أول جمعة في رمضان
الحمد لله الذي وفق العاملين لطاعته ، فوجدوا سعيهم مشكورا ، وحقق آمال الآملين برحمته ، فمنحهم عطاء موفورا ، الواحد الذي من قصد غيره ضل ، العزيز الذي من اعتز بغيره ذل , } إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا { .
أحمده على نعمه الجسام ، وأشكره أن من علينا بإدراك الصيام والقيام ، وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شرك له ، المتفرد بالكمال والتمام .
وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، بعثه رحمة للعالمين ، وقدوة للسالكين ، وحجة على الخلائق أجمعين ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
اتقوا الله U ، بفعل أوامره ، والبعد عما نهى عنه ، فهو القائل : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { فاتقوا الله ـ عباد الله ـ واعلموا بأنكم في موسم التقوى ، فشهر رمضان هو الوسيلة المضمونة ، والسبب الأكيد لتقوى الله U ، ولا أدل على ذلك من قوله تعالى : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { يقول الشيخ ابن سعدي ـ رحمه الله ـ في تفسيره لهذه الآية : إن الصيام من أكبر أسباب التقوى ؛ لأن فيه امتثال أمر الله ونهيه .
أيها الأخوة المؤمنون :
يوجد من الناس ، من يجعل رمضان ، موسما للأكل والشرب ، والتمتع بما لذ وطاب من أنواع الأكل ، وبعضهم يجعله موسما للمتعة المحرمة ، حيث يقضي ساعاته ولحظاته بمتابعة المسلسلات والأفلام ، وغير ذلك من الأمور التي تجعل الإنسان أبعد الناس عن التقوى .
نعم ـ أيها الأخوة ـ يوجد من الناس ، من يأتي عليه رمضان ويخرج ، وهو ابعد الناس عن التقوى ، بسبب ما ذكرنا وغير ذلك . فاحذر ـ أخي المسلم ـ أن تكون منهم ، يقول النبي e : (( رب صائم حظه من صيامه الجوع والعطش )) ويقول أيضا صلوات ربي وسلامه عليه : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) فالصيام إذا لم يثمر تقوى الله U ورضاه ، فإنه لا ثمرة له غير الجوع والعطش . لذا ـ أيها الأخوة ـ يجب على المسلم أن يكون كيسا فطنا ، وأنتم إن شاء الله كذلك ، وقفة مع النفس ، محاسبة لها ، تخطيط للفوز بتقوى الله U ، والحذر كل الحذر من التسويف والإهمال ، لأن الوقت ثمين إذا فات فإنه لا عوض له البتة .
أيها الأخوة المؤمنون :
فلنحذر مما يفسد ثمرة صومنا ، ولنحرص خلال هذا الشهر ، الذي ماهو إلا أيام معدودات ، على ما يرضي ربنا U . يقول تبارك وتعالى : } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ { أيام معدودات ، ليست بكثيرة ، فلنجعل هذه الأيام ، وسيلة لما يقربنا عند الله U ، نقطع عهدا على هذه النفس ، الأمارة بالسوء ، أن لا تفعل في هذه الأيام ، إلا ما يكون في ميزان حسناتها ، فإن رضيت ووافقت فالحمد لله ، وإن أبت إلا التمرد ، والجري خلف شهواتها وملذاتها ، فليس هناك إلا الجهاد ، نجاهد هذه النفس ، والله يقول : } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { نجاهدها مجاهدة جادة ، وأول ما نبدأ به ، حق الله جل جلاله ، ما موقعها من طاعته ، وما موقفها من محبته وتقديم أمره وتعظيم نهيه ، كيف هي والإيمان به ، كيف هي والتصديق بوعده والخوف من وعيده . ثم ننتقل بها إلى ما يجب للرسول e ، نحاسبها ، كيف هي واتباعه e ، كيف هي والتمسك بسنته e ، ثم نحاسبها ونجاهدها ، عن ما تفعل بهذه الجوارح ، ما ذا ترى العين ؟ أتنظر إلى المسلسلات ، أتقلب طرفها بالكاسيات العاريات ؟ نقول لها لا يا عين . فنحن في رمضان ، في شهر القرآن والقيام والصيام ، لا يحل لك ذلك . تأملي في ملكوت الله ، انظري إلى آيات الله ، اقرئي في كتاب الله ، تدبري آيات الله ، فكل حرف بحسنة ، والحسنة بعشر أمثالها .
وأنتِ أيها الأذن ، ماذا تسمعين في رمضان ، الأغاني ، الغيبة والنميمة ، القيل والقال ، لا ، لا يحل لك ذلك ، فنحن في رمضان ، أسمعي كلام الله ، أسمعي كلام النبي e ، واحذري ما سوى ذلك .
وأنتِ أيها الرجل ، تمشين إلى ماذا ؟ إلى الاستراحات لتضييع الأوقات ، إلى أبغض البقاع إلى الله ، الأسواق ، لا يا رجل ، هذا رمضان ، فإلى بيوت الله ، إلى صلاة التراويح ، فإن القيام مع الإمام حتى ينصرف سبب في مغفرة الذنوب .
وأنت أيها أللسان ، تنطق بماذا ، ما زلت على ما كنت قبل رمضان ، لا يا لسان : فهذا رمضان : فقل خيرا أو أصمت . تتلوا كتاب الله نعم ، تذكر الله نعم ، تأمر بالمعروف نعم ، تنهى عن المنكر نعم ، تدعو إلى الله نعم ، وإما أنك تهذي بما هو شر ووبال عليك ، لا وألف لا .
هكذا ـ أيها الأخوة ـ نحاسب النفس ، محاسبة جادة ، ونوقفها عند حدها.
نحاسبها مع أهل بيوتنا ، ومع زوجاتنا ، ومع أولادنا ، هل وقتهم النار ، أم أنها أضحت غاشة لهم .مع الجيران ، مع الأقارب ، مع الأرحام ، بل حتى مع عامة الناس ، ما ضابطها عند التعامل مع هؤلاء ؟ أهو الشرع أم حظها والشيطان .
نحاسبها أيها الأخوة ، على ذلك كله ، ولا ندع لها فرصة أبدا ، وعندما نرى منها استكبارا وعنادا وتمردا ، نقول لها : يا نفس ، لا تحاولي ، فوالله الذي لاإله غيره ، لو تقطعت إربا إربا ، ما تركنا طاعة الله ، وما تركنا ما يرضي الله ، ولن نفرط في هذا الشهر ، فإننا لا نحتمل دعاء جبريل الذي أمن عليه النبي e ، فقال : (( من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ، قل آمين ، فقال النبي e آمين )) . فنحن نريد أن تغفر ذنوبنا ، وأن لا نطرد من رحمة ربنا.
اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه ، اللهم اجعلنا من الذين يصومونه ويقومونه إيمانا واحتسابا ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
ومن الأمور الهامة الذي ينبغي أن نهتم بها ونحاسب النفس عليها ، بل ونجاهدها لاستغلالها ، الوقت ، فللنفس مع الوقت حيل شيطانيه ، فإنها تبرر للصائم ، أو لبعض الصائمين ، بأن يقضي وقته بما لا ينفع أحيانا ، فتجعله مثلا يكثر من النوم ، أو يصير شغله الشاغل الطعام والشراب ، فإذا أصبح صار همه فطوره ، وإذا أمسى صار همه سحوره ، أو يكثر من مخالطة الناس في الأسواق ، وهذه الأمور ـ أيها الأخوة ـ من مفسدات القلب والعياذ بالله ، يقول أبن القيم رحمه الله تعالى : وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة والتمنى والتعلق بغير الله والشبع والمنام ، فهذه الخمسة من أكثر مفسدات القلب.
فا الله الله أيها الأخوة ، أحفظوا أوقاتكم وخير ما تحفظ به الأوقات كتاب الله تعالى ، فشهر رمضان هو شهر القرآن.
أيها الأخوة المؤمنون :
ومما لا شك فيه ، أن كل واحد منا يتمنى لو يصوم يوما ويكتب له عند الله أياما ، فعلى من أراد ذلك صادقا جادا ، فعليه أن يبذل من ماله ، أو يبذل من طعامه وشرابه ، فالرسول e يقول : (( من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا يتقص من أجره شيء )) فكلما فطرت صائما كتب لك يوما كصيامه.
اسأل الله العظيم ـ رب العرش العظيم ، أن يوفقنا لهداه ، وأن يجعل عملنا في رضاه ، وأن يجنبنا ما يسخطه ويأباه ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك عز الإسلام ونصر المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ، وبالنصارى الحاقدين ، وبكل من عادى عبادك المؤمنين .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين .
اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك وتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم ، واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون . |