الابتلاء
الحمد لله الذي خلق الخلق ليعبدوه, ورزقهم من الطيبات ليشكروه, وابتلاهم بالسراء والضراء ليتبين الصادق من الكاذب, أحمده حمداً كثيراً, وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له, وأشهد أن محمداً عبده ورسوله, صلى الله عليه وسلم وأصحابه وبعد:
أيها المؤمنون: يقول الله عز وجل:{ الم {1} أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ {2} وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ {3}} العنكبوت.
وقال تعالى:{ وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ {31}} محمد.
وقال تعالى: { أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ {126}}التوبة.
أيها المؤمنون: لقد تعرض الرسول صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام إلى فتن عظيمة من المشركين, ولكنهم ثبتوا, وعلموا أن ذلك امتحان عظيم, وتمحيص وتمهيد لانتشار هذه الدعوة في ربوع الدنيا, فجاهدوا وصبروا أمام الفتن.
وأخبر صلى الله عليه وسلم أن الفتن ستأتي مدلهمة كقطع الليل المظلم, يرقق بعضها بعضاً, نعوذ بالله من الفتن.
وهذه الفتن فتنة للمنافقين والكافرين, وتمحيص للمؤمنين الصادقين, فمن صبر عليها كانت رحمة في حقه, ونجا بصبره من فتنةٍ أعظم منها, ومن لم يصبر عليها وقع في فتنة أشد منها, فالفتنة لابد منها, ليميز الله الخبيث من الطيب, والمؤمن في هذه الحياة في ابتلاء, يرى مالا يسره, ويسمع مالا يسره, ومع ذلك صابراً محتسباً, آمراً بالمعروف, ناهياً عن المنكر, مجاهداً نفسه على الطاعات, مبتعداً بها عن المعاصي والسيئات.
وتسليط البلاء على العبد من رحمة أرحم الراحمين, لأنه أعلم بمصلحته, ولكن العبد لجهله وظلمه يتهم ربه بابتلائه, ولا يعلم إحسانه إليه بابتلائه وامتحانه, وعندما يرى قاصر النظر ما يقع من الفتن ظنَّ أن أهل الدين والحق في الدنيا يكونون أذلاء مقهورين مغلوبين دائماً, ولا يثق بوعد الله ولا بنصره, فيحتار, وربما ذمَّ الإسلام وأهله, وربما قال كما قال المنافق:( ما وعدنا الله ورسوله إلا غروراً).
ولكن ليعلم كل مسلم أن ما يصيب المسلمين من الفتن والبلاء إنما ذلك لتهيئتهم لأمر عظيم, ولحكم يعلمها الله عز وجل, ومن تلك الحكم:
أن ما يصيب المؤمنين من الشرور والمحن والأذى دون ما يصيب الكفار, والواقع شاهد بذلك, وكذلك ما يصيب الأبرار في هذه الدنيا دون ما يصيب الفجار والفساق والظلمة بكثير.
ومنها: أن ما يصيب المؤمنين في الله تعالى مقرون بالرضا والاحتساب, فإن فاتهم الرضا فمعَوَّلهم على الصبر , وعلى الاحتساب , وذلك يخفف عنهم ثقل البلاء, ومؤنته, فإنهم كلما شاهدوا العوض هان عليهم تحمل المشاق والبلاء, والكفار لا رضا عندهم ولا احتساب, وإن صبروا فكصبر البهائم.
وقد نبه الله تعالى على ذلك بقوله: { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابْتِغَاء الْقَوْمِ إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللّهُ عَلِيماً حَكِيماً{104}}النساء.
فاشتركوا في الألم, وامتاز المؤمنون برجاء الأجر والزلفى من الله تعالى.
ومنها: أن المؤمن إذا أوذي في الله فإنه محمول عنه بحسب طاعته وإخلاصه, ووجود حقائق الإيمان في قلبه, حتى يحمل عنه من الأذى ما لو كان شيء منه على غيره لَعََجز عن حمله, وهذا من دفع الله عن عبده المؤمن, فإنه يدفع عنه كثيراً من البلاء , وإذا كان لا بد له من شيء منه دفع عنه ثقله ومؤنته ومشقته وتبعته.
ومنها: أن المحبة كلما تمكنت في القلب ورسخت فيه, كان أذى المحب في رضى محبوبه مستحلى غير مسخوط, والمحبون يفتخرون عند أحبابهم بذلك, حتى قال قائلهم:
لئن ساءني أن نلتني بمساءة لقد سرني أني خطرت ببالك
فما الظن بمحبة المحبوب الأعلى, الذي ابتلاؤه لحبيبه رحمة منه له وإحسان إليه
ومنها: أن مايصيب الكافر والفاجر والمنافق من العز والنصر والجاه, دون ما يحصل للمؤمنين بكثير, بل باطن ذلك ذلُّ وكسر وهوان, وإن كان في الظاهر بخلافه.
قال الحسنُ رحمه الله :( إنهم وإن هملجت بهم البراذين وطقطقت بهم البغال إن ذل المعصية لفى في قلوبهم, أبى الله إلا أن يذل من عصاه).
ومنها: أن ابتلاء المؤمن كالدواء له يستخرج منه الأدواء التي لو بقيت فيه أهلكته, أو نقصت ثوابه, وأنزلت درجته, فيستخرج الابتلاء والامتحان منه تلك الأدواء ويستعد به لتمام الأجر , وعلو المنزلة, ومعلوم أن وجود هذا خير للمؤمن من عدمه, كما قال النبي صلى الله عليه وسلم:" والذي نفسي بيده لا يقضي اللهُ للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له, وليس ذلك إلا للمؤمن , إن أصابته سراء شكر, فكان خيراً له, وإن أصابته ضراء صبر, فكان خيراً له " رواه مسلم.
فهذا الابتلاء والامتحان من تمام نصره وعزه وعافيته , ولهذا كان أشد الناس بلاء الأنبياء, ثم الأقرب إليهم فالأقرب,يبتلي المرءُ على حسب دينه, فإن كان في دينه صلابة شُدد عليه البلاء, وإن كان في دينه رقةٌ خُفف عنه, ولايزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على وجه الأرض وليس عليه خطيئة.
ومنها: أن ما يصيب المؤمن في هذه الدار من إدالة عدوه عليه, وغلبته له, وأذاه له في بعض الأحيان, أمر لازم لابد منه, وهو كالحر الشديد, والبرد الشديد, والأمراض والهموم والغموم, فهذا أمر لازم للطبيعة والنشأة الإنسانية في هذه الدار, حتى للأطفال, والبهائم, لما اقتضته حكمة أحكم الحاكمين, فلو تجرد الخير في هذا العالم عن الشر, والنفع عن الضر,واللذة عن الألم, لكان ذالك عالماً غير هذا, ونشأة أخرى غير هذه النشأة, وكانت تفوت الحكمة التي مزج لأجلها بين الخير والشر, والألم واللذة , والنافع والضار, وإنما يكون تخليصُ هذا من هذا , وتمييزه في دار أخرى , غير هذه الدار, كما قال تعالى:{ لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ {37}}الأنفال.
ومنها: أن ابتلاء المؤمنين بغلبة عدوهم لهم , وقهرهم, وكسرهم لهم في أحياناً فيه حكمةُ عظيمةُ , لا يعلمها على التفصيل إلا الله عز وجل.
ومنها: استخراج عبوديتهم وذلهم لله, وانكسارهم له, وافتقارهم إليه , وسؤاله نصرهم على أعدائهم, ولو كانوا دائماً منصورين قاهرين غالبين لبطروا وأشروا . ولو كانوا دائماً مقهورين مغلوبين منصوراً عليهم عدوهم لما قامت للدين قائمة, ولا كانت للحق دولة فاقتضت حكمة ُ أحكم الحاكمين أن صرَّفهم بين غلبهم تارةً, وكونهم مغلوبين تارةً. فإذا غُلبوا تضرعوا إلى ربهم, وأنابوا إليه, وخضعوا له, وانكسروا له, وتابوا إليه, وإذا غلبوا أقاموا دينه وشعائره, وأمروا بالمعروف, ونهوا عن المنكر, وجاهدوا عدوه, ونصروا أولياءه.
ومنها: أنهم لو كانوا دائماً منصورين, غالبين, قاهرين, لدخل معهم من ليس له قصد الدين, ومتابعة الرسول. فإنه إنما ينضاف إلى من له الغلبة والعزة , ولو كانوا مقهورين مغلوبين دائماً لم يدخل معهم أحد. فاقتضت الحكمة الإلهية أن كانت لهم الدولة تارةً, وعليهم تارة. فيتميز بذلك بين من يريد الله ورسوله, ومن ليس له مراد إلا الدنيا والجاه.
ومنها: أنه سبحانه يحب من عباده تكميل عبوديتهم على السراء والضراء وفي حال العافية و البلاء, وفي حال إدالتهم والإدالة عليهم. فلله سبحانه على العباد في كلتا الحالتين عبودية بمقتضى تلك الحال. لا تحصل إلا بها, ولا يستقيم القلب بدونها, كما لا تستقيم الأبدان إلا بالحر والبرد, والجوع والعطش, والتعب والنصب, وأضدادها. فتلك المحن والبلايا شرط في حصول الكمال الإنساني والاستقامة المطلوبة منه , ووجود الملزوم بدون لازمه ممتنع.
ومنها: أن امتحانهم بإدالة عدوهم عليهم يمحصهم, ويخلصهم, ويهذبهم .
كما قال تعالى في حكمة إدالة الكفار على المؤمنين يوم أحد:{ وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {139} إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ {140} وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ {141} أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ {142} وَلَقَدْ كُنتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنتُمْ تَنظُرُونَ {143} وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ {144}} آل عمران.
فذكر الله سبحانه جملة من الحكم التي لأجلها أديل عليه الكفار بعد أن ثبتهم الله وقواهم وبشرهم بأنهم الأعلون بما أعطوا من الإيمان وأخبر سبحانه أنه يجعل الأيام دولاً بين الناس
وأخبر أنه يحب أن يتخذ منهم شهداء فإن الشهادة درجة عالية عنده, ومنزلة رفيعة لا تُنال إلا بالقتل في سبيله.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ {153} وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ اللّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاء وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ {154} وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوفْ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ {155} الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّـا إِلَيْهِ رَاجِعونَ {156} أُولَـئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَـئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ {157}}البقرة.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم, ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم, إنه تعالى كريم ملك بر رؤوف رحيم. |