رمضانُ بيْنَ الرِّبْحِ وَالْخُسْرَانِ
الْحَمْدُ للهِ ذِي الْفَضْلِ وَالْإِنْعَامِ ، الْمَلِكِ
الْقُدُّوسِ السَّلَامِ ، جَعَلَ أَيَّامَ رَمَضَانَ أَفْضَلَ الْأَيَّامِ ، عَمَّرَ
نَهَارَهُ بِالصِّيَامِ ، وَنَوَّرَ لَيْلَهُ بِالْقِيَامِ ، أَحْمَدُهُ وَأَشْكُرُهُ
، وَأَتُوبُ إِلَيْهِ وَأَسْتَغْفِرُهُ ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ
، الْمُتَفَرِّدُ بِالْكَمَالِ وَالتَّمَامِ . وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ ، أَفْضَلُ مَنْ صَلَّى وَصَامَ ، وَأَتْقَى مَنْ تَهَجَّدَ وَقَامَ ،
صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ مَصَابِيحِ الظَّلَامِ ، وَسَلَّمَ
تَسْلِيمًا كَثِيرًا .
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَصِيَّتُهُ سُبْحَانَهُ لَكُمْ وَلِمَنْ
كَانَ قَبْلَكُمْ ، يَقُولُ عَزَّ وَجَلَّ : } وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا
الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ { ، فَاتَّقُوا اللهَ
عِبَادَ اللهِ ، وَاعْلَمُوا رَحِمَكُمُ اللهُ بِأَنَّكُمْ فِي مَوْسِمِ التَّقْوَى
، } يَا أَيُّهَا
الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ
مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ { ، فَشَهْرُ رَمَضَانَ أَعْظَمُ وَأَضْمَنُ مَوْسِمٍ لِتَقْوَى
اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ؛ فَفِيهِ الصِّيَامُ وَفِيهِ الْقِيَامُ وَفِيهِ تِلَاوَةُ وَسَمَاعُ
الْقُرْآنِ ، يَقُولُ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَمَا فِي صَحِيحِ
الْبُخَارِيِّ - : (( مَنْ صَامَ رَمَضَانَ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ رَمَضَانَ
إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ، وَمَنْ قَامَ لَيْلَةَ
الْقَدْرِ إِيمَانًا وَاحْتِسَابًا غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ ))
. يَقُولُ ابْنُ حَجَرٍ : الْمُرَادُ بِالْإِيمَانِ : الِاعْتِقَادُ بِفَرْضِيَّةِ
صَوْمِهِ . وَبِالِاحْتِسَابِ : طَلَبُ الثَّوَابِ مِنَ اللهِ تَعَالَى
وَفِي رَمَضَانَ الْإِقْبَالُ عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ
، تَدَبُّرًا وَتِلَاوَةً وَاسْتِمَاعًا ، وَفِيهِ إِطْعَامُ الطَّعَامِ وَصِلَةُ
الْأَرْحَامِ ، وَغَيْرُ ذَلِكَ مِنَ الْعِبَادَاتِ وَالْقُرُبَاتِ الَّتِي تُقْبِلُ
عَلَيْهَا النَّفْسُ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْعَظِيمِ ، وَتُحَقَّقُ مِنْ خِلَالِهَا
تَقْوَى اللهِ عَزَّ وَجَلَّ ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا . وَيَرْزُقْهُ
مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ { ، } وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا { ، } وَمَنْ يَتَّقِ
اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا { .
فَشَهْرُ رَمَضَانَ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - يَتَمَيَّزُ عَنْ غَيْرِهِ
مِنْ شُهُورِ الْعَامِ ، فَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ
رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ :
(( إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ فُتِّحَتْ
أَبْوَابُ السَّمَاءِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ ، وَسُلْسِلَتِ
الشَّيَاطِينُ )) .
رَمَضَانُ - أَيُّهَا الْإِخْوَةُ - نِعْمَةٌ مِنْ نِعَمِ اللهِ
عَزَّ وَجَلَّ عَلَى عِبَادِهِ ، وَكَمِ الَّذِينَ تَغَيَّرَتْ أَحْوَالُهُمْ إِلَى
الْأَفْضَلِ بِسَبَبِ اسْتِغْلَالِ شَهْرِ رَمَضَانَ ! الَّذِي يَصُومُ وَيَقُومُ إِيمَانًا
وَاحْتِسَابًا شَهْرًا كَامِلًا ، وَيَدَعُ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ وَالْجَهْلَ
شَهْرًا كَامِلًا ، وَيُقْبِلُ عَلَى كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ تِلَاوَةً وَتَدَبُّرًا
شَهْرًا كَامِلًا ، وَيَنْضَمُّ إِلَى رَكْبِ الْمُتَّقِينَ شَهْرًا كَامِلًا ، بِإِذْنِ
اللهِ تَعَالَى يَكُونُ عَبْدًا رَابِحًا صَالِحًا ؛ لِاسْتِغْلَالِهِ لِهَذَا الْمَوْسِمِ
الْعَظِيمِ ، مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْفَائِزِينَ فِي هَذَا الشَّهْرِ الْكَرِيمِ .
وَيُوجَدُ مَعَ الْأَسَفِ مَنْ يَخْسَرُ رَمَضَانَ ، يُوجَدُ مَنْ
لَا يَسْتَفِيدُ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَرُبَّ صَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ صِيَامِهِ
الْجُوعُ وَالْعَطَشُ، وَرُبَّ قَائِمٍ حَظُّهُ مِنْ قِيَامِهِ السَّهَرُ ، وَفِي
الْحَدِيثِ الَّذِي رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ وَصَحَّحَهُ الْأَلْبانِيُّ عَنْ
جَابِرٍ قَالَ : صَعِدَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمِنْبَرَ
، فَقَالَ : (( آمِينَ آمِينَ آمِينَ )) ،
قَالَ : (( أَتَانِي جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلامُ،
فَقَالَ: يَا مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ أَحَدَ وَالِدَيْهِ، فَمَاتَ، فَدَخَلَ
النَّارَ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ: آمِينَ، فَقُلْتُ : آمِينَ ، قَالَ : يَا
مُحَمَّدُ مَنْ أَدْرَكَ شَهْرَ رَمَضَانَ ، فَمَاتَ ، فَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ،
فَأُدْخِلَ النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ ، قُلْ : آمِينَ ، فَقُلْتُ : آمِينَ ،
قَالَ : وَمَنْ ذُكِرْتَ عِنْدَهُ فَلَمْ يُصَلِّ عَلَيْكَ ، فَمَاتَ فَدَخَلَ
النَّارَ ، فَأَبْعَدَهُ اللَّهُ، قُلْ : آمِينَ، فَقُلْتُ : آمِينَ )) .
فَجِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ يَدْعُو عَلَى مَنْ يُدْرِكُ رَمَضَانَ
وَيَمُوتُ وَلَمْ يُغْفَرْ لَهُ ، وَالرَّسُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُؤَمِّنُ
عَلَى ذَلِكَ ؛ لِأَنَّ رَمَضَانَ فُرْصَةٌ ثَمِينَةٌ نَادِرَةٌ ، فِيهِ الرَّحْمَةُ
وَالْمَغْفِرَةُ وَالْعِتْقُ مِنَ النَّارِ ، فَمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلًا لِمَغْفِرَةِ
اللهِ وَرَحْمَتِهِ فِي رَمَضَانَ ، فَفِي أَيِّ وَقْتٍ يَتَأَهَّلُ لِذَلِكَ ؟!
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَهْدِيَ ضَالَّ الْمُسْلِمِينَ
، وَأَنْ يَجْعَلَنَا جَمِيعًا مِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ
، أَقُولُ قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ مِنْ كُلِّ ذَنْبٍ ،
فَإِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ .
الْخُطْبَةُ
الثَّانِيَةُ
الْحَمْدُ للهِ عَلَى إِحْسَانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى
تَوْفِيقِهِ وَامْتِنَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَحْدَهُ لَا
شَرِيكَ لَهُ تَعْظِيمًا لِشَانِهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ
وَرَسُولُهُ الدَّاعِي إِلَى رِضْوَانِهِ، صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ
وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.
أَمَّا بَعْدُ ، فَيَا عِبَادَ اللهِ :
خَسَارَةُ رَمَضَانَ وَعَدَمُ الِاسْتِفَادَةِ مِنْهُ، لَهَا أَسْبَابٌ
مِنْهَا؛ الْغَفْلَةُ عَنِ النِّيَّةِ الصَّالِحَةِ، وَعَدَمُ الْإِيمَانِ وَالِاحْتِسَابِ، صِيَامُهُمْ مُجَارَاةٌ وَتَقْلِيدٌ لِمَنْ حَوْلَهُمْ، وَالدَّلِيلُ فَقَطْ صَوْمُهُمْ
عَنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ ، وَالنَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ:
(( مَنْ لَمْ يَدَعْ قَوْلَ الزُّورِ وَالْعَمَلَ بِهِ
وَالْجَهْلَ، فَلَيْسَ للهِ حَاجَةٌ فِي أَنْ يَدَعَ طَعَامَهُ وَشَرَابَهُ ))
، وَفِي الْحَدِيثِ الْآخَرِ يَقُولُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : (( لَيْسَ الصِّيَامُ مِنَ الطَّعَامِ وَالشَّرَابِ ، إِنَّمَا
الصِّيَامُ مِنَ اللَّغْوِ وَالرَّفَثِ )) .
وَإِنْ تَعْجَبْ أَخِي الْمُسْلِمُ ، فَاعْجَبْ مِمَّنْ فِي رَمَضَانَ
يَتَكَاسَلُ عَنِ الصَّلَاةِ ، وَيُقَصِّرُ فِي الْوَاجِبَاتِ ، وَلَا يَتَوَرَّعُ
عَنِ الْمُحَرَّمَاتِ ، وَيَقْضِي أَثْمَنَ وَقْتِهِ فِي التَّسَكُّعِ فِي الْأَسْوَاقِ
وَمُتَابَعَةِ الْأَفْلَامِ وَالْمُسَلْسَلَاتِ ، فَاتَّقُوا اللهَ عِبَادَ اللهِ،
وَاحْرِصُوا عَلَى أَوْقَاتِكُمْ ، اسْتَثْمِرُوا شَهْرَكُمْ بِمَا يُرْضِي رَبَّكُمْ
.
أَسْأَلُ اللهَ أَنْ يَجْعَلَنِي وَإِيَّاكُمْ فِيهِ
مِنَ الْفَائِزِينَ ، وَلَا يَرُدَّنَا خَائِبِينَ ، إِنَّهُ سَمِيعٌ مُجِيبٌ . اللَّهُمَّ
أَصْلِحْ نِيَّاتِنَا ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ نِيَّاتِنَا ، اللَّهُمَّ أَصْلِحْ نِيَّاتِنَا
، رَبِّ أَعِنَّا وَلَا تُعِنْ عَلَيْنَا ، وَانْصُرْنَا وَلَا تَنْصُرْ عَلَيْنَا
، وَامْكُرْ لَنَا وَلَا تَمْكُرْ عَلَيْنَا ، وَاهْدِنَا وَيَسِّرِ الْهُدَى لَنَا
، وَانْصُرْنَا عَلَى مَنْ بَغَى عَلَيْنَا ، رَبَّنَا اجْعَلْنَا لَكَ شَاكِرِينَ
، لَكَ ذَاكِرِينَ ، لَكَ أَوَّاهِينَ لَكَ مُطِيعِينَ ، رَبَّنَا تَقَبَّلْ تَوْبَتَنَا
، وَاغْسِلْ حَوْبَتَنَا ، وَأَجِبْ دَعْوَتَنَا ، وَثَبِّتْ حُجَّتَنَا ، وَاهْدِ
قُلُوبَنَا ، وَسَدِّدْ أَلْسِنَتَنَا ، وَاسْلُلْ سَخِيمَةَ قُلُوبِنَا ، إِنَّكَ
عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ .
اللَّهُمَّ إِنَّا نَسْأَلُكَ الْهُدَى وَالتُّقَى
وَالْعَفَافَ وَالْغِنَى ، اللَّهُمَّ أَحْيِنَا سُعَدَاءَ ، وَتَوَفَّنَا شُهَدَاءَ
، وَاحْشُرْنَا فِي زُمْرَةِ الْأَتْقِيَاءِ يَا رَبَّ الْعَالَمِينَ .
}
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا
عَذَابَ النَّارِ {.
عِبَادَ اللهِ :
} إِنَّ
اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى
عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ
{ . فَاذْكُرُوا اللهَ العَظِيمَ يَذْكُرْكُمْ ،وَاشْكُرُوهُ
عَلَى وَافِرِ نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ ، وَلَذِكْرُ اللهِ أَكبَرُ ، وَاللهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُون.
وللمزيد من الخطب السابقة عن شهر رمضان تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=132 |