قطيعة الرحم
4/ 3/ 1441هـ
الحمد لله الذي لا يحمد على كل حال سواه , خلقنا بغير اختيارنا , واحيانا
لما من اجله خلقنا, ثم يميتنا, ثم يحيينا, ثم يبعثنا, ثم اليه مرجعنا, وأشهد ان لا
إله الا الله وحده لا شريك له الهنا, وأشهد ان محمد عبده ورسوله حبيبنا وخليلنا, صلى
الله عليه وعلى آل بيته الطاهرين , وصحابته الغر الميامين , وعلى التابعين ومن تبعهم باحسان الى يوم الدين 0(يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ
مُسْلِمُونَ) .(يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ
نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً
وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ
كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) اما بعد فاتقوا الله عباد الله حق تقواه.
ايها الاخوة المسلمون: النفوس دائما تواقة الى
الحياة السعيدة الخالية من المكدرات والمنغصات, ولكنّ ذلك صعب المنال وهيهات منه هيهات
ونحن في دار البلاء والامتحان, وأكثر ما يحز في النفوس ويؤلمها هو ما يكون أشد وقعا
عليها, وحصر ذلك وعده مما تقطع المطامع للوصول اليه, ودون ذلك خرط القتاد.
أمر من أمور الحياة هو من أعظم مكدراتها ومنغصاتها,
وإن قيل انه اليوم لم يسلم منه جل الناس إن لم يكن كلهم فقد لايكون في هذا القول مبالغة,
سيما ونحن في آخر الزمان الذي اخبر النبي صلى الله عليه وسلم انه سيكثر وينتشر, إنه
ذلك الزلزال المدمر, والانفجار الهائل, والريح العاصف الصرصر العاتي, إنه قطيعة الرحم والعقوق بين الاقارب والارحام , فقد قال رسول الهدى
صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ بَيْنَ يَدَيْ السَّاعَةِ: الَتسْلِيم على الْخَاصَّةِ،
وَفُشُوّ التِّجَارَةِ، حَتَّى تُعِينَ الْمَرْأَةُ زَوْجَهَا عَلَى التِّجَارَةِ،
وَقَطْع الْأَرْحَامِ، وفشو الْقَلَمِ، وظهور شَهَادَةَ الزُّورِ، وَكِتْمَان شَهَادَةِ
الْحَقِّ". وقال ايضا "من أشراط الساعة: الفحش والتَّفحُّش وقطيعة الرحم".
وهذا الذنب والجرم العظيم – أيها الاخوة – له صفة
وحد , وله حكم شرعي , وله اسباب , وله نتائج , وله علاج.
فأما صفته وحده: فإنها عرفية فما تعارف الناس
عليه انه عقوق وقطيعة فهو كذلك, وهو ايضا يعرف بان يكون العاق أو القاطع قد تهيئت له
أسباب الوصل والبر فلم يقم بذلك دونما سبب يمكن ان يُتمسك فيه, والعقوق يكون من الابناء
في حق الآباء سواء كانوا ذكورا او إناثا, وأما القطيعة فتكون من الاباء لأبنائهم وبين
الارحام فيما بينهم, فأقوى أقارب الانسان هم أصحاب الدائرة الاولى لديه وهم ألصق الناس
فيه وهم: من يرثهم ويرثونه, وبعدهم أصحاب الدائرة الثانية الاوسع من الاولى وهم من
تجمعهم معه رحم واحده قريبة, ومن بعدهم أصحاب الدائرة الثالثة وهم: من يعرفهم ويعرفونه,
وهكذا تتسع الدوائر شيئا فشيئا الى ما هو أوسع منها حتى تشمل الفخذ والقبيلة والعشيرة.
وحد القطيعة يختلف باختلاف قرب ذي الرحم وبعده
, فمن الارحام من يجب وصله باستمرار, ومنهم من لو وصله القريب بالسنة مرة لم يعدّ قاطع,
وهكذا في البقية, وحد القطيعة هو ترك المهاجرة.
وأما الحكم: فقد علم الجميع أن هذا الخُلُق أي
القطيعة غير مقبول أبدا وأنه من أخلاق أسافل الناس وأراذلهم ولو لم يعلموا حكم الشرع
فيه, وقد علم الكثير أن حكم العقوق وقطيعة الرحم محرم, وهو من كبائر الذنوب, ففي الحديث
عن عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قَالَ: جَاءَ أَعْرَابِيٌّ
إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْكَبَائِرُ؟
قَالَ: "الْإِشْرَاكُ بِاللَّهِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟ قَالَ: ثُمَّ عُقُوقُ الْوَالِدَيْنِ، قَالَ: ثُمَّ مَاذَا؟
قَالَ: الْيَمِينُ الْغَمُوسُ".
وأما الاسباب: فإنه لا يوجد مسلم على وجه الارض
يتعمد قطيعة الرحم او العقوق وهو يعلم خطرها, ولكن لحصول ذلك أسباب وأسباب كثيرة, منها
ما ليس بوسع الانسان دفعه, ومنها ماهو مقدور على دفعة وإصلاحه ولكن لم يُجتهد في ذلك,
ومنها مايكون المتسبب فيه هو العاقُ او القاطع نفسه, ومنها ما هو خارج عن إرادته, ومنها
مايكون المتسبب فيه هو الذي يجب بذله له كالوالدين انفسهما فإن الناس أو الكثير من
الناس يرون ان الوالدين جسم مقدس لايمكن أن يخطئا أو يصدر منهم غلط وهذا منظور قاصر
فقد كانوا من قبل صغار وابناء ويحصل منهم ما يحصل من غيرهم, نعم – ايها الاخوة - حق
الوالدين عظيم لا يخفى على كل احد ولكن يوجد اليوم من الوالدين من هم السبب الرئيس
في قطيعة ابنائهم لهم, ومن هم سبب في القطيعة بين ابنائهم انفسهم فيما بينهم, وبين
ابنائهم وارحامهم واقاربهم, ولاتُتهمُ النيات ولكن لسوء تصرفاتهم وسوء اخلاقهم وتسلطهم
وثقل مطالبهم على ابنائهم, وعظم شرهتهم, او انتقامهم من بعض اقاربهم .... أو غير ذلك
كثير وكثير, ويبقى أن يقال: أنه لا أسباب مشروعةٌ ألبتة للعقوق والقطيعة, حتى في حال
كون الوالد أو ذوي الرحم كفّار فإن الوصل مطلوب بقدر الحد المشروع , ولكن هذه أسباب
إذا وجدت وجدت نتائجها, والحكم يدور مع عليته وجودا وعدما.
وأما نتائج القطيعة والعقوق فهي سيئة العواقب
في الدنيا والآخرة: فمنها ولعله أولها وأهمها وأخطرها: حصول اللعنة وهي الطرد والابعاد
عن رحمة الله, وحصول الصمم عن سماع الحق وعدم الانتفاع فيه, وحصول العمى عن رؤية الحق
, قال تعالى: (فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا
أَرْحَامَكُمْ*أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ)
وقال سبحانه: ( وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ
مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَٰئِكَ لَهُمُ
اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ).
ومنها:
عدم حصول وكثرة الرزق الحلال, وعدم البركة
بالعمر وقصر الاجل قال صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه "من أحب أن يبسط له في رزقه ويُنسأ له في أثره
فليصل رحمه "
ومنها:
ما يعم شره البلاد والعباد فإذا انتشرت قطيعة الرحيم وعمت الناس عمهم الله بالعذاب,
فإنه إفساد في الارض وإذا فسد الناس نزل بهم العذاب والبلاء.
ومنها:
أن القاطع لايدخل الجنة من أول وهلة كما قال صلى الله عليه وسلم " لايدخل الجنة
قاطع "
ومنها:
أن القاطع تعجل له العقوبة في الدنيا قبل الآخرة، لقوله صلى الله عليه وسلم: "ما
من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى لصاحبه العقوبة في الدنيا مع ما يدّخره له في الآخرة
من البغي وقطيعة الرحم "
ومن
أسوأ النتائج: التفكك الاسري، وعيش كل احد بمفرده، وبعده عن ذوي رحمه مما يسبب له الامراض
النفسية, والاحزان والأكدار, ويحصل جراء ذلك التباغض والعدوات والهيشات والمشاجرات,
بل والتعدي بالإساءة القولية والفعلية والفجور, بل قد وصل الامر بالبعض الى الاقتتال
والقتل فيما بين الارحام.
فاللهم الطف بنا وارحمنا, وجنبنا مزالق السوء والفتن، والحمد لله رب
العالمين والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى اله وصحبه اجمعين.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , وأصلي وأسلم
على من بعثه الله رحمة للعالمين , صلى الله عليه وعلى آله الطيبين , وصحابته والتابعين , ومن تبعهم بإحسان
الى يوم الدين، أما بعد فاتقوا الله عباد الله:
أيها
الاخوة المسلمون: بقي معنا من الحديث في أمر العقوق وقطيعة الرحم أن نعرف العلاج لهذه
الافة الخطيرة فنجتهد ونسلك السبيل متسلحين
بالايمان والعمل الصالح, مؤمنين بالقدر خيره وشره متذكرين قول الله تعالى: ( والذين
جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين )
فعلينا اولا أن نعلم اننا بشر محل الخطأ والتقصير
والذنب وقد نهانا الله عن تزكية انفسنا فقال سبحانه: ( فلا تزكوا انفسكم ) فمن سلم
منا من هذه الافة وهذا الداء فيما مضى من عمره فقد لا يسلم منه فيما بقي فسلوا الله
السلامة والعافية.
كما علينا ان نستحضر دائما النصوص المرهبة من قطيعة
الرحم فتكون لنا رادعة.
كما
علينا أن نتذكر أننا متى ما كنا السبب في قطيعة الرحم أننا مع تأثيمنا لأنفسنا قد أثّمنا
أقاربنا كذلك فأعنّاهم على القطيعة بما نقوم به من بذل اسبابها. كما علينا البعد عن
الظنون السيئة والتوقعات الخاطئة والتخرصات
الغير منضبطة.
كما
علينا الشجاعة وعدم الخوف من النتائج فإنه متى ما احسنا النية والعمل فلا خوف مما يأت, ولا حزن على ما مضى.
كما
علينا حل المشاكل والخلافات اولاً بأول ولانتركها حتى تتراكم وتكبر فيصعب
علينا حلها بعد ذلك.
كما على الآباء والامهات أن يعدلوا بين أبنائهم,
وان يصلحوا فيما شجر بينهم.
وهناك
أشياء كثيرة وكثيرة تكون علاجا للعقوق والقطيعة
وحلا لها يطول المقام لسردها وتتبعها, فالتمسوها واحرصوا على تنفيذها لعلكم تسلمون
فتفلحون إذ السلامة لا يعدلها شيء.
الا وصلوا وسلموا على النبي وآله, وأصحابه وأتباعه, فقد أمرتم فامتثلوا
, وإن استجبتم فاستبشروا. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على ابراهيم وعلى
آل ابراهيم انك حميد مجيد , اللهم ارض عن آل البيت الطاهرين وسائر الصحابة أجمعين ومن
تبعهم بإحسان الى يوم الدينا وعنا معهم بجودك وكرمك يا اكرم الاكرمين, اللهم ارحمنا
وارحم ابائنا وامهاتنا كما ربونا صغارا , وأحلنا منهم واجعلهم في حل منا يارب العالمين
, وأسعدنا معهم في حياتنا, واجمعنا بهم في جنتك بجوارك يارب العالمين, اللهم أصلح مابين
كل متخاصمين من المسلمين عامة, وما بين الاقارب والارحام خاصة , والف بين قلوبهم واعنهم على كل خير وجنبهم كل شر يا ارحم الراحمين,
اللهم أصلح احوال المسلمين في كل مكان واحقن دمائهم وارخص اسعارهم وأطفئ الفتن في بلادهم
وولى عليهم خيارهم واكفهم شر اشرارهم برحمتك يا ارحم الراحمين, اللهم اصلح احوالنا
في بلادنا ووفق اللهم ولات امورنا واجعلهم فاعلين للخير آمرين به منتهين عن المنكر ناهين عنه, اللهم من أرادنا وأراد
بلادنا وأمننا ومقدراتنا وأرزاقنا ورجالنا ونسائنا بسوء وأمرٍ يغضبك ولا يرضيك اللهم لاتحقق له مراده واجعله لغيره عبرة وآية وأبعده
وطهر بلادنا منه واكفنا اللهم شره بما شئت يا قوي ياعزيز ..
وآخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين وصلى اللهم وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ نايف الرضيمان تجدها
هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=123 |