حق الله على العباد
الحمد لله رب العالمين, والصلاة والسلام على نبينا ورسولنا محمد, وعلى آله وأصحابه أجمعين, أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة, وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ {102} }آل عمران.
{ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً {1}} النساء
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً {70} يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً {71}} الأحزاب.
عباد الله :
يقول الله جل جلاله:{ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ{56}}الذاريات.
ويقول سبحانه:{ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً{110}} الكهف.
ويقول سبحانه:{ وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99}} الحجر.
ويقول سبحانه:{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً} والآيات في هذا كثيرة.
وفي الصحيحين , عن معاذ بن جبل رضي الله عنه قال: كنت رديف النبي صلى الله عليه وسلم على حمار, اسمه يعفور, فقال:" يا معاذ! أتدري ما حق الله على العباد ؟ وحق العباد على الله ؟ قلت: الله ورسوله أعلم, قال: حق الله على العباد؛ أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً , وحق العباد على الله؛ ألاَّ يعذب من لا يشرك به شيئاً".
وعبودية الله تكون في توحيده, وإخلاص العمل له سبحانه , والخوف منه, والإقبال عليه والإخبات له, وذل القلوب قبل الجوارح , وخضوعها له سبحانه وتعالى, والقيام بأوامره كلها, واجتناب نواهيه, واتباع النبي صلى الله عليه وسلم, فإذا اجتمع للمؤمن حسن القصد, وحسن الاتباع ؛ فقد أفلح, وأنجح , وكان من عباد الله المفلحين .
أيها الناس:
إن عبودية الله كما أمر, سبب لكل خير على وجه الأرض, كما أن الشرك بالله, سبب لكل شرٍ, وفتنة, وبلاء.
أيها الناس:
ما أصابكم من حسنة, فمن الله, وما أصابكم من خير وفضل فمنه جلَّ وعلا.
قال نوح عليه السلام لقومه, كما أخبر الله عز وجل عن ذلك, فقال: { فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً {10} يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً {11} وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً {12}} نوح.
ويقول سبحانه:{ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ}}الأعراف.
فعبودية الله جالبة لأصناف الخيرات , من الأمن في الأوطان , والصحة في الأبدان, والصلاح في الأهل, والأولاد, والأموال, واجتماع القلوب والأبدان على وفق رضى الرحمان , وصلاح الراعي والرعية بإذن المنان.
أيها الناس:
قوموا بحق الله عليكم خير قيام؛ إن أردتم المزيد من الفضل والإنعام, واحذوا كفره, أو كفر نعمته, أو غضبه , أو مخالفة أمره , أو ارتكاب ما نهى الله عنه , أو نهى عنه رسوله صلى الله عليه وسلم.
واعلموا أن عبودية الله جالبة للنصر على الأعداء , والتمكين في الأرض , قال تعالى:{ إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ{51}}غافر
ويقول سبحانه:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7}} محمد
ويقول النبي صلى الله عليه وسلم:" النصر مع الصبر".
أيها الشباب:
قوموا بعبودية ربكم تفوزوا برضى ربكم في الدارين , واحذروا الصوارف عنها والملهيات التي كثرت في هذا الزمان , فصدت خلقاً كثيراً عن عبودية الرحمان.
واعلموا أن الحملات قد جندت لصدكم عن الصراط المستقيم , من خلال هذا الخبث الفضائي الذي تتلقونه عن أعدائكم , أو عن طريق أذنابهم ودعاتهم , فكونوا أكياساً فطنين, ولا تكونوا غافلين , فإن أعدائكم لم يغفلوا ساعة عنكم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم :{ وَاعْبُدُواْ اللّهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً {36}} النساء.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم , ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, إنه تعالى كريم ملك بر رؤوف رحيم.
----------------------------------------------------------------------------
حق الله على العبيد
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله .
أما بعد :
فقد أمر الله عز وجل الناس بعبادته في مواطن كثيرة من كتاب الله, وفي أحاديث عظيمة من سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
فقال سبحانه: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ {21} } البقرة.
وقال تعالى: { وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ {56}} الذاريات .
وقال تعالى:{بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُن مِّنْ الشَّاكِرِينَ {66}} الزمر .
وقال تعالى: { وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً }الإسراء.
وقال تعالى : { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ {64}}آل عمران.
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ رضي الله عنه:" أتدري ما حق الله على العباد ؟ قال : قلت : الله ورسوله أعلم , قال : أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً " .
وكان يقول صلى الله عليه وسلم: " اعبدوا ربكم, وصلوا خمسكم " رواه الأمام أحمد.
وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع من حج أو عمرة أو جهاد يكثر من قول : "آيبون تائبون عابدون ساجدون لربنا حامدون "متفق عليه.
وكان يستغفر في المجلس الواحد أكثر من سبعين استغفار.
وكان صلى الله عليه وسلم عاملاً بقول ربه عز وجل : { وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ {99}}الحجر.
وفي البخاري معلقاً والمسند موصولاً, قال صلى الله عليه وسلم : " أحب الدين إلى الله الحنيفية السمحة " .
وقال أبي بن كعب رضي الله عنه : ( وأن اقتصادا في سبيل وسنة خير من اجتهاد في خلاف سبيل وسنة ).
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : ( يا حبذا نوم الأكياس وإفطارهم, كيف يغبنون سهر الحمقى وصومهم, ومثقال ذرة من بر مع تقوى ودين, أعظم وأفضل وأرجح من أمثال الجبال من عبادة المغترين ).
إذا علم هذا فإن العبَّاد انقسموا في عبادة ربهم إلى أقسام ثلاثة:
قسم غلا في الدين وتشدد فوقع في المحظور, وهو قوله صلى الله عليه وسلم : "إياكم والغلوا في الدين " رواه ابن ماجة والنسائي.
وقال صلى الله عليه وسلم : " لن يشادَّ الدين أحدٌ إلا غلبه "رواه البخاري.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على من عزم التبتل والاحتفاء, وقيام الليل وصيام النهار, وقراءة القرآن كل ليلة؛ كعبد الله بن عمرو بن العاص, وعثمان بن مظعون وغيرهم, ولكن! قال صلى الله عليه وسلم :" أما أنا فأصوم وأفطر, وأقوم وأنام, وأتزوج النساء, فمن رغب عن سنتي فليس مني "متفق عليه .
وغالب أحوال الغالي في الدين أن لا يستمر, إما يعجز أو ينتكس, لأنه خالف هدي المصطفى صلى الله عليه وسلم .
أما القسم الثاني من أقسام العبَّاد :
فهم مقصرون في عبادة ربهم, تاركون لبعض أوامره أو كلها, منهكون لبعض محارمه وحدوده, مرجئون في أعمالهم, متكلون على رحمة الله؛ بل متواكلون, يوماً عباد ويوماً فجار, يوماً بصحبة الأخيار ويوماً بصحبة الأشرار, فهؤلاء على خطر عظيم إن لم يتداركوا أنفسهم وينيبوا إلى ربهم, ولهم علامات يتصفون بها عن بقية الأقسام, فهم أقل الناس ورعاً, وأقربهم إلى الوقوع بالبدع والخرافات, عباداتهم عادات, وعندما يذكرون يقولون: وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مهتدون .
ينفرون من سنن الرسول صلى الله عليه وسلم كنفور الوحش, يأخذون من الدين ما يوافق أهواءهم وطبائعهم ورغباتهم, ينشطون في المعاصي, ويكسلون عن الطاعات, يأنسون ببعضهم, ويستوحشون من ملتزم السنة, قلوبهم عامرة بحب الدنيا, خراب من حب الآخرة, فالحذر الحذر منهم أو الاتـصاف ببعض صفاتهم 0
أما أهل القسم الثالث:
فهم أسعد الناس, وأتقى الناس, وأعبد الناس لربهم ,
تأملوا هدى الرسول صلى الله عليه وسلم فاهتدوا به, واقتفوا أثره وعظموا سنته صغيرها وكبيرها, ساروا على نهج أسلافهم من صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم والتابعين, أخذوا بقوله صلى الله عليه وسلم:" سدّدوا, وقاربوا واغدوا, وروحوا, وشيء من الدلجة والقصد, القصد تبلغوا"رواه البخاري .
قال ابن رجب الحنبلي _رحمه الله_ معنى (سددوا وقاربوا ):
المراد بالتسديد: العمل بالسدّاد وهو القصد, والتوسط في العبادة فلا يقصر فيما أمر به, ولا يحمل فيها ما لا يطيق.
قال النضر بن شميل: السداد القصد في الدين والسبيل .
فالاقتصاد في السنة خير من الاجتهاد في غيرها, وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم, فمن سلك طريقه كان أقرب إلى الله من غيره, وليست الفضائل بكثرة الأعمال البدنية, لكن بكونها خالصة لله عز وجل صواباً على السنة , كما قال الفضيل بن عياض . ولهذا قال بعض السلف: ما سبقهم أبو بكر بكثرة صوم ولا صلاة ولكن بشيء وقر في صدره.
وقال بعضهم: الذي كان في صدر أبي بكر رضي الله عنه المحبة لله, والنصيحة لعباده.
وقال طائفة من العارفين : ما بلغ من بلغ بكثرة صيام, ولا صلاة, ولكن بسخاوة الأنفس, وسلامة الصدر, والنصيحة للأمة, زاد بعضهم : وبذم نفوسهم.
وقال آخر منهم : إنما تفاوتوا بالإرادات, ولم يتفاوتوا بكثرة الصيام والصلوات.
وذكر لأبي سليمان طول أعمار بني إسرائيل وشدة اجتهادهم في الأعمال, وأن من الناس من غبطهم بذلك, فقال : إنما يريد الله منكم صدق النية فيما عنده, أو كما قال .
وقال ابن مسعود _رضي الله عنه_ لأصحابه: أنتم أكثر صوماً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم, وهم كانوا خيراً منكم, قالوا : وبم ذاك ؟ قال: كانوا أزهد منكم في الدنيا, وأرغب في الآخرة.
يشير إلى أن الصحابة رضي الله عنهم, فاقوا على من بعدهم بشدة تعلق قلوبهم بالآخرة, ورغبتهم فيها , وإعراضهم عن الدنيا بتحقيرها وتصغيرها, وإن كانت في أيديهم, فكانت قلوبهم منها فارغة, وبالآخرة ممتلئة, وهذه الحال ورثوها من نبيهم صلى الله عليه وسلم, فإنه كان أشدَّ الخلق فراغاً قلبه من الدنيا, وتعلقه بالله والدار الآخرة, مع ملابسته للخلق بظاهره, وقيامه بأعباء النبوة, وسياسة الدين والدنيا .
وكذلك خلفاؤه الراشدون بعده, وكذلك أعيان التابعين لهم بإحسان, كالحسن وعمر بن عبد العزيز, وقد كان في زمانهم من هو أكثر منهم صوماً وصلاةً , ولكن لم يصل قلبه إلى ما وصلت إليه قلوب هؤلاء من ارتحالها عن الدنيا وتوطّنها في الآخرة().
قال العلامة السعدي :
ما أعظم هذا الحديث وأجمعه للخير والوصايا النافعة والأصول الجامعة , فقد أسس صلى الله عليه وسلم في أوله هذا الأصل الكبير فقال : " إن الدين يسر" أي ميسرٌ مسهل في عقائده وأخلاقه وأعماله , وفي أفعاله وتروكه, فإن عقائده التي ترجع إلى الإيمان بالله, وملائكته, وكتبه, ورسله, واليوم الآخر, والقدر خيره وشره, هي العقائد الصحيحة التي تطمئن لها القلوب, وتوصل مقتديها إلى أجلِّ غاية, وأفضل مطلوب, وأخلاقه وأعماله أكمل الأخلاق, وأصلح الأعمال, بها صلاح الدين والدنيا والآخرة, وبفواتها يفوت الصلاح كلّه , وهي كلها ميسرة مسهلة , كل مكلف يرى نفسه قادراً عليها لا تشق عليه ولا تكلفه , عقائده صحيحة بسيطة تقبلها العقول السليمة , والفطر السليمة , وفرائضه أسهل شيء 0
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم , ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين إنه هو الغفور الرحيم
------------------------
|