مكانة القرآن وأحوال الناس معه
إنّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمّداً عبده ورسوله صلى الله وسلم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد معاشر المؤمنين عباد الله : اتقوا الله تعالى وراقبوه مراقبة من يعلم أنّ ربَّه يسمعه ويراه ، وتقوى الله جلّ وعلا هي خير زادٍ يبلِّغ إلى رضوان الله ، وهي عملٌ بطاعة الله على نورٍ من الله رجاء ثواب الله ، وتركٌ لمعصية الله على نورٍ من الله خيفة عذاب الله.
عباد الله : ومع إطلالة شهر رمضان شهر القرآن ﴿ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ ﴾ [البقرة:185] ومع دنو لياليه العظام وأيامه الجميلة الحسان نقف وقفة - عباد الله - نذكِّر بها أنفسنا بمكانة القرآن العظيم وأحوال الناس معه ، وهي وقفة - عباد الله - مع أوائل سورة لقمان حيث بيَّن الله تبارك وتعالى عظمة القرآن وبيَّن جلّ وعلا حال الناس معه وأنهم على فريقين : فريق محسِنٌ مقبِل على القرآن ، وفريق مسيءٌ منصرفٌ عن القرآن إلى لهو الحديث وضلال القول .
يقول الله تبارك وتعالى : ﴿ الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [لقمان:1-6]
صُدِّرت هذه الآيات العظيمة - عباد الله - ببيان مكانة القرآن وعظمته ، ووصفه الله تبارك وتعالى بثلاث صفات عظيمة ، قال جلّ وعلا : ﴿ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ ﴾ ؛ فهذه ثلاث صفات للقرآن :
· فهو كتاب حكيم أحكِمت آياته ؛ فألفاظه وكلماته أعظم الألفاظ وأتمها وأحسنها ، ومعانيه ودلالاته أكمل المعاني وأجلّها وأفخمها ، وغاياته ومقاصده أجلّ الغايات وأكبرها ، كتاب أحكِم ؛ لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، كتاب أحكم ؛ أخباره كلها صدق وأحكامه كلها عدل لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر.
· وهو كتاب هداية فيه هداية الناس إلى صراط الله المستقيم وطريقه القويم ؛ فيه بيان سبيل الجنّة ليسلكها الناس ، وبيان سبل النّار ليحذروها .
· وهو كتاب رحمة لأنّ فيه رحمةً لمن أقبل عليه وعمل به ، وسعادةً له وفلاحاً في الدُّنيا والآخرة .
وقد ذكر جلّ وعلا في هذا الكتاب صفات أهل الإحسان أهل القرآن المقبلين على كتاب الله جلّ وعلا المهتدين بهداياته المتعظين بعبَره وعظاته ؛ فذكر جلّ وعلا نعوتهم ووصفهم بأنّهم هم أهل الإحسان أي الإتقان في أعمالهم وأفعالهم وأقوالهم وجميع أحوالهم .
ثم وصفهم جل وعلا بقوله: ﴿ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ ﴾ ونصّ على هاتين العبادتين لأنّهما أجلّ العبادات : الصلاة المكتوبة والزكاة المفروضة ؛ الصلاة عبادة بدنية ، والزكاة عبادة مالية ، فيهما صلاح العبد وفلاحه وزكاؤه في دنياه وأخراه .
ووصفهم جلّ وعلا بكمال العلم وتمامه قال : ﴿ وَهُم بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ ﴾ ؛ أي أنّهم على يقينٍ تام بالقيام بين يدي الله والجزاء والحساب ، وأنّهم سيقفون يوماً بين يدي الدّيان سبحانه فيجازي المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته، وهذا اليقين يبعث هؤلاء على كمال الأعمال وصلاح الأقوال والبعد عن رديء الأمور وسيء الخصال . ثم إنّ الله جلّ وعلا لما ذكر هؤلاء ذكر أنهم أهل الهداية والفلاح في الدنيا والآخرة .
ثم بعد ذلك ذكر حال المسيئين المعرضين عن كتاب الله جلّ وعلا المقبلين على اللّهو والباطل والسَّفه والضّلال فقال سبحانه : ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ ﴾ ولهو الحديث - عباد الله - يتناول كلَّ باطل ويدخل فيه كل قول فاسد يضيِّع على الإنسان دينه ويُفسِد عليه خلقه ومروءته ، فكل لهوٍ باطل داخل في عموم هذه الآية ويتناوله تحذير الرب سبحانه من لهو الحديث . إلا أنه - عباد الله - جاء عن غير واحد من السلف من الصحابة والتابعين أن المراد بلهو الحديث في الآية الغناء ؛ وذلك لأنَّ الغناء - عباد الله - مفسدةٌ للقلب مسْخَطةٌ للرّب يُضعِف المروءة و يُنقِص الحياء ويهيِّج القلب لفعل الفواحش ويُضعِف الإيمان ويُنبِت في القلب النِّفاق ويؤثِّر على سلوك العبد أعظم تأثير ؛ ولهذا قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : " واللهِ الذي لا إله إلا هو إنّه الغناء" ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : " هو الغناء وأشباهه " ، وجاء هذا المعنى عن غير واحد من الصحابة والتابعين وذلكم - عباد الله - لأن الغناء لهوٌ باطل وله تأثير عظيمٌ على إيمان العبد وأخلاقه وعلى أفعاله وسلوكه ، وإذا ابتلي العبد بالغناء ضعُف إقباله على القرآن وزاد تهيُّج نفسه لفعل الفواحش وارتكاب العصيان .
قال جلّ وعلا: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ ﴾ ؛ وإضلاله عن سبيل الله بغير علم هو نتيجةٌ من نتائج ضلاله في نفسه وانحرافه هو عن سبيل الله ، ثم ينتج عن ذلك كلِّه اتخاذ آيات الله هزوا والسخرية بها وبأهلها المستمسكين بآيات الله المتبعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وينتج عن ذلك أيضاً إعراضٌ تام من القلب عن القرآن بحيث تصبح حاله إذا تُليَت عليه آيات الله ولّى - والعياذ بالله ﴿ مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾ .
وقد تحدّث بعض التائبين ممن كانوا مبتلين بالغناء وسماعه وشغْل الأوقات به كان يقول عن نفسه : " والله الذي لا إله إلا هو إنني كنت في أيام وساعات لا أطيق فيها سماع الأذان ، حتى إنني إذا مررت بمسجد يؤذِّن أغلقت نافذة السيارة ورفعت صوت الغناء لكي لا أسمع الأذان " ، ﴿ وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً ﴾.
عباد الله : ومع إقبال شهر رمضان المبارك تتنافس كثير من القنوات الفضائية إلى استجلاب الفتيان والفتيات وشدّهم بأنواع المغريات لإيقاعهم في لهو الحديث الباطل وصدّهم في شهر القرآن والإيمان والذِّكر والطّاعة للرحمن شغْلِهم عن أحسن الحديث إلى لهو الحديث وباطل القول ؛ فتمرُّ عليهم أيام رمضان العظيمة وساعاته الكريمة ولحظاته المباركة وهم في غيٍّ ولهوٍ وباطلٍ سادرون ؛ ولهذا - عباد الله - علينا أن نحسِن في إقبالنا على الله ، وأن نحقّق في أنفسنا تقواه سبحانه ، وأن نراقبه في السِّر والعلن ، وأن نصدق في استقبالنا لشهر رمضان المبارك بالإقبال على القرآن والجد والاجتهاد في طاعة الرحمن وبذل الإحسان وإطعام الطعام وترك اللهو والباطل والتوبة إلى الله عزّ وجلّ توبة نصوحاً .
اللّهمّ أصلح أحوالنا أجمعين ، واهدنا إليك صراطاً مستقيماً ، وبلِّغنا جميعاً رمضان على خير حال وأحسن حال ، ووفقنا يا ذا الجلال والإكرام إلى طاعتك في هذا الشهر الكريم وفي كل أوقاتنا على الوجه الذي يرضيك عنّا ، اللهم واصرف عنّا الفتن ما ظهر منها وما بطن يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كلِّ ذنب فاستغفروه يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله عظيم الإحسان ، واسع الفضل والجود والامتنان ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنّ محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أمّا بعد معاشر المؤمنين عباد الله : لقد كان من هدي نبيِّنا صلوات الله وسلامه عليه إذا رأى هلال أيّ شهر قال: ((اللَّهُمَّ أَهِلَّهُ عَلَيْنَا بِالْيُمْنِ وَالْإِيمَانِ وَالسَّلَامَةِ وَالْإِسْلَامِ رَبِّي وَرَبُّكَ اللَّهُ)) ، وهذه الدّعوة التي تتكرّر مع مطلع كل شهر عند إهلال هلاله دعوة عظيمة مباركة ميمونة ينبغي على كل مسلم أن يُعنَى بها ؛ فيدعو الله تبارك وتعالى في أوّل كلِّ شهر عندما يرى هلاله بهذه الدعوة مستحضراً أنّ أهم ما ينبغي عليه أن يُعنى به في كلّ شهر تكميل الإسلام وتحقيق الإيمان مستيقناً أن أمْنه وسلامته إنما يكون بذلك .
فنسأل الله عزّ وجلّ أن يكرمنا أجمعين بهلال شهر رمضان على أمنٍ وإيمان وسلامةٍ وإسلام وطاعةٍ لله الكريم الرحمن سبحانه وتعالى .
واعلموا رعاكم الله أن أصدق الحديث كلام الله وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار ، وعليكم بالجماعة فإن يد الله على الجماعة ومن شذ شذَّ في النار .
وصلوا وسلموا رعاكم الله على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال : ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً ﴾ [الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم : (( مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلاةً صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا )) .
اللهم صلِّ على محمّد وعلى آل محمّد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنّك حميد مجيد ، وبارك على محمّد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، وارضَ اللهمّ عن الخلفاء الراشدين الأئمة المهديين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ، وارضَ اللهم عن الصحابة أجمعين وعن التابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، وعنّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين .
اللّهمّ أعزّ الإسلام والمسلمين وأذلّ الشّرك والمشركين ودمِّر أعداء الدِّين، اللهمّ آمنا في أوطاننا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم ، اللهم وعليك بأعداء الدين فإنهم لا يعجزونك ، اللهم إنا نجعلك في نحورهم ونعوذ بك اللهم من شرورهم . اللهم وفِّق ولي أمرنا لهداك واجعل عمله في رضاك وأعنه على طاعتك وارزقه البطانة الصالحة الناصحة يا ذا الجلال والإكرام . اللهمّ وفِّق جميع ولاة أمر المسلمين للعمل بكتابك وتحكيم شرعك واتباع سنة نبيّك محمّد صلى الله عليه وسلّم .
اللّهم آت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها ، اللّهم أصلح لنا ديننا الذي هو عصمة أمرنا ، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا ، وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا ، واجعل الحياة زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كلّ شر ، اللهم اغفر لنا ذنبنا كلَّه ؛ دقه وجله ، أوله وأخره ، سره وعلنه . اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات ، اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والزلازل والفتن والمحن كلها ما ظهر منها وما بطن ، اللهم تُبْ على التائبين ، اللّهم تب على التائبين ، اللّهم ارحم موتانا وموتى المسلمين ، اللّهمّ واشف مرضانا ومرضى المسلمين . ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . ربنا إنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين .
عباد الله : اذكروا الله يذكركم ، واشكروه على نعمه يزدكم ، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ .
|