حال الناس عند النوازل والمحن
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} }آل عمران.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}} النساء{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71}} الأحزاب.
عباد الله:
اتقوا الله حق التقوى, واعلموا أن النوازل والأحداث , والكوارث لتمر بالإنسان طوال حياته, مادام على هذه البسيطة, وهو يرى ويسمع, ويشاهد ويحسّ, وربما داهمته في بعض الأحيان, فإما ناج منها, وإما واقع فيها, ولكن الناس يتفاوتون تفاوتاً كبيراً تجاه هذه النوازل, فمنهم المسلِّم لقضاء الله وقدره , المتهم نفسه بالتقصير والذنوب, ومنهم المستخطٍ المتسائل عن أسبابها, وهو أحدُ الأسباب, ولكنه لا يشعر, { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11} أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ {12}} البقرة.
فالناس أصناف في هذه الحياة :
صنف تائب, منيب عائد إلى ربه, عالم بأنه ما نزل بلاء إلا بذنب, وما رفع إلا بتوبة, فهو شديد المحاسبة لنفسه , منيب إلى ربه, كما يفعل الصالحون عند حلول النوازل بهم, حيث يلجأون إلى الله بالدعاء والتضرع , كما فعل نبي الله أيوب, عندما أحس بالابتلاء والامتحان, قال الله فيه :{ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعاً وَأَنَابَ {24}}ص.
وكذلك نبيه أيوب _عليه السلام_: { وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ {83}}الأنبياء.
وكذلك قوم يونس, عندما خرج منهم نبيهم مغاضباً, توقعوا العذاب العاجل, ولكنهم بادروا بالتوبة, فخرجوا بأطفالهم, ونساءهم, وأنعامهم, ولبسوا المسوح, وفرقوا بين الأمهات والأولاد, فكشف الله عنهم العذاب , قال تعالى :{ فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ {98}} يونس.
والرسول صلى الله عليه وسلم , عندما قابل المشركين في غزوة بدر الكبرى , تضرع إلى الله ليلة كاملة, حتى سقط ردائه صلى الله عليه وسلم, فحصل النصر المؤزر من الله عز وجل , وهكذا صحابته الكرام من بعده عند حصول الشدائد.
إنهم قوم توكلوا على الله حق التوكل, اعتمدوا عليه, التجؤوا إليه في يسرهم وعسرهم, ارتباطهم به وثيق, وإنابتهم صادقة, لا حول ولا قوة إلا به.
لذلك فتحوا الدنيا شرقاً وغرباً , نشروا الدين, حكموا بالعدل , فدانت لهم المماليك, وذلت أمامهم الصعاب, قوم خافوا الله في الرخاء, وتعرفوا عليه, فعرفهم في الشدة , وفرج همومهم وغمومهم, قوم كان الرجل منهم يحاسب نفسه أياماً, من أجل كلمة خرجت من فيه, قوم أجسادهم في الأرض, وقلوبهم في السماء, قوم جعلوا حب الدين في قلوبهم, وحب الدنيا في أكفهم , فإذا تعارض ما في القلب مع ما في الكف, هان عليهم ما في أكفهم , وعظم عندهم ما في قلوبهم , قوم فرسان بالنهار , رهبان بالليل, لهم في رسول الله صلى الله عليه وسلم أسوة حسنة, يقومون الليل حتى يسمع لصدورهم أزيز كأزيز المراجل من البكاء.
أيها المؤمنون :
أنتم مأمورون بالإنابة إلى الله عز وجل في كل الأوقات , قال تعالى:{ وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له } , والإنابة, والتوبة, والاستغفار, والعودة إلى الله عز وجل سبب في رفع العذاب عن الأمة , وسبب في جمع شملها بعد فرقته, وسبب في النصر على الأعداء , والإنابة الصادقة إذا عُجِّل بها, عجل الله برفع العذاب.
ومن أمثلة الإنابة والرجوع إلى الله عند النوازل والشدائد, ما ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية:
أنه حصل في المدينة أمر عظيم, في سنة أربع وخمسين وستمائة, فيه تصديق لما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :" لا تقوم الساعة حتى تخرج نار من أرض الحجاز تضيء لها أعناق الإبل ببصرى".
قال نقلاً عن قاض المدينة شمس الدين بن سنان الحسيني, قال: لما كانت ليلة الأربعاء , ثالث جمادى الآخر من السنة المذكروة, حدث بالمدينة بالثلث الأخير من الليل زلزلة عظيمة , أشفقنا منها , رجت الأرض منها والحيطان والسقوف والأخشاب ساعة بعد ساعة إلى يوم الجمعة , ثم ظهرت نار عظيمة في الحرة , قريبة من قريظة , نبصرها من دورنا من داخل المدينة كأنها عندنا , ثم سالت أودية بالنار, فطلعنا جماعة نبصرها فإذا الجبال تسيل نيراناً, فارتاع الناس لها روعة عظيمة , ثم ظهر لها دخان عظيم في السماء , ينعقد حتى يبقى كالسحاب الأبيض , ثم ظهرت النار لها ألسن تصعد في الهواء إلى السماء حمراء كأنها القلعة, وعظمت وفزع الناس إلى المسجد النبوي وإلى الحجرة الشريفة , وأحاطوا بالحجرة وكشفوا رؤوسهم وأقروا بذنوبهم وابتهلوا إلى الله تعالى , وأتى الناس إلى المسجد من كل فج من فجاج المدينة, وخرج النساء والصبيان من البيوت , واجتمعوا كلهم وأخلصوا إلى الله , وغطت حمرة النار السماء كلَّها حتى بقي الناس في مثل ضوء القمر وأيقن الناس بالهلاك أو العذاب, وبات الناس تلك الليلة بين مصلٍّ , وتال للقرآن , وراكع وساجد , وداعٍ إلى الله عز وجل , ومنتصل من ذنوبه ومستغفر وتائب , ولزمت النار مكانها , وتناقص تضاعفها ذلك , ولهيبها.
قال قاضي المدينة : فذهبت إلى الأمير , وكلمته وقلت له : قد أحاط بنا العذاب , ارجع إلى الله تعالى .
فأعتق كل مماليكه , ورد على جماعة أموالهم , فلما فعل ذلك , قلت : اهبط معنا الساعة إلى مسجد النبي صلى الله عليه وسلم , فهبط , وبتنا تلك الليلة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم..... إلى أن قال : والمدينة قد تاب جميع أهلها , ولا بقي يسمع فيها رباب, ولا دف, ولا شرب...
وبهذا رفع الله عنهم العذاب.
أيها المؤمنون:
إن الإنابة إلى الله عز وجل, من أسباب رفع البلاء عن الأمة, ومن الأسباب الجالبة لمرضاة الله عز وجل, ولكن يشترط فيها أن تكون إنابة صادقة, وتوبة نصوحاً.
أيها المؤمنون:
عجباً لأمر كثير من الناس في هذا الزمان, يقيمون على المعاصي, ويقولون, ويتساءلون يا ترى!! ما هي الأسباب التي أدت بالأمة الإسلامية إلى هذه الانتكاسة العظيمة؟
فآكل الريا , والمتعامل بالفوائد مقيم عليها , ويتساءل عن تقاطع المسلمين وتدابرهم, وآكل الحرام , وشاربه مدمن عليه , ويتساءل عن الأمة, وعاق الوالدين مقيم على عقوقه, والآمر بالمعروف والناهي عن المنكر متهم بالتطرف , وناشر الفساد بين أوساط الشباب, يعرض بضاعته صباح مساء في محلات الفيديو , ويتساءل لماذا أصيب المسلمون؟؟
وصاحب المزامير, والغناء الساقط, يسمع مَنْ حوله , وربما ارتج الشارع بأكمله غناءً, ومزاميراً, ومجوناً , وعندما تنصحه قال لك : الظاهر أنك لا تجيد القراءة.
فتسأله ما السبب؟ فيرد عليك قائلاً: انظر إلى الترخيص المثبت على الجدار , فإنا لله وإنا إليه راجعون.
وعارض صور النساء في المجلات الساقطة, كان يعرضها داخل المحل , وعندما سمع ما حل بنا, عرضها خارج المحل , وربما ضيق عليك الرصيف بها.
أيها المسلمون:
أيقال لنا عائدون ؟ أيقال لنا تائبون؟ أيقال لنا متعظون بما حصل؟ ونحن نقيم على مثل هذه المنكرات , ونؤجرهم المحلات , ونتسابق في إخراج التراخيص لها .
عباد الله :
كثير منا يدعي العودة إلى الله , ويقول اتعظنا بما حصل , ولكن في الحقيقة أنها مخادعة للنفس , لأن الإدعاء شيء , والحقيقة شيء آخر , الناس على حالهم قبل الأحداث وبعدها , وربما صار بعضهم بعد الأحداث أسوأ حالاً , وذلك بنقصان توكله على الله, واعتماده على غيره , فنسأل الله السلامة والعافية.
أيها المؤمنون:
إن العودة بالأقوال والإدعاءات لا تكفي , ولا بد من عمل يظهر على جوارح المؤمن , وعلى سلوكه, ومعاملاته , وتصرفاته, وبمحاسبة دقيقة لنفسه عن تقصيرها, وملاحظة لأسرته وبيته, وما يحويه من الأشياء التي لا ترضي الله , وإن كان من أهل الكبائر والمحرمات , أقلع عنها , وإن كان من أهل الصغائر تاب إلى الله, وأبدلها حسنات ترفعه عند الله, يوم لا ينفع مال ولا بنون, إلا من أتى الله بقلب سليم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ {8}} التحريم
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, إنه تعالى جواد كريم ملك برّ رؤوف رحيم .
|