وقد بلغنا رمضان
1-9-1433هـ
الحمد لله الموفق لطاعته ، المتفضل على خلقه بتيسير عبادته ، المتفرد بوحدانيته ، والمتعالي بجبروته وقدرته ، أحمده حمدا يليق بكريم وجهه ، وعظيم سلطانه ، وأشكره على جزيل نعمته .
وأشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له في ربوبيته وإلوهيته ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله ، وصفيه وخليله ، وخيرته من خلقه ، لا سبيل إلا سبيله ، ولا سنة إلا سنته ، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته ، وسلم تسليما كثيرا .
أما بعد ، عباد الله :
تقوى الله U ، وصيته لعباده الأولين والآخرين ، ووسيلة النجاة يوم الدين ، يقول ـ تبارك وتعالى ـ : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ويقول U : } وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا ، ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا { ، فلنتق الله ـ أحبتي في الله ـ جعلني الله وإياكم من عباده المتقين .
أيها المسلمون :
كما تعلمون ـ رحمني الله وإياكم ـ بأن هذا اليوم ، هو أول أيام شهر رمضان المبارك ، وذلك يعني أن الله U ، وفقنا وأمد في أعمارنا ، فبلغنا رمضان ، ولا شك ـ أيها الأخوة ـ أن بلوغنا هذا الشهر ، نعمة عظيمة ، يعجز المرء عن شكرها ، وعن القيام بواجبها ، بل هي نعم كثيرة ، لا يستطيع المسلم عدها ولا حصرها ، فاستجابة الله لدعائنا : اللهم بلغنا رمضان ، نعمة ، سلامتنا من الأمراض والأسقام ، واستطاعتنا الصيام والقيام ، نعمة ، يحل بنا شهر رمضان ، وندركه ونحن آمنون على دمائنا وأموالنا ، نعمة ، يدخل رمضان ونحن مطمئنون في بيوتنا وبين أبنائنا وزوجاتنا ، نعمة ، نقبل على الطاعات ، ونعمل العبادات ، لا تشغلنا اضطرابات أمنية ، ولا أحداث حربية ، ولا عمليات تخريبية ، نعمة ـ أيها الأخوة .
فنعم الله U علينا في هذه البلاد كثيرة لا تعد ولا تحصى ، وخاصة ونحن نعيش هذه المناسبة الكريمة ، وكما قال تبارك وتعالى : } وَآَتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ { فشكر هذه النعم ، يتأكد وخاصة في هذه الأيام ، فالبشكر تدوم النعم ، والنعمة إذا شكرت زادت وقرت ، وإذا لم تشكر زالت وفرت ، وكما قال U : } وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ { .اسأل الله أن يوفقنا لشكر نعمته ، إنه سميع مجيب .
أيها الأخوة المؤمنون :
روى الإمام أحمد في مسنده ، أن ثلاثة نفر من أصحاب النبي e ، هم من الأنصار ، كانوا متآخين ، جمعت الأخوة الإسلامية بينهم ، فخرج الأول منهم في سرية ، فمات شهيدا ، ثم بعد ذلك بفترة ، خرج الثاني أيضا في سرية ، فمات شهيدا ، وبقي الثالث ، فعاش بعدهما فترة من الزمن ، وكانت فترة طويلة ، فمات على فراشه ، فكان الناس يتمنون أن لو مات الثلاثة كلهم شهداء ، ليكونوا عند الله في منزلة واحده .
يقول أبو طلحة الأنصاري t وكان من المتعجبين من أخوة هؤلاء الثلاثة ، يقول t فسألت الله أن يريني إياهم في المنام ، فرأيت عجبا ! ما ذا رأى أيها الأخوة ؟
رأى الذي مات على فراشه ، رآه يسبق الشهيدين منزلة عند الله . يقول t : فتعجبت ، وذهبت للنبي e ، فقلت : يا رسول الله ! رأيت عجبا ! وقص عليه ما رأى ، فقال النبي e : (( أليس قد صلى بعدهما كذا وكذا صلاة ؟ أليس قد أدرك رمضان فصامه ؟ )) . قلت : بلى يا رسول الله . قال e : (( فو الذي نفسي بيده ، إن ما بينهما لأبعد مما بين المشرق والمغرب )) .
فتأملوا أيها الأخوة ، بماذا أدرك هذا الصحابي تلك المنزلة عند الله U ؟ أدركها بصلاته وصيامه .
فإدراك رمضان وصيامه ، نعمة من أعظم النعم التي ينعم بها الله U على عباده ، فينبغي لنا ـ أيها الأخوة ـ وقد أدركنا رمضان ، ووفقنا U لصيامه ، أن نشكره على هذه النعمة ، ونحيطها بما يرضيه جل جلاله .
أيها الأخوة المؤمنون :
من شكر الله U على هذه النعمة ، جعلها كما يريد سبحانه ، وأهم شيء في هذا المجال : المحافظة على الصوم من الآفات ، ومما يقلل من أجر الصيام ، كقول الزور والعمل بالزور ، نعوذ بالله من الزور ، ففي الحديث في صحيح البخاري ، عن أبي هريرة t أن النبي e قال : (( من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه )) .
أتدرون ماهو الزور أيها الأخوة ، الذي لا ينفع معه صيام ؟ هو الكذب ، وتزوير الكلام ، والقول بالباطل ، وقال بعض شراح الحديث : المراد بالزور هنا : مجالس الغناء ، ومجالس اللهو .
فلنحذر ـ أيها الأخوة ـ كل أمر من شأنه إفساد ثمرة صومنا ، ولنحرص خلال هذا الشهر ، الذي ماهو إلا أيام معدودات ، على ما يرضي ربنا U . يقول تبارك وتعالى : } كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ، أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ {
أيام معدودات أيها الأخوة ، ثلاثون يوما فقط ، إن كان الشهر كاملا ، ليست والله بكثيرة ، فلنجعل هذه الأيام ، وسيلة لما يقربنا عند الله U ، نقطع عهدا على هذه النفس ، الأمارة بالسوء ، أن لا تفعل في هذه الثلاثين إلا ما يكون في ميزان حسناتها ، فإن رضيت ووافقت فالحمد لله ، وإن أبت إلا التمرد ، والجري خلف شهواتها وملذاتها ، فليس هناك إلا الجهاد ، نجاهد هذه النفس ، والله يقول : } وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ { نجاهدها مجاهدة جادة ، وأول ما نبدأ به ، حق الله جل جلاله ، ما موقعها من طاعته ، وما موقفها من محبته وتقديم أمره وتعظيم نهيه ، كيف هي والإيمان به ، والتصديق بوعده والخوف من وعيده . ثم ننتقل بها إلى ما يجب للرسول e ، نحاسبها ، كيف هي واتباعه e ، كيف هي والتمسك بسنته e ، ثم نحاسبها ونجاهدها ، عن ما تفعل بهذه الجوارح ، ما ذا ترى العين ؟ أتنظر إلى المسلسلات ، أتقلب طرفها بالكاسيات العاريات ؟ نقول لها لا يا عين . فنحن في رمضان ، في شهر القرآن والقيام والصيام ، لا يحل لك ذلك . تأملي في ملكوت الله ، انظري إلى آيات الله ، اقرئي في كتاب الله ، تدبري آيات الله ، فكل حرف بحسنة ، والحسنة بعشر أمثالها .
وأنت أيها الأذن ، ماذا تسمعين في رمضان ، الأغاني ، الغيبة والنميمة ، القيل والقال ، لا ، لا يحل لك ذلك ، فنحن في رمضان ، أسمعي كلام الله ، أسمعي كلام النبي e ، واحذري ما سوى ذلك .
وأنت أيها الرجل ، تمشين إلى ماذا ؟ أإلى الاستراحات لتضييع الأوقات ، أإلى أبغض البقاع إلى الله ، الأسواق ، لا يا رجل ، هذا رمضان ، فإلى بيوت الله ، إلى صلاة التراويح ، فإن القيام مع الإمام حتى ينصرف سبب في مغفرة الذنوب .وأنت أيها اللسان ، تنطق بماذا ، ما زلت على ما كنت قبل رمضان ، لا يا لسان : فهذا رمضان : فقل خيرا أو أصمت .
تتلوا كتاب الله نعم ، تذكر الله نعم ، تأمر بالمعروف نعم ، تنهى عن المنكر نعم ، تدعو إلى الله نعم ، وإما أنك تهذي بما هو وبالا وشرا عليك ، لا وألف لا .
هكذا ـ أيها الأخوة ـ نحاسب النفس ، محاسبة جادة ، ونوقفها عند حدها . نحاسبها مع أهل بيوتنا ، ومع زوجاتنا ، ومع أولادنا ، هل وقتهم النار ، أم أنها أضحت غاشة لهم .
مع الجيران ، مع الأقارب ، مع الأرحام ، بل حتى مع عامة الناس ، ما ضوابطها عند التعامل مع هؤلاء ؟ أهو الشرع أم حظها والشيطان . نحاسبها أيها الأخوة ، على ذلك كله ، ولا ندع لها فرصة أبدا ، وعندما نرى منها استكبارا وعنادا وتمردا ، نقول لها : يا نفس ، لا تحاولي ، فوالله الذي لا إله غيره ، لو تقطعت إربا إربا ، ما تركنا طاعة الله ، وما تركنا ما يرضي الله ، ولن نفرط في هذا الشهر ، فإننا لا نحتمل دعاء جبريل الذي أمن عليه النبي e ، فقال : (( من أدركه شهر رمضان فلم يغفر له فأبعده الله ، قل آمين ، فقال النبي e آمين )) . فنحن نريد أن تغفر ذنوبنا ، وأن لا نطرد من رحمت ربنا.
اللهم وفقنا لصيام رمضان وقيامه ، اللهم اجعلنا من الذين يصومونه ويقومونه إيمانا واحتسابا ، برحمتك يا أرحم الراحمين . أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله على إحسانه ، والشكر له على توفيقه وامتنانه ، وأشهد أن لا إله الله وحده لا شريك له تعظيما لشأنه ، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله الداعي إلى رضوانه صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليما كثيرا .
أيها الأخوة المؤمنون :
وكما سمعتم في الآية ، عن مقدار رمضان ، فما هو إلا أيام معدودات ، وللنفس مع هذه الأيام حيل شيطانيه ، فإنها تبرر للصائم ، أو لبعض الصائمين ، بأن يقضي وقته بما لا ينفع أحيانا ، فتجعله مثلا يكثر من النوم ، أو يصير شغله الشاغل الطعام والشراب ، فإذا أصبح صار همه فطوره ، وإذا أمسى صار همه سحوره ، أو يكثر من مخالطة الناس في الأسواق ، وهذه الأمور ـ أيها الأخوة ـ من مفسدات القلب والعياذ بالله ، يقول أبن القيم رحمه الله تعالى : وأما مفسدات القلب الخمسة فهي التي أشار إليها من كثرة الخلطة والتمنى والتعلق بغير الله والشبع والمنام ، فهذه الخمسة من أكثر مفسدات القلب ,
فا الله الله أيها الأخوة ، احفظوا أوقاتكم وخير ما تحفظ به الأوقات كتاب الله تعالى ، فشهر رمضان هو شهر القرآن.
أيها الأخوة المؤمنون :
ومما لا شك فيه ، أن كل واحد منا يتمنى لو يصوم يوما ويكتب له عند الله أياما ، فعلى من أراد ذلك صادقا جادا ، فعليه أن يبذل من ماله ، أو يبذل من طعامه وشرابه ، فالرسول e يقول : (( من فطر صائما كان له مثل أجره غير أنه لا ينقص من أجره شيء ))
فكلما فطرت صائما كتب لك يوما كصيامه .
اسأل الله العظيم ـ رب العرش العظيم ، أن يوفقنا لهداه ، وأن يجعل عملنا في رضاه ، وأن يجنبنا ما يسخطه ويأباه ، إنه سميع مجيب .
اللهم إنا نسألك عز الإسلام ونصر المسلمين ، وذل الشرك والمشركين ، اللهم عليك بأعدائك أعداء الدين ، اللهم عليك باليهود المعتدين ، وبالنصارى الحاقدين ، وبكل من عادى عبادك المؤمنين .
اللهم انصر دينك وكتابك وسنة نبيك وعبادك المؤمنين ، اللهم فرج هم المهمومين من المسلمين ، ونفس كرب المكروبين واقض الدين عن المدينين ، واشف مرضانا ومرضى المسلمين .اللهم آمنا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل ولايتنا فيمن خافك وتقاك واتبع رضاك يارب العالمين .اللهم } ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار {.
عباد الله :
} إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ { فاذكروا الله العظيم يذكركم واشكروه على وافر نعمه يزدكم ولذكر الله اكبر والله يعلم ما تصنعون .
|