَاتِ)) .
عباد الله:
وفي ذلك اليوم ينادى كل قومٍ بأن يتبعوا معبودهم ؛ ففي صحيح البخاري عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يُنَادِي مُنَادٍ:
لِيَذْهَبْ كُلُّ قَوْمٍ إِلَى مَا كَانُوا يَعْبُدُونَ؛ فَيَذْهَبُ أَصْحَابُ
الصَّلِيبِ مَعَ صَلِيبِهِمْ ، وَأَصْحَابُ الْأَوْثَانِ مَعَ أَوْثَانِهِمْ، وَأَصْحَابُ
كُلِّ آلِهَةٍ مَعَ آلِهَتِهِمْ))إلى تمام الحديث ، ثم المآل في ذلك كما أخبر الله
جل في علاه: ﴿
إِنَّكُمْ
وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ(98)
لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:98-99].
أيها
المؤمنون: وإذا دخل أهل النارِ النارَ يوم القيامة ينادون نداءات بائسة لا جدوى
لها ولا منفعة طلبًا للفكاك والخلاص والنجاة ؛﴿وَنَادَوْا
يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ ﴾ [الزخرف:77]، بل ينادون نداءات بصراخ ﴿وَهُمْ
يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي
كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ
وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ﴾ [فاطر:37].
وعندما تُقسم
الأنوار على الناس قبل الصراط ؛ فيهنأ أهل الإيمان بنورهم ويعبرون الصراط بحسب تلك
الأنوار ، فينادي حينئذ أهل النفاق أهل الإيمان: ﴿ يُنَادُونَهُمْ
أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ
وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ
اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ
فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ
وَبِئْسَ الْمَصِيرُ﴾ [الحديد:14-15].
أيها
المؤمنون: وفي ذلك اليوم نداءات ونداءات ؛ نداءاتٌ لأهل الجنة ، ونداءاتٌ من أهل
الجنة ، ونداءاتٌ من رجال على الأعراف بين الجنة والنار ، ونداءاتٌ من أهل النار
ذكرها الله سبحانه وتعالى في آيات متتاليات من سورة الأعراف ؛ قال الله سبحانه: ﴿وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ
أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ
أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ
وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ
بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ
عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا
بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ
يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ
أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ
الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ
بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ
(48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ
ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ
الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا
عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا
وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا
لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) ﴾.
اللهم انفعنا بهدي كتابك يا
رب العباد ،ونجِّنا من الخزي يوم التناد . أقول هذا القول
وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب ؛فاستغفروه يغفر لكم إنه هو
الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيراً ، وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.أما بعد أيها
المؤمنون عباد الله :اتقوا الله تعالى.
عباد الله :ومن النداءات
التي تكون في ذلك اليوم وتأخذ من القلب مأخذا ؛ ما جاء في الصحيحين عن أبي سعيد
الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((يُؤْتَى بِالْمَوْتِ
كَهَيْئَةِ كَبْشٍ أَمْلَحَ فَيُنَادِي مُنَاد:ٍ يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ ؛ فَيَشْرَئِبُّونَ
وَيَنْظُرُونَ ، فَيَقُولُ هَلْ تَعْرِفُونَ هَذَا؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا
الْمَوْتُ، وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ . ثُمَّ
يُنَادِي يَا أَهْلَ النَّارِ ؛فَيَشْرَئِبُّونَ وَيَنْظُرُونَ ، فَيَقُولُ هَلْ
تَعْرِفُونَ هَذَا ؟ فَيَقُولُونَ نَعَمْ هَذَا الْمَوْتُ ،وَكُلُّهُمْ قَدْ رَآهُ
. فَيُذْبَحُ ثُمَّ يَقُولُ: يَا أَهْلَ الْجَنَّةِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ ،وَيَا أَهْلَ
النَّارِ خُلُودٌ فَلَا مَوْتَ )) .
وعندما يكون أهل الجنة في
نعيم الجنة العظيم وثوابها المقيم يناديهم رب العالمين نداءً عظيمًا فيه أعظم
تكرمة لأهل الجنة -نسأل الله الكريم من فضله- ففي صحيح مسلم أن النبي صلى الله
عليه وسلم قال : ((إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ يَقُولُ اللَّهُ
تَبَارَكَ وَتَعَالَى: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ أَلَمْ
تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا !أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ!قَالَ
: فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ
النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ)) .
هذا وصَلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله
بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ
عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:56] ، وقال صلى الله عليه وسلم:((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً
صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بهَا عَشْرًا)).
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على
إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌمجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت
على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميدٌ مجيد.وارضَ اللَّهم عن الخلفاء الراشدين ؛
أبي بكرٍ وعمرَ وعثمان وعلي ، وعن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ
إلى يوم الدين، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعز الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك
وكتابك وسنَّة نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المستضعفين في
كل مكان ، اللهم أيِّدهم بتأييدك واحفظهم بحفظك يا رب العالمين .
اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا .
اللهم أمِّن حدودنا ، واحفظ جنودنا يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك
،واجعل عمله في رضاك ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال
وصالح الأعمال .
اللهم
آت نفوسنا تقواها ، وزكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها . اللهم إنا
نسألك الهدى والتقى والعفة والغنى . اللهم اغفر لنا ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم
وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات .اللهم أغثنا ،
اللهم أغثنا ، اللهم أغثنا ، اللهم إنا نسألك غيثًا مُغيثا ، هنيئًا مريئا ، سحًّا
طبقا ، نافعًا غير ضار ، عاجلًا غير آجل . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة
حسنة وقِنا عذاب النار .
﴿سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ
(180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ
الْعَالَمِينَ﴾.
وللمزيد
من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125
|