الفَرَحُ بِفَضْلِ اللهِ وَفَرْحَةُ الصائم
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها المسلمون: اتقوا الله تعالى, واعْلَمُوا أنَّ الفَرَحَ الحقيقي, هو الفَرَحُ بِفَضْلِ الله ورحمتِه, الذي هو القرآن والإيمان وما جاءَ بِهِ النبيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الهُدى, كما قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ * قُلْ بِفَضْلِ اللَّه وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْر مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾. وأما الفَرَحُ بِأمْرِ الدنيا, وإنْ كانَ لا يكادُ يَسْلَمُ مِنْه أَحَدٌ, إِلاَّ أنَّه لَيْسَ مَحْبوباً إلى الله, بل الأصْلُ فيهِ هو الذّم, كما قال تعالى: ﴿ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ﴾. وأما الفَرَحُ بالمعاصي فهذا هو المرَضُ الحقيقيُّ الذي بِسَبَبِه تَحْصُلُ الخسارةُ لِلمرْءِ, ما لمْ يَتَداركْهُ اللهُ بِرَحْمَتِه, فيَهْدِيهِ وَيُصلِحُ قلبه.
وَمِنَ الفَرَحِ المَشْروعِ الذي يَفْرَحُهُ المُؤمِن, ما وَرَدَ في قولِهِ عَلَيهِ الصلاةُ والسلام: ( للصائِمِ فَرْحَتانِ يَفْرَحْهُما, إذا أَفْطَرَ فَرِح, وإذا لقِيَ ربَّهُ فَرِحَ بِصَومِه ).
فالفَرْحَةُ الأولى تَشْمَلُ أمرين, أحَدُهُما: أنه أَمْسَكَ عَنِ المُفَطِّراتِ تَعَبُّداً لِلّه. وَكَذلِكَ أَفْطَرَ تَعَبُّداً لِلّه. والثاني: أن اللهَ أَعانَهُ على إِتْمامِ صَوْمِهِ وحَبْسِ نَفْسِهِ عَنِ المُفَطِّراتِ حتى غَرَبَتِ الشَّمْسُ. وهذِه حالُ المؤمن, يَفْرَحُ دائِماً إذا وَفَّقَهُ اللهُ لِإتْمامِ الطاعة, سواءً كانت صِياماً أو غَيْرَه, وَيَجِدُ في صَدْرِهِ انشِراحاً وبَهْجةً وسعادَةً أَكْثَرَ مِنْ فَرَحِهِ بِأُمُورِ الدنيا الزائِلَة. ولِذلِكَ يَفْرَحُ إذا أدَّى الصلاةَ كما أمَرَهُ اللهُ مَعَ الجماعةِ وفَرَغَ منها, ويَفْرَحُ إذا أدَّى فريضةَ الحج وأَتَمَّها, ويَفْرَحُ إذا أدَّى زكاةَ مالِهِ عَلَى وَجْهِها الشرعي, ويَفْرَحُ إذا فَرَغَ مِنْ ذَبْحِ أُضْحِيَتِه, ويَفْرَحُ إذا خَتَمَ القرآن. وهكذا شَأْنُه في عِبادَتِهِ لِرَبِّه.
والفرحةُ الثانيةُ التي يفرَحُها الصائِم: إذا لَقِيَ رَبَّه, فإنه يَفْرَح, لأنه فَعَلَ ركْناً مِن أركان الإسلامِ ومَبَانِيهِ العِظامِ طِيلَةَ حياتِه, ولَمْ يُفَرِّطْ فيه. ويَفْرَحُ بِلِقاءِ رَبِّهِ إذا ماتَ وقدْ أتَمَّ صيامَ شهْرِ رَمَضانَ معَ المسْلِمين. وَتَكْتَمِلُ الفَرْحةُ إذا قَبَضَ اللهُ روحَهُ وَهُوَ صائِم, فَقَدْ رُوِيَ عَنِ النبي صلى الله عليه وسلم أن ( مَنْ خُتِمَ له بِصيامِ يومٍ دَخَلَ الجنة ). لأنه لَقِيَ اللهَ وهو مُنْشَغِلٌ بِعِبادةِ الله, وَلَقِيَ اللهَ وخَلُوفُ فَمِهِ أَطْيَبُ مِن رِيحِ المِسك, ولَقِيَ اللهَ وبابُ الرَّيَّانِ أَمامَه لا يَدْخُلُ مِنْهُ غَيْرُ الصائمينَ, كَرامَةً مِنَ اللهِ لهم.
وهذا كُلُّهُ يَدُلُّ على أهَمِّيةِ أَثَرِ العِبادةِ على بَدَنِ المؤمن, وأَنَّ أثَرَها محبُوبٌ إلى الله, حتى لَوْ نَفَرَ مِنها الناس. ولِذلِك صارَ بَدَنُ الشهيدِ المُضَرَّجِ بالدِّماء والذي عَلاهُ الغُبارُ, يَخْتَلِف عن غَيْرِه, قالَ رسولُ اللهِ صلى الله علبيهِ وسلم: ( ما مِنْكُم مِنْ أحَدٍ يُجْرَحُ في سبيلِ الله, واللهُ أَعْلَمُ بِمَن يُجْرَحُ في سَبيلِه, إلا لَقِيَ اللهَ عز وجل كَهَيئَتِه يَومَ جُرِح, لَونُهُ لَوْنُ دَم, وَرِيحُهُ رِيحُ مِسْك ). وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( مَنِ اغْبَرَّتْ قَدَماهُ في سبيلِ الله, حَرَّمَهُ اللهُ عَلَى النَّارِ ). وقال أيضاً: ( لا يَجْتَمِعُ غُبارٌ في سبيلِ الله, ودُخَانُ جهنمَ في جَوفِ عبدٍ أبداً ). ومما يَدُلُّ على أنَّ الله تعالى يُحِبُّ أَثَرَ العبادة على عبدِه, أنَّ مَنْ ماتَ مُحُرِماً فإنَّه يُكَفَنُ في لِباسِه الذي أحْرَمَ بِه, كما في قِصَّةِ الرَّجُلِ الذي وَقَصَتْه ناقتُهُ وهو مُحْرِمٌ فمات, فقالَ رَسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ( اغْسِلُوهُ بِمَاءٍ وَسِدْرٍ، وَكَفِّنُوهُ في ثوْبَيه، وَلَا تُخَمِّرُوا رَأْسَهُ، وَلَا تُحَنِّطُوهُ، فَإِنَّهُ يُبْعَثُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلَبِّيًا ). فَنَسألُ اللهَ أن يَسْتَعمِلَنا في طاعتِه, وأن يُحْسِنَ لنا الخِتام.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً. أَمّا بَعدُ،
أيها المسلمون: روى أبو داودَ في سُنَنِهِ عن أبي ذرٍّ رضي الله عنه, عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن قامَ معَ الإمامِ حتى ينصرفَ, كُتِبَ له قيامُ لَيلَة ). وهذا مِنْ أعظَمِ نِعَمِ اللهِ علينا, إذا تَحَقَّقَ الشرْطُ المذكورُ في الحديث, وهو أن يَبْقَى المأمومُ مع إمامِه إلى أن يَفْرُغَ مِن الوِتر, فَيُكْتَبُ لهُ قيامُ ليلةٍ كاملة. فَيَنبَغي للمؤمن أن لا يَحْرِمَ نَفْسَه هذا الفضلَ العظيم, وأن يفعَلَ ذلكَ مُحْتَسِباً الأجرَ على الله, مُخْلِصاً في قيامِه, مُبْتَعِداً عن الرياءِ والمُفاخَرَةِ وتَزْيِينِ العمل.
ثم اعْلَموا يا عبادَ الله: أنَ المُسْلِمَ قد يدخلُ المسجدَ وقد فاتَتْه صلاةُ العشاءِ مع الإمام, ففي هذِهِ الحالَةِ, يَجِبُ عَلَيهِ أن يُبادِرَ بصلاةِ العشاءِ حتى لو كانَ وَحده. ولكن إذا دخَلَ مُتأَخِّراً ورأى الناسَ يُصَلُّون التراويح, فلا بأسَ أنْ يَدْخُلَ معَهُم بِنيَّةِ العشاء, ثُمَّ إذا سَلَّمَ الإمامُ, قامَ وأَتَمّ ما بَقِيَ من صلاتِه.
اللهم أعنا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول وعمل، ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول وعمل، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحمين، اللهم كما بلغتنا رمضان فارزقنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم ارزقنا صيامه وقيامه إيمانا واحتسابا، ووفقنا فيما بقي من الليالي والأيام، وتجاوز عن التقصير والآثام يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اقبل من المسلمين صيامهم وقيامهم واغفر لأحياهم وأمواتهم، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا رب العالمين، اللهم أعذهم من شر الفتنة والفرقة والاختلاف يا حي يا قيوم، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المجاهدين في سبيلك في كل مكان، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالرافضة والبعث العلويين الذين آذوا إخواننا في بلاد الشام، وعليك باليهود الذين استحلوا بلادنا ودماء إخواننا في فلسطين، وعليك بالوثنيين البوذيين الذين استحلوا دماء وأعراض إخواننا في بورما، اللهم عليك بهم, فإنهم لا يعجزونك. اللهم اشدد وطأتك عليهم واطمس على أموالهم واشد على قلوبهم وأنزل عليهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين. اللهم زلزل الأرض من تحت أقدامهم، واقذف الرعب في قلوبهم وسلط عليهم منْ يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم أنصاراً لدينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ﴿ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-132.html
|