الثبات على الدين
إن الحمد لله, نحمده ونستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا, من يهد الله فلا مضل له, ومن يضلل فلا هادي له, وأشهد أن لا إله إلا الله, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, وبعد:
أيها المؤمنون:
اعلموا أن أحسن الحديث كتاب الله, وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم, وشر الأمور محدثاتها, وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة, وكل ضلالة في النار.
أما بعد: اعلموا أرشدكم الله لطاعته, وحبب إليكم الإيمان, وزينه في قلوبكم, وثبتكم على سبيله بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة, وكرّه إليكم الكفر والفسوق والعصيان وما يقرب إليها, إن العبد لا يستغني عن تثبيت الله له على الإسلام طرفة عين, فإن لم يثبته الله وإلا زالت سعادته, وحلت شقاوته, لقد امتنّ الله الكريم على أكرم خلقه, على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بنعمة الثبات على الإسلام فقال:{ وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً {74}}الإسراء().
وامتن أيضا على صفوة عباده بهذه النعمة فقال سبحانه:{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ {27}}إبراهيم.
ولذلك ما مُنِحَ العبدُ منحةً أفضل من الثبات على الإسلام, حيث يجد أهله ثمرته, وهم أحوج ما يكونون إليه في دنياهم, وفي قبروهم, وفي معادهم.
ولكن! أيها المسلمون: إن للثبات على الإسلام أسباباً شرعها الله عز وجل, من سلكها منحه الله حُلة الثبات, ونعمة التثبيت, منها:
نصرة دين الله قال تعالى: { وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ {40}}الحج.
وقال:{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ {7}}محمد.
ونصر الله, نصر دينه بالاستقامة عليه, والدعوة إليه, والذبِّ عنه, والدفاع عنه بالسيف واللسان, أوبهما جميعاً.
ومن أسباب الثبات على دين الإسلام, الإنفاق في سبيل الله: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ {265}}البقرة
والإنفاق يكون من المال, ومن العلم, أو منهما جميعاً.
ومن أسباب الثبات على الإسلام :
الدعاء: قال سبحانه مخبراً: { رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {250}}البقرة.
وقال:{ وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ {146}}آل عمران.
وقال:{ وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ {147} فَآتَاهُمُ اللّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {148}} آل عمران.
ومن أسباب الثبات على الإسلام : فعل المأمورات, وترك المحظورات, فكلما كان العبد أشدُّ قولاً, وأحسن عملاً, كان أشد تثبيتاً, قال سبحانه:{ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً {66} وَإِذاً لآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّـا أَجْراً عَظِيماً {67} وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً {68} وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقاً {69} ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللّهِ وَكَفَى بِاللّهِ عَلِيماً {70}}النساء.
ومن أسباب الثبات على الدين, تدبر القرآن الكريم:{ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا {24}}محمد.
فلو تدبر المسلم كتاب ربه, وعلم أنه معنيٌّ, وأنه مخاطبٌ بأنواع الخطاب, منها الترغيب, ومنها الترهيب, لكان ذلك داعياً له إلى الثبات على دينه إلى لقاء ربه.
ومن أسباب الثبات على الإسلام, التأسي بالصالحين:{ وَكُـلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَـذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ {120}}يونس
ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلوا على أصحابه من أخبار الدعاة السابقين الذين تعرضوا للتعذيب, والتنكيل, والقتل, ولكنهم ثبتوا على الحق, ففي البخاري من حديث خباب بن الأرت رضي الله عنه قال: ( شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة, قلنا له: ألا تستنصر لنا, ألا تدعو الله لنا, قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض, فيجعل فيه, فيجاء بالمنشار فيوضع على رأسه, فيشق باثنتين, وما يصده ذلك عن دينه, ويمشط بأمشاط الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب, وما يصده ذلك عن دينه, والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله, أو الذئب على غنمه, ولكنكم تستعجلون "
وفي صحيح مسلم عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: " كان ملك فيمن كان قبلكم, وكان له ساحر, فلما كبر قال للملك: إني قد كبرت فابعث إلي غلاماً أعلمه السحر, فبعث إليه غلاماً يعلمه, فكان في طريقه إذا سلك راهب فقعد إليه, وسمع كلامه, فأعجبه, فكان إذا أتى الساحر, مر بالراهب, وقعد إليه, فإذا أتى الساحر ضربه, فشكى ذلك إلى الراهب, فقال: إذا خشيت الساحر فقل حبسني أهلي, وإذا خشيت أهلك فقل: حبسني الساحر, فبينما هو كذلك, إذ أتى على دابة عظيمة, قد حبست الناس, فقال: اليوم أعلم الساحر أفضل, أم الراهب أفضل, فأخذ حجراً فقال: ( اللهم إن كان أمر الراهب أحب إليك من أمر الساحر فاقتل هذه الدابة حتى يمضى الناس, فرماها فقتلها ومضى الناس فأتى الراهب فأخبره, فقال له الراهب: أي بني أنت اليوم أفضل مني, قد بلغ من أمرك ما أرى وإنك ستبتلى, فإن ابتليت فلا تدل علي. وكان الغلام يبرئ الأكمه, والأبرص, ويداوي الناس من سائر الأدواء, فسمع جليس للملك كان قد عمى, فأتاه بهدايا كثيرة, فقال: ما ها هنا لك أجمع إن أنت شفيتني, فقال: إني لا أشفي أحداً, إنما يشفي الله, فإن أنت آمنت بالله دعوت الله فشفاك, فآمن بالله, فشفاه الله, فأتى الملك, فجلس إليه كما كان يجلس, فقال له الملك: من رد عليك بصرك, قال: ربي, قال: ولك رب غيري, قال: ربي وربك الله, فأخذه, فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام, فجيء بالغلام, فقال له الملك: أي بني, قد بلغ من سحرك ما تبرئ الأكمه, والأبرص, وتفعل, وتفعل, فقال: إني لا أشفي أحداً, إنما يشفي الله, فأخذه, فلم يزل يعذبه حتى دل على الراهب, فجيء بالراهب فقيل له: ارجع عن دينك, فأبى, فدعا بالمنشار, فوضع المنشار في مفرق رأسه, فشقه حتى وقع شقاه, ثم جيء بجليس الملك, فقيل له: ارجع عن دينك, فأبى, فوضع المنشار في مفرق رأسه, فشقه به حتى وقع شقاه, ثم جيء بالغلام, فقيل له: ارجع عن دينك, فأبى, فدفعه إلى نفر من أصحابه, فقال: اذهبوا به إلى جبل كذا وكذا, فاصعدوا به الجبل, فإذا بلغتم ذروته, فإن رجع عن دينه وإلا فاطرحوه, فذهبوا به, فصعدوا به الجبل, فقال: ( اللهم اكفنيهم بما شئت), فرجف بهم الجبل فسقطوا, وجاء يمشى إلى الملك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله, فدفعه إلى نفر من أصحابه, فقال: اذهبوا به فاحملوه في قرقور, فتوسطوا به البحر, فإن رجع عن دينه وإلا فاقذفوه, فذهبوا به, فقال: ( اللهم اكفنيهم بما شئت ), فانكفأت بهم السفينة, فغرقوا وجاء يمشي إلى الملك, فقال له الملك: ما فعل أصحابك؟ قال: كفانيهم الله, فقال للملك: إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به, قال: وما هو؟ قال: تجمع الناس في صعيد واحد, وتصلبني على جذع, ثم خذ سهما من كنانتي, ثم ضع السهم في كبد القوس, ثم قل: ( باسم الله رب الغلام ), ثم ارمني, فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني, فجمع الناس في صعيد واحد, وصلبه على جذع, ثم أخذ سهما من كنانته, ثم وضع السهم في كبد القوس, ثم قال: ( باسم الله رب الغلام), ثم رماه, فوقع السهم في صدغه, فوضع يده في صدغه في موضع السهم, فمات. فقال الناس: آمنا برب الغلام, آمنا برب الغلام, آمنا برب الغلام, فأتى الملك, فقيل له: أرأيت ما كنت تحذر, قد والله نزل بك حذرك, قد آمن الناس, فأمر بالأخدود في أفواه السكك فخدت, وأضرم النيران, وقال: من لم يرجع عن دينه فأقحموه فيها, أو قيل له: اقتحم, ففعلوا حتى جاءت امرأة ومعها صبي لها, فتقاعست أن تقع فيها, فقال لها الغلام: يا أُمَّه اصبري فإنك على الحق ".
الخطبة الثانية
أيها المؤمنون: ونشأ الجيلُ المحمدي على هذا الثبات الذي لا تتحمله الجبال, فكانوا قدوةً لمن بعدهم, يتأسون بهم, علَّمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم الثبات على دين الله, ففي معركة الأحزاب, تكالبت اليهود, والمشركون, والمنافقون, وكفارُ العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأصحابه, وحاصروهم من جميع الجهات, وفيهم يقول الله تعالى:{ إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً {11}}الأحزاب.
ومع عظمة الابتلاء, وكثرة المخذلين, ثبت أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم مع نبيهم:{ يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ {27}}إبراهيم.
فقابلوا هذه الجموع بإيمان ثابت, وجهاد صادق, ولما رأى المؤمنون الأحزاب, قالوا: هذا ما وعدنا الله, ورسوله, وصدق الله, ورسوله, وما زادهم إلا إيماناً وتسليما.
ومن أسباب الثبات على الإسلام: حبُّ الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, والحب في الله, والبغض في الله, قال صلى الله عليه وسلم: " ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما, وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله, وأن يكره أن يعود في الكفر بعد أن أنقذه الله منه, كما يكره أن يقذف في النار" متفق عليه.
ومن أسباب الثبات على الإسلام: التواصي بالحق, والتواصي بالصبر{ وَالْعَصْرِ {1} إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ {2} إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ {3}} العصر
ومن أسباب الثبات على دين الله : النصح لكل مسلم: ففي الصحيحين, عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال: ( بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقام الصلاة, وإيتاء الزكاة, والنصح لكل مسلم ).
ويقول صلى الله عليه وسلم: " الدين النصيحة, قلنا: لمن يا رسول الله ؟ قال: لله, ولكتابه, ولرسوله, ولأئمة المسلمين, وعامتهم" رواه مسلم.
ومن أسباب الثبات على الإسلام: الاعتقادُ الجازم بأن المستقبل للإسلام, لأن الإسلام منهج حياة متكاملة يلبي جميع حاجات الإنسان, والإسلام ليس عقيدةً منعزلة عن واقع الناس كما يريد أعداءُ الله منذ قرون, بل هو دين شامل كامل قادرعلى إنقاذ البشرية مما يحيط بها من أخطار, وقادر على منحها الطريق الملائم لفطرتها واحتياجاتها فالمستقبل للإسلام, مهما وضع في طريق دعاته من العراقيل, ومهما ألصقت بهم التهم, ومهما حصل للثابتين عليه من أذى المستقبل له بإذن الله.
أعوذ بالله من الشطان الرجيم:
{ يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ {32} هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ {33}} التوبة
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, إنه تعالى كريم ملك بر رؤوف رحيم.
|