حاجة الإنسان إلى عبادة الإحسان
الحمد لله حمدًا كثيرًا طيبًا مبارَكًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى،
والشكر له على ما أوْلى من نعمٍ سائغةٍ وأسدى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا
شريك له إله الأولين والآخرين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه من خلقه
وخليله، صلى الله عليه وعلى آله نجوم المهتدين، وصحابته الـغر الميامين وسلّم
تسليما كثيراً إلى يوم الدين.
أمَّا بعدُ: فأوصِيكمْ - عِبادَ اللهِ - ونفسِي بتقْوَى اللهِ
تعالَى؛ فتقوى الله خير زاد للنجاة يوم المعاد.
عباد
الله: قال ابْنَ مَسْعُودٍ رضي الله عنه : إِنَّ أَجْمَعَ آيَةٍ فِي الْقُرْآنِ
فِي سُورَةِ النَّحْلِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ}
وقَدْ
وَرَدَ فِي نُزُولِ هَذِهِ الْآيَةِ الْكَرِيمَةِ حَدِيثٌ حَسن، رَوَاهُ
الْإِمَامُ أَحْمَدُ:
وعن
عُثْمَانَ بْنِ أَبِي الْعَاصِ قَالَ: كُنْتُ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى
اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جَالِسًا إِذْ شَخَصَ بَصَرُهُ فَقَالَ:
"أَتَانِي جِبْرِيلُ فَأَمَرَنِي أَنْ أَضَعَ هَذِهِ الْآيَةَ بِهَذَا
الْمَوْضِعِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ: {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ
وَالْإِحْسَانِ}
قال
ابن كثير : وَهَذَا إِسْنَادٌ لَا بَأْسَ بِهِ
وعَنْ
شَدَّادِ بْنِ أوْس رضي الله عنه: أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم
قَالَ: "إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْإِحْسَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ. فَإِذَا
قَتَلْتُمْ فأحْسِنوا الْقِتْلَةَ وَإِذَا ذَبَحْتُمْ فَأَحْسِنُوا الذِّبْحَةَ.
وَلْيُحِدَّ أَحَدُكُمْ شَفْرَتَهُ ولْيُرِحْ ذَبِيحَتَهُ" رَوَاهُ مسلم.
الإحسان
نوعان: إحسان في عبادة الخالق، بأن يعبد الله كأنه يراه فإن لم يكن يراه فإن الله
يراه. وهو الجد في القيام بحقوق الله على وجه النصح، والتكميل لها. وإحسان في حقوق
الخلق.
وأصل
الإحسان الواجب، أن تقوم بحقوقهم الواجبة، كالقيام ببر الوالدين، وصلة الأرحام،
والإنصاف في جميع المعاملات، بإعطاء جميع ما عليك من الحقوق، كما أنك تأخذ مالك
وافياً، قال تعالى: {وَاعْبُدُواْ اللهَ وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا
وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ
وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالجَنبِ وَابْنِ
السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ} [النساء: 36] فأمر بالإحسان إلى جميع
هؤلاء.
ويدخل
في ذلك الإحسان إلى جميع نوع الإنسان، والإحسان إلى البهائم، حتى في الحالة التي
تزهق فيها نفوسها، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلم: "فإذا قتلتم فأحسنوا
القِتْلة". فمن استحق القتل لموجب قتل يضرب عنقه بالسيف، من دون تغرير ولا
تمثيل.
وقوله
صلّى الله عليه وسلم: "إذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة" أي: هيئة الذبح وصفته.
ولهذا قال: "وليُحِدَّ أحدكم شَفرته" أي: سكينه: "وليرح
ذبيحته" فإذا كان العبد مأموراً بالإحسان إلى من استحق القتل من الآدميين،
وبإحسان ذبحة ما يراد ذبحه من الحيوان. فكيف بغير هذه الحالة؟
واعلم أن الإحسان المأمور به نوعان:
أحدهما:
واجب، وهو الإنصاف، والقيام بما يجب عليك للخلق بحسب ما توجه عليك من الحقوق.
والثاني:
إحسان مستحب. وهو ما زاد على ذلك من بذل نفع بدني، أو مالي، أو علمي، أو توجيه
لخير ديني، أو مصلحة دنيوية، فكل معروف صدقة، وكل ما أدخل السرور على الخلق صدقة
وإحسان. وكل ما أزال عنهم ما يكرهون. ودفع عنهم ما لا يرتضون من قليل أو كثير، فهو
صدقة وإحسان.
ولما
ذكر النبي صلّى الله عليه وسلم قصة البغيّ التي سقت الكلب الشديد العطش بخفيها من
البئر، وأن الله شكر لها وغفر لها. قالوا لرسول الله صلّى الله عليه وسلم:
"إن لنا في البهائم أجراً قال: في كل كبد حَرَّى أجر". متفق عليه
فالإحسان:
هو بذل جميع المنافع من أي نوع كان، لأي مخلوق يكون، ولكنه يتفاوت بتفاوت المحسَن
إليهم، وحقهم ومقامهم، وبحسب الإحسان، وعظم موقعه، وعظيم نفعه، وبحسب إيمان المحسن
وإخلاصه، والسبب الداعي له إلى ذلك.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه
من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من
كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمدُ للهِ علَى إحسانِهِ، والشكرُ له علَى تَوْفيقِهِ
وامتنانِهِ، وأشهدُ أنْ لا إلَهَ إلاّ اللهُ وحدَهُ لا شريكَ له تعظيماً لشانِهِ،
وأشهدُ أنَّ محمداً عبدُهُ ورسولُهُ الداعِي إلى رضوانِهِ، صلَّى اللهُ عليهِ
وسلَّمَ وعلَى آلهِ وأصحابِهِ.
أمَّا بعدُ:
ومن أجَلِّ أنواع الإحسان:
الإحسان إلى من أساء إليك بقول أو فعل. قال تعالى: {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ
أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ، وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو
حَظٍّ عَظِيمٍ} [فصلت:34-35] ومن كانت طريقته الإحسان أحسن الله جزاءه: {هَلْ
جَزَاء الإِحْسَانِ إِلا الإِحْسَانُ} [الرحمن:60] {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ
الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} [يونس:26] {لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ
الدُّنْيَا حَسَنَةٌ} [الزمر:10] ، {إِنَّ رَحْمَتَ اللهِ قَرِيبٌ مِّنَ
الْمُحْسِنِينَ} [الأعراف: 56] أي: المحسنين في عبادة الله، المحسنين إلى عباد
الله.
والله
تعالى يوجب على عباده العدل من الإحسان، ويندبهم إلى زيادة الفضل منه. وقال تعالى
في المعاملة: {وَلاَ تَنسَوُاْ الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} أي: اجعلوا
للفضل والإحسان موضعاً من معاملاتكم. ولا تستقصوا في جميع الحقوق، بل يَسِّروا ولا
تعسروا، وتسامحوا في البيع والشراء، والقضاء والاقتضاء. ومن ألزم نفسه هذا
المعروف، نال خيراً كثيراً، وإحساناً كبيراً. والله أعلم.
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين
في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن
دماء المسلمين، اللهم احفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم، اللهم أطعم
جائعهم واكس عاريهم وفك أسيرهم واشف مريضهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين
شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب
العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك
بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي
يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله
وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .
|