اللهم إني أعوذ بك من الفقر
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
فاتقوا الله ربكم -أيها الناس- في غناكم وفقركم ، وفي جميع أحوالكم ، واعلموا يقيناً أن الله سبحانه هو الرزاق الجواد ، وهو القابض الباسط ، المعطي المانع ، يبتلي عباده بالفقر والغنى ، ويبتليهم بالسراء والضراء ، وبالنعم والنقم .
وإن من حكمة الله : أن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الفقر ، فيرحمهم بصبرهم عليه ، وأن يجعل أناساً لا يصلح لهم إلا الغنى ، فيرحمهم بشكرهم عليه ؛ ﴿ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ﴾ .
= أيها المسلمون: قضية مألوفة، وظاهرة في المجتمعات معروفة، مشكلة في جميع الأمم، مسألة لا يخلو منها مجتمع، ولا تنفك منها دولة، مهما بلغ تقدُُّمُها وثراؤها وسياساتها ؛ وجودها في أمة أو دولة ليست مثلباً ولا عيبا، ولكن نسيان ذلك وإهماله أو عدم علاجه هو المعيب وفيه المسئولية، ذلكم هو الفقر والفقراء..
= معاشر الأخوة: الفقر في نظر الإسلام مصيبة وبلاء وجّه النبي صلى الله عليه وسلم بالسعي للتخلص منه ، بل وتعوذ منه وجعله قرينا للكفر، فقال عليه الصلاة والسلام : "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْكُفْرِ وَالْفَقْرِ" رواه أبو داود وغيره، وفي الحديث الآخر: "اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْفَقْرِ وَالْقِلَّةِ وَالذِّلَّةِ ، وَأَعُوذُ بِكَ أَنْ أَظْلِمَ أَوْ أُظْلَمَ" رواه أبو داود وهو حديث حسن ..
أيها المسلمون : مما يتوجه إليه النظر في حل مشكلة الفقر وعلاجِها وتقليلِ أثرها أن دلّنا شرعنا في ذلك لأمور علمية وطرق عملية نافعة ؛ أهمها ثلاثة : الأمر الأول: طمأنينة القلب إلى أن الرزق بيد الله وحده، وأن ما كُتب آتٍ، لن يضيع منه دينار ولا درهم ، ولن يتأخر عن وقته يوماً ولا ساعة ولا أقل.. , ولنسأل أنفسنا عباد الله : أعاش أجدادنا وآباؤنا من غير رزق؟ لا والله ؛ أفسنعيش بعدهم من غير رزق؟ لا والله ؛ وهل سيعيش أهلونا وأولادنا بعدنا من غير رزق؟ لا والله.. قال الله تعالى مؤانساً ومطمئناً لنا: ﴿ وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ .
أيها الناس: إن تذكّر هذا الأمر الجليل - أن الرزق بيد الله وحده - والتفكر فيه حيناً بعد حين، وساعة بعد ساعة ، يقطع على النفس تعلقها بالمخلوقين في الرزق ، ويزهّدها بما في أيديهم ، ويُذهب خوفها من المستقبل على النفس،وعلى الأهل والعيال ، حتى ولو أرجف الاقتصاديون والسياسيون بغلاء الأسعار، وقلة الوظائف، وانخفاض الرواتب، وتزايد البطالة ، وضعف الاقتصاد..
إن المستقبل بيد الله علام الغيوب ، وأن أرزاق العباد مكتوبة وحاصلة ، ولن يغادر الدنيا أحدٌ إلا وقد أخذ رزقه كاملاً كله شاء أم أبى وفي الحديث الصحيح ( إن روح القدس نفث في روعي أن نفسا لن تموت حتى تستكمل رزقها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب ) رواه الحاكم ؛ وقال أبو الدرداء رضي الله عنه: ( إن الرزق ليطلب العبد كما يطلبه أجله )، وعن الحسن البصري أنه قال: ( علمتُ أن رزقي لا يأخذه غيري فاطمأن قلبي ).
أيها الناس: إن كان بكم خوف فلا تخافوا من الفقر، وإن كنتم في قلق فلا تقلقوا من الفقر، ولا تخافوا ولا تخشوا إلا من الدنيا أن تبسط عليكم فتنافسوها فتَهْلكوا بسببها ، فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عمرو ابن عوف الأنصاري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه رضي الله عنهم: ( فَأَبْشِرُوا وَأَمِّلُوا مَا يَسُرُّكُمْ، فَوَاللَّهِ لَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ، وَلَكِنْ أَخَشَى عَلَيْكُمْ أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمْ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا، وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ ).
واعلموا – يا عباد الله - أنكم لستم واللهِ بأحب إلى الله عز وجل من رسوله صلى الله عليه وسلم، ولا أكرم ولا أفضل منزلة عنده منه، تقول عائشة رضي الله عنها: "ولَقَدْ مَاتَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَمَا شَبِعَ مِنْ خُبْزٍ وَزَيْتٍ فِي يَوْمٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ". وتقول: "إنه ليمر علينا الشهر والشهران ولا يوقد في بيت النبوة نار". قالوا : وما طعامكم ؟ قالت : "الأسودان التمر والماء".
ثم ماذا على الإنسان من ضير؟ وماذا يلحقه من كدر؟ لو عاش بين الناس في دنياه فقيراً مجهولا ، وعند الله في آخرته غنيّاً معروفاً ، عزيزاً منعّماً مسروراً ، أما يسره قولُ النبي صلى الله عليه وسلم: ( قُمْتُ عَلَى بَابِ الجَنَّةِ، فَكَانَ عَامَّةَ مَنْ دَخَلَهَا المَسَاكِينُ ؛ وَأَصْحَابُ الجَدِّ ـ أي: الغنى والوجاهةَ - محْبُوسُونَ ) رواه البخاري ومسلم.. أما يُسْكِن قلقَ الفؤاد ، ويقطع تلهف النفس ، قولُ النبي صلى الله عليه وسلم الثابت عنه: ( يدخلُ الفقراءُ الجنةَ قبلَ الأغنياءِ بخمسِ مائةِ عامٍ )...
بارك الله لي ولكم في القرآن الكريم ، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم ، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم وللمؤمنين ، إن ربي غفور رحيم.
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك إله الأولين والآخرين، وأشهد أن نبينا محمداً عبده ورسوله، اللهم صل وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحبه ، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:
= الأمر الثاني لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: قناعة قلوبكم بما يسّر الله لكم من هذا الرزق ، وهذا القوت، وهذا اللباس والمركب ، وهذا المسكن والمنزل ، وهذه الوظيفة وهذا العمل.. فالقناعة من أفضل مواهب الله وأعطياته ، وأعظم علامات الفلاح وأسبابه ؛ فقد أخرج الإمام مسلم : أن النبي r قال:( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ أَسْلَمَ، وَرُزِقَ كَفَافاً، وَقَنَّعَهُ اللَّهُ بِمَا آتَاهُ ) ، فقد حكم r في هذا الحديث بالفلاح والنجاح لمن جمع هذه الخلال الثلاث -الإسلام والكفاف والقناعة- وكان من دعائه r لنفسه وأهله: ( اللَّهُمَّ اجْعَلْ رِزْقَ آلِ مُحَمَّدٍ قُوتاً ) ، والقوت هو: الكفاف بأن يحصل له الرزق الذي يكفيه ويكف وجهه عن سؤال الخلق - ودعاؤه هذا r يدل على : أن الكفاف في المعيشة أفضل من الفقر، بل وأفضل من الغنى..
أيها الناس: إن القناعةُ مالٌ لا ينقص ، وكنز لا ينفد ، وهي غنى النفس الحقيقي ، وفي هذا يقول النبي r : ( الْغِنَى غِنَى النَّفْس ) رواه مسلم..
وإن من قنع بما هو فيه قرَّت عينه، وعفَّ واستغنى عن الخلق، وذهب عنه داء الحسد والظلم ، وتَرَكَ أكل الحرام فلم يغش، ولم يرتش، ولم يسرق، ولم يخن الأمانة .
= الأمر الثالث لمعالجة الفقر والتخفيف من مُصابه: أن نعلم أن الدين أمر كل مسلم قادرٍ أن يعمل ويكدح ولا يكسل ، فالعمل هو الوسيلة النافعة والسلاح المضّاء بإذن الله وعونه للقضاء على هذه المشكلة وتخفيفها..والله قد أودع لنا في الأرض أرزاقاً وأنعاماً ، وأن هذه الخيرات والبركات المبثوثة لا تنالُ إلا بجهد يُبذل وسعي دوؤب ﴿ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ الأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ﴾..
معاشر الأخوة: العمل في الإسلام عبادة ، وما تعدّد نفعه وامتد أثره فهو أفضل عند الله وأزكى ممن قصر نفعه على صاحبه ، وفي كُلٍ أجر وخير.. فـ ( التَّاجِرُ الصَّدُوقُ الأَمِينُ مَعَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ ) رواه الترمذي والحاكم بإسناد حسن، و ( مَا أَكَلَ أَحَدٌ طَعَامًا خَيْرًا مِنْ أَنْ يَأْكُلَ مِنْ عَمِلِ يَدِهِ ) رواه البخاري، ولمّا سُئِلَ رَسُولُ اللَّهِ r أَيُّ الْكَسْبِ أَفْضَلُ ؟ قَالَ: (عَمَلُ الرَّجُلِ بِيَدِهِ وَكُلُّ بَيْعٍ مَبْرُورٍ) رواه أحمد..
وإن الإستهانة بأهل الأعمال المهنية أو الاحتقار لأصحاب الحِرَف اليدوية !! هذا وربكم ليس من الدين ولا من الأصالة ولا الرزانة ، فدينكم رفع قيمة العمل الحلال أياً كان نوعه وكسبه ؛ فكل كسب حلال فهو عمل شريف عظيم مأجور صاحبه..
وانظروا إلى أنبياء الله - صلوات الله وسلامه عليهم - أفضل خلق الله ومصطفوه كلهم قد رعوا الغنم ، وفيهم صانع الحديد والنجار والخياط والحراث ؛ وكذا أئمة الإسلام وعلماؤه من الصحابة ومَن بعدهم كان فيهم وفي أُسَرِهم البزار والقفال والحذاء والزجاج والخراز والحطاب والجصاص والخياط والخواص والقطان وغيرهم مما لا يكاد يستثنى من مهن مباحة - فكفى بهم شرفاً وكفى بهم قدوة وأسوة...
= اللهم أغننا بحلالك عن حرامك، وبطاعتك عن معصيتك، وبفضلك عمن سواك.. اللهم اجعلنا من الشاكرين لنعمائك، والصابرين على أقدارك وبلائك، واجعل ما أنعمت به علينا معونة لنا على الخير..
اللهم وبارك لنا في أقواتنا ومساكننا ومراكبنا، وقنعنا بما رزقتنا، ولا تحرمنا خير ما عندك من الإحسان بشر ما عندنا من الإساءة والعصيان، وادفع عنا وعن المسلمين كل شر ومكروه، اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم ارحم المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، واحفظ عليهم دينهم وأمنهم وأعراضهم وأموالهم يا رب العالمين، اللهم اكفنا والمسلمين شر الأشرار وكيد الفجار، اللهم ولّ على المسلمين خيارهم واكفهم شرارهم يا رب العالمين، اللهم قاتل الكفرة الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أهل دينك اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك, اللهم أنزل بهم بأسك الذي لا يرد عن القوم المجرمين يا قوي يا عزيز، اللهم وفقّ ولاة أمرنا بتوفيقك وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك يا ذا الجلال والإكرام، وارزقهم بطانة الصلاح وأهل الخير، وأبعد عنهم أهل الزيغ والفساد، اللهم من أرادنا وأراد ديننا وبلادنا ونسائنا بسوء اللهم فأشغله في نفسه واجعل كيده في نحره واجعل تدبيره تدميراً عليه يا رب العالمين، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات انك سميع قريب مجيب الدعوات. اللهم أنت الله لا إله أنت، أنت الغني ونحن الفقراء، أنت الغني ونحن الفقراء، أنزل غلينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللهم أغثنا اللهم أغثنا اللهم أغثنا غيثا هنيئا مرئيا سحقا غدقا مجللا نافعا غير ضار عاجلا غير آجل يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين اللهم بنا من الضيق والظنك ملا نشكوه إلا إليك اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا اللهم إنا نستغفرك إنك كنت غفارا فأرسل السماء علينا مدرارا, اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا. اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين . سبحانك اللهم وبحمدك، أشهد أن لا إله إلا أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ وليد الشعبان تجدها هنا: