من أوصاف المتقين
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلّمَ تَسِلِيمَاً كًثِيراً (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ))، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
عباد الله قال الله تعالى: {وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ * ]
في هذه الآيات الكريمات يندب الله إلى عباده الصالحين أن يفعلوا الْخَيْرَاتِ وَأن يسارعوا إِلَى نَيْل القُرُبات، (وَسَارِعُواْ إِلَى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ) إذا كان عرضها عرض السموات والأرض فكم يكون طولها؟ مَن منّا لا يطمع بهذه الجنّة ؟ مَن منّا لا يسأل الله الجنة ؟ لذلك لا بدّ من المسارعة من أجل نيل هذه الجنة قال النبي صلى الله عليه وسلم: "إِذَا سَأَلْتُمُ اللَّهَ الْجَنَّةَ فَاسْأَلُوهُ الْفِرْدَوْسَ، فَإِنَّهُ أَعْلَى الْجَنَّةِ وَأَوْسَطُ الْجَنَّةِ وَمِنْهُ تَفَجَّرُ أَنْهَارُ الْجَنَّةِ، وَسَقْفُهَا عَرْشُ الرَّحْمَنِ"رواه البخاري .
هذه الجنة أعدّها الله تبارك وتعالى وجعلها للمتقين ( وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ ) أوجز عبارة لتعريف التقوى ما قاله ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه: ( أن يُطاع فلا يُعصى ، وأن يُذكر فلا يُنسى ، وأن يُشكر فلا يُكفر ). إذاً ، إنها التقوى التي إذا فعلها الإنسان وحقّقها الإنسان وُعِد بالمغفرة والجنة من الله تبارك وتعالى .
عباد الله هي جنة موعودة للمتقين المتصفين بهذه الصفات الجميلة-رزقنا الله وإياكم التقوى-:
أول صفات هؤلاء المتقين في هذه الآيات : إنفاق المال في سبيل الله تبارك وتعالى: ( الَّذِينَ يُنفِقُونَ فِي السَّرَّاء وَالضَّرَّاء ) أيْ: فِي الشِّدَّةِ وَالرَّخَاءِ، والمَنْشَط والمَكْرَه، وَالصِّحَّةِ وَالْمَرَضِ، وَفِي جَمِيعِ الْأَحْوَالِ، كَمَا قَالَ: {الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلانِيَةً . وأفضل الصدقة أن يتصدّق الإنسان وهو محبّ لهذا المال ، وهو متعلّق بهذا المال ، وهو يخاف من نقص هذا المال ، لهذا قال سبحانه : ( لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ ) [آل عمران:92] . ويقول النبي صلى الله عليه وسلم : ( أفضل الصدقة أن تصدّق و أنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، و تخشى الفقر ، و لا تُمْهل حتّى إذا بلغت الحلقومَ قلتَ: لفلان كذا و لفلان كذا ، ألا و قد كان لفلان كذا ) [متفق عليه] .
أما الصفة الثانية من صفات المتقين فهي: كظم الغيظ ( وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ )، إنه كتم وردّ الغيظ ، وحبسه في النفس مع القدرة على الوصول إلى صاحبه ، حينما يتعرض الإنسان للأذى فإنه يكتم غيظه مع أنه قادر على إيقاع الضرر بخصمه ، ولكنه يكتم هذا الغيظ ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم: ( مَن كظم غيظاً وهو يقدر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق يوم القيامة حتى يخيّره في أيّ الحور شاء ) [أصحاب السنن الأربعة ]. يُخيّره الله من الحور العين ما يشاء جزاء ما كظم من هذا الغيظ ابتغاء وجه الله تبارك وتعالى .
أما الصفة الثالثة من صفات المتقين فهي: العفو عمّن أساء إليهم ، العفو عن المسيء: ( وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ ) فالْعَفْوُ عَنِ النَّاسِ أَجَلُّ ضُرُوبِ فِعْلِ الْخَيْرِ، إنه العفو عمّن أساء .
إنّ العفو صفة من صفات الله تبارك وتعالى ( إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ ) [الحج:60]. لهذا حثّ الله تبارك وتعالى على هذا العفو عن المسيئين فقال سبحانه وتعالى: ( وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى ) [البقرة:237] . وقال سبحانه: ( خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ) [الأعراف:199] . ولهذا المعنى قالت عائشة رضي الله عنها يا رسول الله: أرأيت إن علمت أي ليلة ليلة القدر ما أقول فيها؟ قال: قولي اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني.
واسم العفو من أسماء اللَّه الحسنى يدل على سعة صفحه عن ذنوب عباده مهما كان شأنها إذا تابوا وأنابوا ولهذا كان من المناسب الدعاء به في ليالي العشر لعله أن يصادف ليلة القدر فيربح ربحاً لاخسارة معه , فالعفو هو سؤال اللَّه عز وجل التجاوز عن الذنب، وترك العقاب عليه. قال القرطبي رحمه اللَّه تعالى(العفو، عفو اللَّه عز وجل عن خلقه، وقد يكون بعد العقوبة وقبلها، بخلاف الغفران، فإنه لا يكون معه عقوبة البتة) فالله تعالى يحب أسماءه وصفاته، ويحب من عبيده أن يتعبَّدوه بها، والعمل بمقتضاها وبمضامينها، ويحب اللَّه تعالى العفوَ من عباده بعضهم عن بعض فيما يحب اللَّه العفو فيه. فاعفوا عمن ظلمك وتجاوز عنه يعفو ربك ويتجاوز عنك .
إن العفو عن المسيء لا يكون إلاّ من أهل الشجاعة والجود والكرم ، العفو من شِيَم الكرام ، العفو ليس عجزاً ولا ضعفاً – كما يصوّره بعض الناس – إنما هذا العفو هو عزّ ورفعة عند الله تبارك وتعالى ، لهذا قال سبحانه : ( وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ ) [الشورى: 43] . إنها العزيمة ، إنها الرجولة ، إنها الشهامة والشجاعة والجود والكرم ، لهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم : ( ثلاث أقسم عليهن :ثَلَاثٌ أُقْسِمُ عَلَيْهِنَّ: مَا نَقَصَ مَالٌ مِنْ صَدَقَةٍ، وَمَا زَادَ اللَّهُ عَبْدًا بِعَفْوٍ إِلَّا عِزا، وَمَنْ تَوَاضَعَ لِلَّهِ رَفَعَهُ اللَّهُ "رواه الترمذي . فالصدقة تزيد المال ، والعفو يزيد العزّ والجاه والمكانة .
إن هذه الصفات الثلاث: إنفاق المال ، وكظم الغيظ ، والعفو عن الناس هي من صفات أهل الإحسان ، لهذا قال سبحانه : ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) الإحسان على نوعين : إحسان في العبادة ، وهو الذي جاء في حديث جبريل لمّا سأل النبيَّ صلى الله عليه وسلم : ( ما الإحسان ؟ قال : أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك ) [متفق عليه] . فهذا إحسان العلاقة بين العبد وربّه . أما النوع الثاني فهو الإحسان إلى الناس : وهو تقديم النفع إلى الناس ، تقديم كلّ ما ينفعهم ، إحسان معاملتهم ، إحسان الأخلاق معهم ، تقديم الصدقة والمال والنفع والخير لهم ، فهذا تنظيم للعلاقة بين الإنسان وأخيه الإنسان ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ)، إن الإحسان له فضل عظيم عند الله تبارك وتعالى ، دلّت الأدلة على فضله وعلى ثوابه ، فقال سبحانه وتعالى: ( هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَانُ ) [الرحمن:60] . وقال سبحانه: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ ) [النحل:30 ]. وقال سبحانه: ( لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَـئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ) [يونس:26]. للذين أحسنوا الحسنى ، الحسنى هي الجنة ، والزيادة هي : النظر إلى وجه الله الكريم يوم القيامة ، فهذا هو جزاء المحسنين ( وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ) .
أيها المسلمون عباد الله: وها نحن قدمنا على ليال مباركة، من أفضل الليالي، والعمل فيها أفضل من كل الأعمال عباد الله: سارعوا إلى الله تبارك وتعالى بالأعمال الصالحة أنفقوا في السراء والضراء اكظموا الغيظ واعفوا عن إخوانكم المسلمين تنعموا وتفوزوا , وشمروا عن ساعد الجد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: ((من خاف أدلج ومن أدلج بلغ المنزل ألا إن سلعة الله غالية ألا إن سلعة الله الجنة)), وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((من غدا إلى المسجد أو راح أعدَّ الله له في الجنة نزلاً كلما غدا أو راح))
عباد الله:
فعليكم باستغلال الأوقات في هذه الأيام، وعدم إضاعتها فيما لا ينفع، فلا ينفع الإنسان إلا ما قدم، ولا يزال العبد يتقرب إلى الله عز وجل حتى يقربه منه، حتى يوفقه الله تبارك وتعالى ويسدده لكل خير، ويصرف عنه كل شر ومكروه فيحفظ سمعه وبصره وجوارحه كما جاء في صحيح البخاري.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ؛ أقول هذا القول واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الكريم الوهاب، الغفور الرحيم، عزَّ فارتفع، وعلى فامتنع، وذلَّ كل شيء لعظمته وخضع، لا شريك له في ملكه وسلطانه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم الداعي إلى رضوانه، أما بعد:
أيها المسلمون : نحن على عتبة عشر مباركة كانت إذا دخلت قام نبينا عليه السلام فشدّ المئزر وأيقظ أهله وأحيا ليله. نعم يفعل هذا وقد غُفر له ماتقدم من ذنبه وما تأخر فاستنوا بسنته وأقبلوا على ربكم وخالقكم ففيها ليلة القدر قال عنها ربنا جل وعلا: (خير من ألف شهر) فالعبادة فيها لها ميزة وخصوصية , ومما يستحب فعله في العشر عبادة الاعتكاف وهو لزوم المسجد لطاعة الله أيام العشر ولياليها.
أيها الناس: أروا الله من أنفسكم خيرا فمن كان مع الله كان الله معه واتصفوا بصفات المتقين الذين ينفقون في السراء والضراء ويكظمون الغيظ ويعفون عمن ظلمهم لكي يعفوا الله عنكم في هذه الليالي المباركة.
اللهم إنك عفُوٌّ تحب العفو فاعفو عنّا، اللهم إنك عفُوٌّ تحب العفو فاعفو عنّا، اللهم إنك عفُوٌّ تحب العفو فاعفو عنّا. اللهم تقبل صيامنا وقيامنا وتجاوز عن تقصيرنا وزلاتنا، واجعلنا من عتقائك من النار، اللهم أعتقنا ووالدينا والمسلمين من النار يا أرحم الراحمين، اللهم وفقنا للعمل الصالح فيما بقي من الليالي والأيام يا ذا الجلال والإكرام.
اللهم إنا نعوذ بك من زوال نعمتك، وتحول عافيتك، وفجاءة نقمتك، وجميع سخطك. اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء، ودرك الشقاء، وسوء القضاء، وشماتة الأعداء، اللهم أقل عثرات المسلمين وردهم إليك رداً جميلاً، اللهم اجمع كلمتهم على الحق والهدى وألّف بين قلوبهم ووحد صفوفهم وارزقهم العمل بكتابك وسنة نبيك، وانتصر لعبادك المستضعفين في كل مكان، اللهم واحقن دمائهم وصن أعراضهم وتولّ أمرهم وسدد رميهم وعجّل بنصرهم وفرّج كربهم وانصرهم على القوم الظالمين، اللهم عليك بأعداء الدين من الكفرة المجرمين والطغاة الملحدين الذين قتلوا العباد وسعوا في الأرض بالتخريب والتقتيل وأنواع الفساد اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك يا رب العالمين، اللهم شتت شملهم وأحبط سعيهم واجعل تدبيرهم تدميراً عليهم وأنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم أصلح أحوالنا ونياتنا وذرياتنا واختم بالصالحات أعمالنا وبلغنا فيما يرضيك آمالنا. اللهم نسألك رحمة تهد بها قلوبنا، وتجمع بها شملنا وتلُمّ بها شعثنا وترُدّ بها الفتن عنا. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار، ( وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ الوليد بن سالم الشعبان تجدها هنا:
http://www.islamekk.net/catplay.php?catsmktba=129
|