حاجة العبد إلى الافتقار إلى الواحد الأحد
(الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ
يَجْعَلْ لَهُ عِوَجَا) ، و (تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ
لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً) ، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له ،
وأشهد أنْ محمداً عبدُه ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ، وسلم تسليماً كثيراً
، أما بعد :
فاتقوا الله عباد الله واحمدوه على بلوغ هذا الشهر المبارك واسألوه
الإعانة والقبول.
عباد
الله: اعلموا أن شأن الدعاء شأن عظيم فهو بوابة من أبواب الخير , وعطية من العطايا
الربانية , فتأدبوا بآدابه تفلحوا وتفوزا
وتسعدوا في الدنيا والأخرى ومن تلكم الآداب الافتقار إلى الله عز وجل قال تعالى(
ادعو ربكم تضرعاً وخفية) فأمر بدعائه {تَضَرُّعًا} أي: إلحاحا في المسألة، ودُءُوبا
في العبادة، {وَخُفْيَةً} أي: لا جهرا وعلانية، يخاف منه الرياء، بل خفية وإخلاصا لله
تعالى. فينبغي للعبد أن يعلم علمَ يقينٍ أنَّه مفتقرٌ إلى الله عزَّ وجلَّ، محتاجٌ
إليه، لا يستغني عنه طرفة عين، وذلك أنَّ الإنسان بل وجميعَ المخلوقات عبادٌ لله
تعالى، فقراءُ إليه، مماليكُ له، وهو ربُّهم ومليكُهم وإلَهُهم، لا إله لهم سواه،
فالمخلوقُ ليس له من نفسه شيءٌ أصلاً، بل نفسُه وصفاتُه وأفعالُه وما ينتفع به أو
يستحقه وغيرُ ذلك إنَّما هو من خلق الله، والله عزَّ وجلَّ ربُّ ذلك كلِّه،
ومليكُه وبارئُه وخالقُه ومصوِّرُه، ومدبِّرُ شؤونه، فما شاء الله كان وما لَم يشأ
لَم يكن، فلا رادَّ لقضائه ولا معقِّب لحكمه {مَا يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِن
رَحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ}.
فالمخلوقُ
فقيرٌ إلى الله، محتاجٌ إليه، ليس فقيراً إلى سواه، يقول الله: {يَا أَيُّهَا
النَّاسُ أَنتُمْ الفُقَرَاءُ إِلَى اللهِ وَاللهُ هُوَ الغَنِيُّ الحَمِيدُ} ،
فليس المخلوق مستغنياً بنفسه ولا بغير ربِّه سبحانه؛ إذ إنَّ ذلك الغيرَ فقيرٌ
أيضاً، محتاجٌ إلى الله، ولهذا قيل استغاثةُ المخلوق بالمخلوقِ كاستغاثة الغريق
بالغريق، وقيل: استغاثةُ المخلوق بالمخلوق كاستغاثة المسجون بالمسجون.
وقد
جاء في الحديث القدسي أنَّ الله تبارك وتعالى يقول: " يا عبادي كلُّكم ضالٌّ
إلاَّ مَن هديتُه، فاستهدوني أهدِكم" رواه مسلم في صحيحه
قال ابن رجب رحمه الله: " هذا يقتضي أنَّ
جميع الخلق مُفتَقِرون إلى الله تعالى في جلب مصالِحِهم، ودفع مضارِّهم، في أمور
دينهم ودنياهم، وأنَّ العبادَ لا يملكون لأنفسهم شيئاً من ذلك كلِّه، وأنَّ من لَم
يتفضّل الله عليه بالهدى والرزق فإنَّه يحرمهما في الدنيا، ومن لَم يتفضَّل الله
عليه بمغفرة ذنوبه أَوْبَقته خطاياه في الآخرة " اهـ كلامه رحمه الله.
فالأمورُ
كلُّها بيده، الهدايةُ والعافيةُ والرزقُ والصحةُ وغيرُ ذلك، وما شاء سبحانه من
ذلك كان، وما لَم يشأ لَم يكن {إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن
يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} فعطاؤُه سبحانه كلام، وعذابُه كلام، فإذا أراد شيئاً
من عطاء أو عذاب أو غير ذلك قال له كن فيكون، ولهذا فكيف ـ والأمر كذلك ـ يُلجأ
إلى سواه، أو يُخضع لمن دونه، أو يُطلب ويدعى غيره؟
ولهذا
قال الله تعالى: {فَابْتَغُوا عِندَ اللهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا
لَهُ} فالعبد لا بدَّ له من رزقٍ، وهو محتاجٌ إلى ذلك، فإذا طلب رزقَه من الله صار
عبداً لله، فقيراً له، وإذا طلبه من مخلوق صار عبداً لذلك المخلوق فقيراً له
".
إنَّ
فقرَ المخلوق واحتياجَه لربِّه أمرٌ ذاتيٌّ له، لا وجود له بدونه، لكنَّ المخلوقين
يتفاوتون في إدراك ذلك الافتقار أو العزوب عنه، والعبد فقيرٌ إلى الله من جهتين،
من جهة العبادة، ومن جهة الاستعانة كما قال الله سبحانه: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فالعبد يفتقر إلى الله من جهة أنَّه معبودُه الذي
يحبُّه حبَّ إجلال وتعظيم، وقلبُه لا يصلح ولا يفلح، ولا يُسرُّ ولا يلتذُّ، ولا
يطيب ولا يسكن، ولا يطمئن إلاَّ بعبادة ربِّه والإنابة إليه، ولو حصل له كلُّ ما
يلتذُّ به من المخلوقات لَم يطمئن ولم يسكن، إذ فيه فقرٌ ذاتي إلى ربِّه من حيث هو
معبودُه ومحبوبُه ومطلوبُه، وبهذا يحصل له الفرحُ والسرورُ واللذَّةُ والنِّعمةُ
والسكونُ والطمأنينة، والعبد يفتقر إلى الله من جهة استعانته به للاستسلام لأمره،
والانقياد لحكمه، والخضوع لشرعِه؛ إذ لا يقدر على تحصيل شيء من ذلك والقيام به
إلاَّ إذا أعانه الله ".
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات
والذكر الحكيم ؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه
هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله
وصحبه أجمعين. أما بعد:
وها
هنا قاعدةٌ مهمةٌ نبّه عليها أهلُ العلم، وهي أنَّ كلَّ حيٍّ سوى الله
فهو
فقيرٌ إلى جلب ما ينفعه ودفع ما يضره.
إذا
عُرف هذا فالله سبحانه هو المطلوبُ المعبودُ المحبوبُ وحده، لا شريك له، وهو وحده
المُعِينُ للعبد على حصول مطلوبه، فلا معبودَ سواه، ولا مُعينَ على المطلوب غيره,
وهذا معنى قول العبد {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ} ، فإنَّ هذه
العبادةَ تتضمن المقصودَ المطلوبَ على أكملِ الوجوه، والمستعان هو الَّذي يُستعان
به على حصول المطلوب ودفع المكروه.
اللهم لك الحمد أن بلغتنا رمضان، اللهم كما بلغتنا رمضان فارزقنا صيامه
وقيامه إيمانا واحتسابا يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعتق رقابنا من النار، اللهم
أعتق رقابنا من النار، اللهم أعتق رقابنا من النار يا أرحم الراحميناللهم أعنا على
ذكرك وشكرك وحسن عبادتك. اللهم إنا نعوذ بك من الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم آمنّا
في الأوطان والدور، واصرف عنا الفتن والشرور، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم
بتأييدك واجعلهم أنصارا لدينك يا ذا الجلال والإكرام، ، اللهم احفظ على المسلمين دينهم
وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار،
اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ
إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ).
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132 |