بين يدي رمضان
الحمد لله محير العقول ، عن تحقيق تدقيق معرفته ، السميع الذي يسمع أنين الجنين ، تحت غشاء الحشا وأغطيته ، البصير الذي يبصر النملة في سواد الليل وظلمته ، العليم الذي يعلم ما يخفيهِ العبد في سريرته ، الجبار الذي خضع كل متجبر لعظيم هيبته ، القهار الذي قهر كل متكبر سلطان سطوته ، سبحانه من إله ، يسبح الرعد بحمده والملائكة من خيفته . قدر الكفر والإيمان ، والطاعة والعصيان ، وقال في محكم كتابه : } وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ { فاللهم إنا نسألك مغفرة ذنوبنا ، وستر عيوبنا ، برحمتك يا أرحم الراحمين . وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، أيها الأخوة المؤمنون :
اتقوا الله U بفعل أوامره ، وبالبعد عن ما نهاكم عنه ، فبذلك أمركم ربكم U فقال : } يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ { ، جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها الأخوة المؤمنون :
ما هي إلا أيام قلائل ، ونستقبل شهر رمضان المبارك ، فما أسرع الأيام ـ أيها الأخوة ـ فرمضان الذي أودعناه أعمالنا ، وودعناه قبل اثني عشر شهرا ، ها نحن ننتظر دخوله ، ونستعد له ، كما انتظرنا واستعدينا لرمضانات سابقة ، مضت في حياتنا ، لا يوجد فرق ، فهذه سنة ثابتة ، ينتهي عام ، ويحل عام آخر ، وينتهي رمضان ، ويأتي رمضان آخر ، هكذا نحن ـ أيها الأخوة ـ منذ عرفنا الدنيا وإلى يومنا هذا ! فلا يوجد جديد في حياتنا ، اللهم إلا أن ذلك من أعمارنا ، ويخصم من مدة وجودنا في هذه الحياة .
فاستقبالنا لرمضان ، وحلوله ضيفا بيننا ، يعني أنه قد مضى عام كامل من أعمارنا ، وأن كل واحد منا ، قربت وفاته بمقدار عام ، وانتهت ثلاثمائة وستون يوما تقريبا ، من رصيد الأيام التي كتبها الله له وهو في بطن أمه ، فلم يتبق له إلا أيام هي في علم الغيب عند الله ـ جل جلاله ـ ومن يدري كم هي تلك الأيام ؟ فقد تكون قليلة وقد تكون كثيرة ؟ هذا شيء لا يعلمه إلا الله سبحانه ، كما قال U : } وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ { .
أيها الأخوة :
فقضية خصم الأيام من الأعمار ، قضية ينبغي أن لا نغفل عنها ، بل يجب أن تكون دائما في اعتبارنا ، ودافعا ومحفزا لنا ، للإقبال على عبادة ربنا ، والعمل لآخرتنا ، والتوبة من معاصينا وذنوبنا ، والتخلص من العادات السيئة ، والأخلاق الرذيلة ، التي تمكنت من بعضنا ، بسبب التعلق بهذه الحياة ، ونسيان الموت ، والغفلة الخطيرة عن الآخرة ، التي هي الحياة الحقيقية الكاملة كما قال الله U عنها : } وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ { ، الحيوان : أي الحياة الكاملة كما قال ابن سعدي في تفسيره .
أيها الأخوة المؤمنون :
فاستقبالنا لشهر رمضان ، يجب أن يكون كما ينبغي ، واستعدادنا له ، في هذا العام ، لابد أن يكون مميزا عن الأعوام التي مضت وهي من أعمارنا ، فنحذر كل الحذر من التسويف والإهمال ، لأن الوقت ثمين إذا فات فإنه لا عوض له البتة . فبعض الناس ـ أيها الأخوة ـ منذ عشرات السنين ، وهو كل ما قدم رمضان ، أزمع في نفسه توبة ، إن كان مدخنا ، إن كان متورطا بمخدرات ، إن كان مشغوفا بمنكرات ، إن كان مفتونا بقنوات ، أو غير ذلك ، تجده يقول في نفسه : إذا جاء رمضان إن شاء الله أتوب ، فيأت رمضان ولكنه لم يتب ، ثم يقول إذا جاءت عشر المغفره أتوب ، فتأت وتنتهي وهو لم يتب ، ثم يقول إذا جاءت عشر العتق من النار أتوب ، فتأت وتنتهي ولم يتب ، آخر ما هنالك يمنيه الشيطان ، ليتمادي في ضلاله وانحرافه ، أن يتوب في ليلة القدر وينتهي رمضان وهو لم يتب .
فهذه الظاهرة السيئة الخطيرة ، لا نريدها أن تتكرر في هذا العام ككل عام ، ولنحذر طول الأمل ، يقول النبي r في الحديث الصحيح : (( كُنْ في الدُّنيا كأنّك غريبٌ أو عابرُ سبيلٍ واعْدُدْ نَفْسَك في الموتى )) فقد يكون رمضان في هذا العام ، هو آخر رمضان في حياة أحدنا ، أو بعضنا ، بل من يدري ، هل نعيش إلى رمضان ، أو يأتي رمضان ونحن في عداد الموتى !!! يقول الحسن البصري ـ رحمه الله ـ اجتمع ثلاثة من العلماء ، فقالوا لأحدهم : ما أملك ؟ قال : ما أتى علي شهر إلا ظننت أني أموت فيه . قال صاحباه : إن هذا لأمل ـ يعني طويل . فقالوا للآخر : ما أملك ؟ قال : ما أتت علي جمعة ـ يعني أسبوع ـ إلا ظننت أني سأموت فيها . كل أسبوع يأتي يقول في قرارة نفسه : سأموت هذا الأسبوع . قال صاحباه : إن هذا لأمل . فقالوا للآخر : ما أملك ؟ قال : ما أمل من نفسه في يد غيره . فيا أيها الأخوة : ماذا يكون أمل الواحد منا ونفسه بيد غيره .
فلنتق الله ـ عباد الله ـ ونحذر طول الأمل الذي يلهينا عن العمل ، وعن الاستفادة من رمضان واستغلاله بالأعمال الصالحة ، ففي الحديث الذي رواه الإمام أحمد والترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ r قَالَ : (( بَادِرُوا بِالْأَعْمَالِ سَبْعًا هَلْ تَنْتَظِرُونَ إِلَّا فَقْرًا مُنْسِيًا أَوْ غِنًى مُطْغِيًا أَوْ مَرَضًا مُفْسِدًا أَوْ هَرَمًا مُفَنِّدًا أَوْ مَوْتًا مُجْهِزًا أَوْ الدَّجَّالَ فَشَرُّ غَائِبٍ يُنْتَظَرُ أَوْ السَّاعَةَ فَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ )) اسأل الله أن يهدي ضال المسلمين ، إنه سميع مجيب ، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فإنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
إن طول الأمل مصيبة عظمى ، وسبب من أسباب البعد عن الله U . تلك حقيقة ثابتة واضحة ، العصاة والمجرمون ، لو تيقن أحدهم بأنه سوف يموت بعد أيام أو لحظات ، لغير كثيرا من تصرفاته ، ولما أقدم على معصية الله ، ولما ارتكب جريمة واحدة من جرائمه ، ولكنه لما استبعد الموت ، وطال أمله صار يفعل ما يفعل !
أيها الأخوة :
كلنا والله نؤمن بهذا القرآن ، ونصدق بأنه كلام الله ، وأنه يجب علينا أن نتمسك به ، وأن نعمل بتوجيهاته ، وأن تخشع قلوبنا له ، وأن تتأثر به ، كل واحد منا ـ أيها الأخوة ـ في قرارة نفسه يعترف بهذا ، بل بعضنا يعترف بتقصيره ، وعنده همة بأن يتدارك هذا التقصير ، ولكنه بسبب طول أمله يتأخر ولا يبادر . فطول الأمل ـ أيها الأخوة ـ فتك في كثير من الناس ، وجعلهم يهملون حسناتهم ولا يبالون في سيئاتهم ، بل جعلهم يتعلقون بهذه الدنيا الفانية الزائلة ، ويغفلون عن الآخرة الباقية ، وقد توعد الله U من فعل فعلهم فقال : } ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ { أي أتركهم على ماهم عليه من إعراض عن الحق ، وإقامة على الباطل ، اتركهم على ماهم فيه من انشغال بالأكل والتمتع ، اتركهم على ماهم عليه من إلهاء الأمل لهم ، فسوف يعلمون عاقبة أمرهم ، وسوء صنيعهم .أسأل الله لي ولكم علما نافعا وعملا خالصا وسلامة دائمة إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك وأنت في عليائك ، أن تهدي قلوبنا ، وان تغفر ذنوبنا ، وأن تستر عيوبنا ، وأن تعافي من ابتليته منا .
اللهم إنا نعوذ بك من أمل يلهينا ، ومن غنى يطغينا ، ومن دنيا تشقينا ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم إنا نسألك شكر نعمتك ، اللهم اجعلنا من عبادك الشاكرين . اللهم ربنا تقبل توباتنا ، واغسل حوباتنا ، وأجب دعواتنا ، واهد قلوبنا ، وسدد ألسنتنا ، وثبت حجتنا ، واسلل سخيمة قلوبنا .
اللهم أرنا الحق حقا وارزقنا إتباعه ، وارنا الباطل باطلا وارزقنا اجتنابه واجعلنا من عبادك الصالحين المخلصين برحمتك يا أرحم الراحمين . اللهم وفقنا لهداك ، واجعل عملنا في رضاك ، وامنن علنا بفضلك وجودك ورحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم طهر قلوبنا ، وحصن فروجنا ، واحفظ أعراضنا ودماءنا وأموالنا ، وارحم اللهم موتانا ، واشف مرضانا ، واسترنا فوق الأرض وتحت الأرض ويوم العرض ، برحمتك يا أرحم الراحمين .اللهم إنا نسألك نصر الإسلام وعز المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم اجعل بلدنا هذا آمنا مطمئنا وسائر بلاد المسلمين . اللهم آمنا في أوطاننا ، واستعمل علينا خيارنا ، واجعل اللهم ولايتنا في عهد من خافك واتقاك واتبع رضاك ، برحمتك يا أرحم الراحمين .
اللهم من أرادنا بسوء ، اللهم اشغله بنفسه ، واجعل كيده في نحره ، واجعل تدبيره سببا لتدميره يارب العالمين .
} رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ { .
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ {
فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
|