فضل شهر رمضان وبيان بعض أحكامه
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ من يهده الله فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْْ اتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلا وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ ﴾ . ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ . ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِين ءَامَنُواْ اتَّقُوا اللهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعِ اللهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ . أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثةٍ بدعة وكل بدعةٍ ضلالة، وكل ضلالةٍ في النار.
عباد الله: يقول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ .
يُخبر الله تعالى في هذه الآية أنَّ هذا القرآن واعظ ومنذر عن كل عمل يوجب سخط الله وغضبه وعقابه, ومذكّرٌ لجميع العباد بما يجب عليهم من حق الله.
وكذلك هو شفاءٌ لما في الصدور من جميع الأمراض: أمراض الشبهات القادحة في العقيدة والمثيرة للشكوك, وأمراض الشهوات الصادَّة عن الانقياد لأمر الله, وشفاء لما في الصدور من الهموم والغموم والأحزان والوساوس, وهو من أعظم الأسباب الجالبة للفرح والسعادة. ولذلك أمر تعالى بالفرح بذلك فقال: ﴿ قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ﴾ الذي هو القرآن، وبعثة الرسول صلى الله عليه وسلم, والدين والإيمان وعبادة الرحمن ﴿ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ من متاع الدنيا ولذاتها.
فنعمة الدين المتصلة بسعادة الدارين، لا نسبة بينها، وبين جميع ما في الدنيا، مما هو مضمحلٌ زائلٌ عن قريب. وهذا يدل على أن الفرح الحقيقي والاستبشار، إنما يكون بأمور الدين, وأما الدنيا فلا تستحق أن يُفْرَحَ بها, أو يُهْتَمَّ لها.
وإن من أعظم المناسبات الشرعية التي يفرح بها المؤمنون:
شهر رمضان, فإن إدراكه والاجتهاد فيه خير من متاع الدنيا كلها.
وقد فرضه الله تعالى في السنة الثانية من الهجرة, وقد كان فرض الصيام على مرحلتين: الأولى: التخيير بين الصيام, وبين الفطر مع الإطعام. ثم نُسِخَ هذا الحكم, وأمر الله تعالى بصيامه على البالغ العاقل القادر, ورتب على ذلك الأجر العظيم والثواب الجزيل, وشرع الله تعالى قيام لياليه، وميّزها عن غيرها من الليالي, خاصة العشر الأواخر التي فيها ليلة القدر. روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( من صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه, ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه ), وفي رواية: ( من قام رمضان إيماناً واحتساباً ). وهو أكثر شهر يعتق الله في من النار, بل إن العتق يشمل جميع لياليه بلا استثناء, فقد روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( إذا كان أول ليلة من شهر رمضان: صُفّدت الشياطين ومردة الجنّ، وغُلّقت أبواب النيران فلم يُفتح منها باب، وفُتحت أبواب الجنة فلم يُغلق منها باب، ويُنادي منادٍ يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر ولله عتقاء من النار ، وذلك كل ليلة ). فينبغي للمؤمن أن يَقْدِرَ لهذا الشهر قدره, وأن لا يُفَرِّطَ في لحظاته, فضلا عن أيامه ولياليه، وليعلم أن الذنب فيه يختلف عن غيره, خصوصا وهو صائم, لقوله عليه الصلاة والسلام: ( مَنْ لم يدع قول الزور والعمل به والجهل فليس لله حاجة أن يدع طعامه وشرابه ).
وإذا صام العبد, لم يفسد صومه إلا بأمور:
أولها: الجماع سواء حصل إنزال أو لم يحصل .
ويلزمه مع التوبة والقضاء صيام شهرين متتابعين فإن لم يستطع فعتق رقبة فإن لم يجد أطعم ستين مسكينا. وأما من أنزل من غير جماع, سواء بسبب المداعبة أو العادة السرية، فلا تلزمه الكفارة, وإنما يتوب ويقضي فقط .
ومن المفطرات: الأكل والشرب وما كان في معنى الأكل والشرب, كالإبر المغذية, وحقن الدم إذا احتاج إليه المريض بسبب النزيف.
وأما الإبر غير المغذية: كإبر تسكين الحرارة, والحساسية, والأنسولين لمرضى السكر وما شابه ذلك مما هو ليس بمعنى الأكل والشرب فلا تفطر .
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً .
عباد الله: ومن المفطرات: التقيؤ عمداً, وأما من خرج منه القيء بغير قصد فلا شيء عليه.
ومن ذلك خروج دم الحيض والنفاس بالنسبة للمرأة .
وأما خروج دم الإستحاضة فلا يفطر, وهكذا خروج الدم بسبب الجرح أو الرعاف أو قلع الضرس وما شابه ذلك فإنها لا تفطر, لكن ألحق جمع من أهل العلم خروج دم الحجامة ومثله التبرع بالدم.
ثم اعلموا يا عباد الله أن هذه المُفطَّراتِ لاَ يُفطرُ الصائم في شَيءٌ منها إلاَّ إذا تَنَاولها عالماً ذاكرِاً مختاراً .
ومن أكل ظناً منه أنَّ الْفَجْرَ لم يَطلُع فأكلَ والفجر طالِعٌ، أو ظنَّ أنَّ الشمسَ قد غَربَتْ فأكلَ ثم تبين أنها لم تَغْرُب، فلا يُفْطِر في ذلك كلِّه. ومثْلُ ذَلِكَ لَوْ أكَلَ بعد طلوع الفجرِ ظانّاً أنَّ الْفَجْر لَمْ يطْلُعْ، فتبيَّن له بعد ذلك أنه قد طلعَ فصيامُه صحيحٌ ولا قضاءَ عليه لأنَّه كان جاهِلاً بالوقتِ .
ولا يُفْطِرُ الصائمُ بِالْكُحْلِ والقطرة في عينِه, ولا يُفْطِر بِتَقْطير دواءٍ في أذُنِه أيْضاً.
ولا يُفطِرُ بِذَوْق الطعامِ إذا لم يَبْلعْه ولا بشمِّ الطيب والْبخُورِ، لكن لا يسْتَنْشِقْ دُخانَ البَخُور لأنَّ لَهُ أجزاءً تصعدُ فربَّما وصلَ إلى المَعِدَة شيءٌ منه .
ولا يُفْطِرُ بالمضمضةِ والاستنشاقِ، لَكِنْ لا يُبالغُ في ذلك لأنَّه ربَّما وصل شيءٌ من الماءِ إلى جوفِه، ولو طارَ إلى جوفِ الصائم غُبارٌ أو دخل فيه شيءٌ بغير اختياره أو تمَضْمَضَ أوْ استَنْشَقَ فنزل إلى جوفِه شيء من الماءِ بغيرِ اختيارِهِ فصيامهُ صحيحٌ ولا قضاءَ عليه.
ولا يُفْطِرُ بالتَّسَوُّكِ، بل هو سُنَّةٌ له في النهار وآخره.
فاتقوا الله عباد الله, وتَفقَّهوا في دين الله لتعبدوا الله على بَصيرةٍ, واجتهدوا في هذا الشهر, ولا تفرّطوا في شيءٍ من أوقاته .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل اللهم ارزقنا صيام رمضان وقيامه إيماناً واحتساباً، واجعلنا فيه من العتقاء من النار، اللهم اجعله شهراً مباركاً علينا وعلى أمة محمد صلى الله عليه وسلم في جميع أنحاء الأرض، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ولا تسلط علينا من لا يرحمنا، اللهم آت نفوسنا تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللهم اجعل خير أعمالنا أواخرها وخير أعمالنا خواتمها وخير أيامنا يوم لقائك يا أرحم الراحمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أنزل على المسلمين رحمةً عامة وهداية عامةً يا ذا الجلال والإكرام اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحم حوزةَ الدين وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان ، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة، والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم اللهم سلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم من أرادنا وبلادنا بسوءٍ فأشغله بنفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميرًا له يا سميع الدعاء, اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾.
|