خطبة عن الغيبة .... تاريخ 18 / 2/ 1430 هـ
الحمد لله الحي القيوم , خلق الإنسان في أحسن تقويم , جعل له عينين ولسان وشفتين , وهداه النجدين , وأشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله , صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليما كثيرا إلى يوم الدين 0 ( يائيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وانتم مسلمون )
أيها الإخوة المسلمون : لقد أودع الله سبحانه وتعالى في الإنسان جوارح , كل جارحة لها عمل رئيسي في الجسم لا تقوم جارحة أخرى مكانها فلا يمكن أن تسمع العين , ولا أن تبصر الأذن , ولا أن يسمع اللسان , ولا أن تنطق العين .. وهكذا , بل إن كل جارحة في مكان مناسب من الجسم لا يحسن أن تكون إلا فيه , ولا يمكن أن تؤدي دورها في غير مكانها الذي أراده الله لها , أرأيتم لو كانت العين مكان الأذن أو العكس ما ذا سيكون الإنسان , ولكنه ( صنع الله الذي أتقن وأحسن كل شيء وأحكمه ) قال عن هذا الإنسان ( يائياها الإنسان ما غرك بربك الكريم * الذي خلقك فسواك فعدلك * في أي صورة ما شاء ركبك ) , وقال سبحانه ( لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم ) وحث الله الإنسان على التفكر في نفسه فقال سبحانه ( وفي أنفسكم أفلا تبصرون ) , وكل ما أودع الله الإنسان من جارحة قد جعل الله لهذا الإنسان الخيار في استعمالها في الخير أو في الشر ( فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر ) وهذا كله لا يكون إلا بمشيئة الله حيث قال سبحانه ( وما تشاءون إلا إن يشاء الله ) , ولكن رغب الله بالخير ودعا إلى سلوك سبيله ورتب عليه الفلاح في العاجل والآجل , وحذر من الشر وبين سبيله , وأوعد فاعله بما يستحقه , والله تعالى يقول ( نبأ عبادي أني أنا الغفور الرحيم * وأن عذابي هو العذاب الأليم ) 0
أياها الإخوة المسلمون : جارحة في الإنسان حقا هي جارحة , وقد يكون جرها وكلمها أقوى من جرح بالسنان , تؤدي أغراضا كثيرة , ولكن أعظم ماختصت به هو النطق والبيان , إنها جارحة اللسان وما أدراكم ما للسان ؟. لم يجعل الله تعالى اللسان في الإنسان هكذا مطلق سبهللا بغير إحكام حسي أو معنوي , فإحكامه المعنوي : إلجامه بلجام الحق فلا يقول به إلا ما يرجوا نفعه الديني والدنيوي , ويمسك بزمامه عن ما سوي ذلك , وأما إحكامه الحسي : فإن الله لم يجعل هذا اللسان مكشوفا ليهرف صاحبه دائما بكل ما يريد , لكن الله ذكره مقرونا باللجام الحسي فقال سبحانه ( ألم نجعل له عينين * ولسان وشفتين ) فدور الشفتين هنا هو الإحكام الحسي للسان , فما عليه إذا أراد أن يتكلم إلا أن ينظر في كلامه فإن كانت فائدته له أو لغيره مما يحتسبه ويرجوا نفعه أمضاه , وإلا جاء دور الشفتين فليطبقهما ولا يمضي كلامه 0 أخطر ما على الإنسان مما ينطق به اللسان من الكلام بعد الكلام ألكفري والبدعي هو : الغيبة , تلك المصيبة التي لو قيل إنه لم ينجوا من الوقوع فيها أو في نوع من أنواعها أحد ــ خصوصا في زماننا هذا ــ لم يكن في هذا القول مبالغة 0
إن الغيبة التي أصبحت اليوم فاكهةُ كثير من المجالس , لو علم الناس بحقيقة هذا الجرم , وهذه الكبيرة من الكبائر, واستشعروا عظم ما يأتون , وعواقبه على الفرد والأسر , والمجتمعات لأحجم الكثير إن لم يكن الجميع 0
لقد جاءت نصوص الشريعة متضافرة في بيانها قال لله تعالى عنها ( يأيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضا أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه واتقوا الله لعلكم تفلحون ) فلابن القيم رحمه الله تعالى كلاما جميلا على تفسير هذه الآية إليكموه , قال رحمه الله : وهذا من أحسن القياس التمثيلي , فإنه شبه تمزيق عرض الأخ بتمزيق لحمه , ولما كان المغتاب يمزق عرض أخيه في غيبته كان بمنزلة من يقطـّع لحمه في حال غيبت روحه عنه بالموت , ولما كان المغتاب عاجزا عن الدفع عن نفسه بكونه غائبا عن ذمه , كان بمنزلة الميت الذي يُـقطع لحمه ولا يستطيع أن يدفع عن نفسه , ولما كان مقتضى الأخوة : التراحم , والتواصل , والتناصر فعلق عليها المغتاب ضد مُـقتضاها من الذم والعيب والطعن , كان ذلك نظيرُ تقطيع لحم أخيه , والأخوة تقتضي حفظه , وصيانته , والذب عنه , ولما كان المُغتاب متمتعا بعرض أخيه متفكها بغيبته وذمه, متحليا بذلك شُـبه بآكل لحم أخيه ميتا , ومحبته لذلك قدر زائد على مجرد أكله , كما أن أكله قدر زائد على تمزيقه...... ثم قال رحمه الله : تأمل هذا التشبيه والتمثيل وحســن موقعِه , ومطابقة المعقول فيه المحسوس. أنتهى كلامه رحمه الله .
ومن الأحاديث التي وردة في ذم الغيبة والتحذير منها : ما رواه الشيخان عن أبي بكر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع : إن دمائكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا ... إلا هل بلغت 0 وقال صلى الله عليه وسلم : يا معشر من آمن بلسانه ولم يدخل الإيمان إلى قلبه : لا تغتابوا المسلمين ولا تتبعوا عوراتهم فإن من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته , ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله 0
ومنها : ما رواه مسلم وغيره قال صلى الله عيه وسلم : أتدرون ما لغيبة ؟ قلوا الله ورسوله أعلم , قال : ذكرك أخاك بما يكره , قيل أرأيت إن كان في أخي ما أقول ؟ قال إن كان فيه متقول فقد اغتبته وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهته 0 ورى أبوا داوود عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : .. لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم فقلت من هؤلاء يا جبريل ؟ قال الذين يأكلون لحوم الناس ويعون في أعراضهم 0
أيها الإخوة : واحد من هذه النصوص كاف في الزجر عن هذه الافة المشينة , والأكلة النتنة التي لا يحلو مضغها إلا عند من تغلغل الحقد وتمكن من نفوسهم , وامتلأت أواني قلوبهم بالخبث , فقائته تلك القلوب على ألسنتهم , فلفظوه سما زعاقا لا تتلقاه إلا الآذان السيئة , ولا يستقر إلا في القلوب المريضة ,
فيا غفر الله ذنبكم وستر عيبكم , هبوا للوقوف في وجوه المغتابين بالنصح والإرشاد , وذكر عواقب ما يأتون , ولا تمكنوهم من أنفسكم , فإن من رضي كمن فعل , والله تعالى يقول ( وإذا رأيت الذين يخوضون في آيتنا فلا تقعد معهم حتى يخوضوا في حديث غيره وإما ينسينك الشيطان فلا تقعد بعد الذكرى مع القوم الفاسقين ) . بارك الله لي ولكم بالقول والسماع والعمل , وجنبنا مزالق السوء والزلل . أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم إنه هو الغفور الرحيم 0
الخطبة الثانية
عن الغيبة
الحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه كما يحب ربنا ويرضى , واشهد أن لا اله إلا الله وحده لا شريك له في الآخرة والأولى , واشهد أن محمد عبده ورسوله المصطفى , صلى الله عليه وعلى آله وصبه وسلم تسليما كثيرا 0
أما بعد : فاتقوا الله عباد الله , واستمسكوا من دينكم الإسلام بعروته الوثقى ومنتهاه .
أيها الإخوة المسلمون : لا شك أن الغيبة داء قلبي , يدفع المصاب به إلى التشويه والتشفي , وما جعل الله من داء إلا وجعل له دواء علمه من علمه وجهله من جهله0 ويمكن أن يزيل المرء هذا الداء عنه وعن غيره إن صدق النية وأحسن العمل , وذلك حسب الخطوات الآتية : أولا : أن يعلم حقيقة الغيبة , فالبعض يقع في الغيبة وهو لا يشعر , والبعض يشعر ويعلم من قرارة نفسه أنه يغتاب ولكن الشيطان زين له عمله فرآه حسنا , وانظروا إلى كلام شيخ الإسلام ابن تيمية وهو يتحدث عن هذا الجانب الدقيق قال رحمه الله : - فمن الناس من يغتاب موافقة لجلسائه وأصحابه وعشائره ، مع علمه أن المغتاب برئ مما يقولون ، أو فيه بعض ما يقولون ، لكن يرى أنه لو أنكر عليهم قطع المجلس واستثقله أهل المجلس ونفروا عنه ، فيرى موافقتهم من حسن المعاشرة وطيب المصاحبة ، وقد يغضبون فيغضب لغضبهم فيخوض معهم . * ومنهم من يخرج الغيبة في قوالب شتى : - تارة في قالب ديانة وصلاح : فيقول : ليس لي عادة أن أذكر أحدا إلا بخير ، ولا أحب الغيبة ولا الكذب ، وإنما أخبركم بأحواله ، يقول : والله إنه مسكين ، أو رجل جيد ، ولكن فيه كيت وكيت ، وربما يقول : دعونا منه الله يغفر لنا وله ، وإنما قصده استنقاصه وهضما لجنابه ، ويخرجون الغيبة في قوالب صلاح وديانة يخادعون الله بذلك كما يخادعون مخلوقا ، وقد رأينا منهم ألوانا كثيرة من هذا وأشباهه . - ومنهم من يرفع غيره رياء فيرفع نفسه : فيقول : لو دعوت البارحة في صلاتي لفلان لما بلغني عنه كبت وكيت ، ليرفع نفسه ويضعه عند من يعتقده أو يقول فلان بليد الذهن قليل الفهم وقصده مدح نفسه واثبات معرفته وانه أفضل منه . - ومنهم من يحمله الحسد على الغيبة فيجمع بين أمرين قبيحين الغيبة والحسد وإذا اثني على شخص أزال ذلك عنه بما استطاع من تنقصه في قالب دين وصلاح أو في قالب حسد وفجور وقدح ليسقط ذلك عنه . - ومنهم من يخرج الغيبة في قالب تمسخر ولعب ليضحك غيره باستهزائه ومحاكاته واستصغار المستهزأ به . - ومنهم من يخرج الغيبة في قالب التعجب ، فيقول: تعجبت من فلان كيف لا يفعل كيت وكيت , ومن فلان وقع منه كيت وكيت , وكيف فعل كيت وكيت فيخرج اسمه في معرض تعجبه . - ومنهم من يخرج الاغتمام ، فيقول : مسكين فلان غمنى ما جرى له وما تم له فيظن من يسمعه أنه يغتم له ويتأسف وقلبه منطو على التشفي به ولو قدر لزاد على ما به وربما يذكره عند أعدائه ليتشفوا به وهذا وغيره من أعظم أمراض القلوب والمخادعات لله ولخلقه
- ومنهم من يظهر الغيبة في قالب غضب وإنكار منكر فيظهر في هذا الباب أشياء من زخارف القول وقصده غير ما أظهر . والله المستعان . انتهى كلامه رحمه الله .
ثانيا من وسائل العلاج ودفع الغيبة : اطلاع المرء على ما ورد في ذم الغيبة من الوعيد العاجل والآجل , ومن هذا الوعيد : أن الله يفضحه ولو في بيت أمه 0
ومنها : ما رواه أبو داوود قال صلى الله عليه وسلم : من قال في مسلم ما ليس فيه أسكنه الله ردغة الخبال حتى يخرج مما قال . زاد الطبراني : وليس بخارج . وردغة الخبال عصارة أهل النار 0 ومن الأحاديث في الوعيد : ما رواه الطبراني بإسناد جوده بعض أهل العلم : قال صلى الله عليه وسلم : من ذكر امرأ بشيء ليس فيه ليعيبه به حبسه الله في نار جهنم حتى يأتي بنفاد ما قال فيه , وفي رواية : أيما رجل أشاع على رجل مسلم بكلمة وهو منها بريء يشينه بها في الدنيا كان حقا على الله أن يذيبه يوم القيامة في النار حتى يأتي بنفاد ما قال فيه 0
ومن أسباب إزالة هذا الداء : تعاون الجميع وتواصيهم على إنكار ورد كلام المغتاب عليه أيا كان ذلك المغتاب واستشعار الأجر المترتب على الإنكار , ومن ذلك : ما رواه الإمام احمد , قال صلى الله عليه وسلم : من ذب عن عرض أخيه بالغيبة , كان حقا على الله أن يعتقه من النار 0 ومما جاء عن السلف في ذم الغيبة ما قاله الحسن رحمه الله قال : والله للغيبة أسرع فسادا في دين المرء من الآكلة في الجسد , وكان يقول : ابن آدم انك لن تبلغ حقيقة الإيمان حتى لا تعيب الناس بعيب هو فيك , وحتى تبدأ بصلاح ذلك العيب فتصلحه من نفسك , فإذا فعلت ذلك كان شغلك في خاصة نفسك . وأحب العباد إلى اله من كان هكذا 0 ومنها : إذا وجدت من نفسك دافعا قويا لغيبة احد فحور هذا الدافع إلى مسار آخر صحيح وهو الثناء على هذا المغتاب وذكر محاسنه فإن فعلت ذلك فقد دمغت الشيطان في أم رأسه وقطعت عليه الطريق وسلمت من الإثم 0
وأسباب العلاج كثيرة ذكرنا أهمها لعل فيها ذكرى لكل متذكر , وما يتذكر إلا ألو الألباب 0
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ........................... إلى آخر الدعاء 0 |