خُطورةُ
الْقَوْلِ عَلَىَ الْلَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ
الحمد
لله له ملك السماوات والأرض وله الحمد في الآخرة وهو الحكيم الخبير، وأشهد أن لا
إله إلا الله وحده لا شريك له في الملك والتدبير، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله
البشير النذير والسراج المنير، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم
بإحسان وسلم تسليما إلى يوم
المعاد والمصير.. أما بعد:
فاتقوا الله عباد
الله، واعلموا أن الله سبحانه وتعالى قال في محكم التنزيل: "وَلَا تَقُولُوا
لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ
لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ
الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ، مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ"، في
الآية عباد الله وعيد شديد لمن يتجرأ على القول في دين الله بغير علم ولا برهان،
فإنه موصوف بالكذب والافتراء، ومتوعد بعدم الفلاح مع العذاب الشديد يوم القيامة.
معاشرَ المسلمين،
التّصدُّر للفتوَى في دين الله أمرٌ عظيمٌ وشأنٌ كَبير، لا يجوزُ الإقدامُ عليه
إلاَّ لمن كان ذا عِلمٍ ضَليعٍ وعقلٍ سَديد، جثَا بالرُّكَب أمامَ العلَماءِ
الربانيِّين، وسَهرَ الليالي لتحصيل أدلةّ الوحيَين والتبصُّرِ بقواعد ومقاصد
الدين.
وعلى هذا الْمنهجِ
تربّى السلَف الصالحون، وتواصى عليه العلماءُ الربانيون، قال أبو بكرٍ رضي الله
عنه: (أيُّ سماء تُظِلُّني وأيُّ أرضٍ تُقِلُّني إن أنا قُلتُ في كتاب الله ما لا
أعلم)، ويقول عبد الرحمن بن أبي ليلى رحمه الله: "أدركتُ عشرين ومائةً من
أصحابِ رسول الله ، فما كان مِنهم مُحدِّثٌ إلاَّ ودَّ أنَّ أخاه كفاه الحديث، ولا
مُفتٍ إلاَّ ودَّ أن أخاه كفاه الفُتيا".
يا معاشر طلبة العلم
والأئمة والوعاظ: لا يخجلن أحدكم أن يقول لما لا يعلم : لا أعلم، فقد قالها من هو
خير منك، فلقد استُفتي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المسائل والأحوال، وكان
يُؤخر الجواب لحين نزول الوحي عليه من الله، ومن ذلك ما رواه مسلم عن جَابِر ابْنَ
عَبْدِ اللَّهِ-رضي الله عنهما- قَالَ: مَرِضْتُ فَأَتَانِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى
الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ يَعُودَانِي مَاشِيَيْنِ فَأُغْمِىَ عَلَيّ،
فَتَوَضَّأَ ثُمَّ صَبَّ عَلَيّ مِنْ وَضُوئِهِ فَأَفَقْتُ، قُلْتُ: يَا رَسُولَ
اللَّهِ كَيْفَ أَقْضِى فِي مَالِي؟ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَىَّ شَيْئًا حَتَّى
نَزَلَتْ آيَةُ الْمِيرَاثِ ( يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي
الْكَلاَلَةِ) .
وها هو ابن عمر رضي
الله عنه وقد عدّه أهل العلم من المكثرين في الفتوى، يسأله السائل فيجيبه : بلا
أعلم، فعَنْ خَالِدِ بْنِ أَسْلَمَ قال: خَرَجْنَا مَعَ ابْنِ عُمَرَ نَمْشِي،
فَلَحِقَنَا أَعْرَابِيٌّ فَقَالَ: أَنْتَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ؟ قَالَ:
نَعَمْ، قَالَ: سَأَلْت عَنْك فَدُلِلْت عَلَيْك، فَأَخْبِرْنِي أَتَرِثُ
الْعَمَّةُ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، قَالَ: أَنْتَ لَا تَدْرِي؟ قَالَ: نَعَمْ؛
اذْهَبْ إلَى الْعُلَمَاءِ بِالْمَدِينَةِ فَاسْأَلْهُمْ.
فما بال الناس
يتسابقون في الفتوى ويتصدرون لها ولما يحسنوا العلم، وحالهم كما قال: "أَبُو
حُصَيْنٍ الْأَسَدِيُّ: إنَّ أَحَدَهُمْ لِيُفْتِيَ فِي الْمَسْأَلَةِ وَلَوْ
وَرَدَتْ عَلَى عُمَرَ لَجَمَعَ لَهَا أَهْلَ بَدْرٍ.
فالقولُ على الله بلا
علم من الْمهالك التي يردي فيها الشيطان الناس قال تعالى ["وَلَا تَتَّبِعُوا
خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ، إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ
بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ]".
بارك
الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم،
أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة
الثانية
الحمد
لله رب العالمين الرحمن الرحيم مالك يوم الدين، وأشهد أن لا إله إلا الله إله
الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمدا عبد الله ورسوله النبي الأمين، اللهم صل
وسلم وبارك عليه وعلى إخوانه الأنبياء المرسلين وآله وصحبه أجمعين، أما بعد فيا
عباد الله :-
لا يتجرأ
على الكلام في دين الله بلا علم إلا الجهلة ودعاة الفتن والضلال، الذين يسعون
جاهدين إلى إضلال الناس كما قال صلى الله عليه وسلم: « إِنَّ اللَّهَ لاَ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ انْتِزَاعًا ، يَنْتَزِعُهُ مِنَ الْعِبَادِ ، وَلَكِنْ يَقْبِضُ
الْعِلْمَ بِقَبْضِ الْعُلَمَاءِ ، حَتَّى إِذَا لَمْ يُبْقِ عَالِمًا ، اتَّخَذَ
النَّاسُ رُءُوسًا جُهَّالاً فَسُئِلُوا ، فَأَفْتَوْا بِغَيْرِ عِلْمٍ ،
فَضَلُّوا وَأَضَلُّوا »
ولقد حذر النبي صلى
الله عليه وسلم من هذه الفئة التي تفتي الناس بغير علم فيُضلونهم، عَنْ أَبِى
هُرَيْرَةَ قَالَ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « سَيَأْتِي عَلَى
النَّاسِ سَنَوَاتٌ خَدَّاعَاتٌ يُصَدَّقُ فِيهَا الْكَاذِبُ وَيُكَذَّبُ فِيهَا
الصَّادِقُ وَيُؤْتَمَنُ فِيهَا الْخَائِنُ وَيُخَوَّنُ فِيهَا الأَمِينُ
وَيَنْطِقُ فِيهَا الرُّوَيْبِضَةُ، قِيلَ: وَمَا الرُّوَيْبِضَةُ؟ قَالَ:
الرَّجُلُ التَّافِهُ فِي أَمْرِ الْعَامَّةِ » وفي رواية : " الفويسق يتكلم
في أمر العامة " والرجل التافه يقصد به أهل البدع ومن لا علم عنده فيتكلم في
أمور المسلمين العامة وما يتعلق بأمنهم وبلادهم، وقد أمرنا الله بردها إلى كتابه
وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأهل الحكم والعلم لا إلى مثقفي الفضائيات
والتويتر ، قال تعالى: [ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ
أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ
مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ
اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا] ،
وقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " وَإِنِّي لَا أَخَافُ
عَلَى أُمَّتِي إِلَّا الْأَئِمَّةَ الْمُضِلِّينَ" .
عباد الله : إن تهافت
الناس على الناس وتتبعهم للرخص في زمن الانترنت مؤذن بخطر عظيم وجرم كبير فالناس
في السابق في هذه البلاد كانوا على فتوى واحدة: جمعت القلوب ووحدة الصف وقمعت
العدو، والآن تسابق المفتون فهم في كل وادٍ يهيمون والواجب علينا معاشرة الأخوة
أن نكون كما كنا بالسابق نأخذ الفتوى من المرجع أمثال اللجنة الدائمة للبحوث
العلمية وهيئة كبار العلماء وغيرهم ممن شابت لحاهم في العلم تعلماً وتعلمياً
وورعاً وخشية لله ونترك هذه التخبطات فالصحفي أصبح مفتي والمهندس أصبح مفتي وغيرهم
ممن ركبوا مركباً صعبا
قال الحافظ ابن رجب
-رحمه الله-: "يا لله العجب! لو ادعى رجل معرفة صناعة من صنائع الدنيا ولم
يعرفه الناس بها ولا شاهدوا عنده آلاتها؛ لكذّبوه في دعواه ولم يأمنوه على أموالهم
ولم يمكّنوه أن يعمل فيها ما يدّعيه من تلك الصناعة. فكيف بمن يدّعي معرفة أمر
الرسول -صلى الله عليه وسلم- وما شوهد قط يكتب علم الرسول -صلى الله عليه وسلم-
ولا يجالس أهله ولا يدارسهم؟! فيا لله العجب! كيف يقبل أهل العقل دعواه ويحكّمونه
في أديانهم يفسدها بدعواه الكاذبة؟!"أهـ.
قال ابن سيرين: "إن
هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم"، فكما أنك حريص أشد الحرص لو أصابك
مرض عضوي أن تتحرى وتجتهد وتذهب لأفضل طبيب فكن على دينك أشد حرصا.
اللهم
علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما علمتنا وزدنا علما يا عليم، اللهم إنا نعوذ بك من
زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد
البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم أقل عثرات المسلمين
وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد
صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان،
اللهم واحقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم
وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين من الكفرة المجرمين والطغاة
الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا في الأرض بالتخريب والتقتيل وأنواع الفساد
اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم شتت شملهم وأحبط سعيهم
واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي
يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا وذرياتنا واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا
فيما يرضيك آمالنا. اللهم نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلُمّ بها
شعثنا وترُدّ بها الفتن عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب
النار، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ
وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ الوليد بن سالم الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|