خطبة: تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة
الخطبة الأولى:
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره؛ ونعوذ بالله من شرور أنفسنا؛ ومن سيئات أعمالنا؛ ن يهده فلا مضل له؛ ومن يضلل فلا هادي له؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:-
عباد الله: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن من علامات كمال التوحيد في قلب العبد أن يلجأ إلى الله تعالى في أحواله كلها, في سرَّائه وضرَّائه، وشدَّته ورخائه، وصحته وسقمه، وفي أحواله كلِّها، وأن لا يقتصر على ذلك في حال الشدة فقط, وملازمةُ المسلم للطاعة والدعاء حال الرخاءِ، ومواظبتُه على ذلك في حال السرَّاء سببٌ عظيمٌ لإجابة دعائه عند الشدائد والمصائب والكُرَب، وقد جاء في الحديث أنَّ النبيَّ صلى الله عليه وسلم قال: ( مَن سرَّه أن يستجيب الله له عند الشدائد والكرب فلْيُكثِر الدعاءَ في الرخاء )، رواه الترمذي، والحاكم، وغيرُهما من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، وسنده حسن. وقد ذمَّ الله في مواطن كثيرة من كتابه العزيز من لا يلجأون إلى الله ولا يُخلصون الدِّين إلاَّ في حال شدَّتهم، أمَّا في حال رخائهم ويُسرهم وسرَّائهم، فإنَّهم يُعرضون وينسون ما كانوا عليه, يقول الله تعالى: { وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ } ، ويقول تعالى: { وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ }، والآياتُ في هذا المعنى كثيرةٌ،
وهي تدلُّ دلالة واضحة على ذمِّ مَن لا يعرف الله إلاَّ في حال ضرَّائه وشدَّته، أمَّا في حال رخائه فإنَّه يكون في صدود وإعراض ولَهوٍ وغفلة وعدم إقبال على الله تبارك وتعالى. ولهذا فإنَّ الواجبَ على المسلم أن يُقبلَ على الله في أحواله كلِّها في اليُسرِ والعُسرِ، والرخاءِ والشدِّةِ، والغنى والفقرِ، والصحةِ والمرضِ، ومَن تعرَّف على الله في الرخاء عرفه الله في الشدَّة، فكان له معيناً وحافظاً ومؤيِّداً وناصراً. ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم كما في حديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما المشهور: ( تعرَّف إلى الله في الرَّخاء يعرفك في الشدَّة ) .
قال ابن رجب رحمه الله في جزء له أفرده في شرح هذا الحديث: " المعنى أنَّ العبدَ إذا اتقى الله وحفظ حدودَه وراعى حقوقه في حال رخائه وصحته، فقد تعرَّف بذلك إلى الله، وكان بينه وبينه معرفة، فعرفه ربُّه في الشدَّة، وعرف له عملَه في الرخاء، فنجَّاه من الشدائد بتلك المعرفة . وهذا التعرُّفُ الخاص هو المشار إليه في الحديث الإلَهي ( ولا يزال عبدي يتقرَّب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ـ إلى أن قال ـ ولئن سألني لأعطينَّه، ولئن استعاذني لأعيذنَّه ).
ثمَّ أورد عن الضحاك بن قيس أنَّه قال: " اذكروا الله في الرخاء يذكركم في الشدَّة، إنَّ يونس عليه السلام كان يذكر اللهَ، فلمَّا وقع في بطن الحوت قال الله تعالى: { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ }، وإنَّ فرعونَ كان طاغياً ناسياً لذكر الله، فلمَّا أدركه الغرقُ قال: آمنتُ، فقال الله تعالى: { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ المُفْسِدِينَ } "، فمَن لَم يتعرَّف إلى الله في الرخاء فليس له أن يعرفه في الشدَّة لا في الدنيا ولا في الآخرة.
قال رجل لأبي الدرداء رضي الله عنه: " أوصِني، فقال : اذكر الله في السرَّاء يذكرك الله عزَّ وجلَّ في الضرَّاء ". وعنه رضي الله عنه أنَّه قال : " ادع الله في يوم سرَّائك لعلَّه أن يستجيب لك في يوم ضرَّائك ".
وإنَّ من التعرُّف على الله في الرخاء أن يجتهد العبدُ في حال رخائه بالتقرُّب إلى الله وطلبِ مرضاته، والإكثار من الأعمال الصالحة المُقرِّبة إليه، كالبر والصلة، والصدقة والإحسان، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وغير ذلك من وجوه البِرِّ وسُبل الخير " وحديث الثلاثة الذين دخلوا الغارَ وانطبقت عليهم الصخرةُ " يشهد لهذا، فإنَّ الله فرج عنهم بدعائهم بما كان منهم من الأعمال الصالحة الخالِصة في حال الرخاء من بر الوالدين، وترك الفجور، والأمانة الخفية.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم؛ ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم؛ أقول ما تسمعون واستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنبٍ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله على إحسانه ؛ والشكر له على توفيقه وامتنانه ؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ؛ وأشهد أن محمداً عبده ورسوله؛ صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليماً كثيراً. أما بعد:-
عباد الله: إن أعظم الشدائد والكربات ما يمر على الإنسان من حين وفاته, فمن تعرف على الله في الدنيا ولزم طاعته وانكف عن معصيته نزلت عليه عند موته ملائكة بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس, وقال ملك الموت عند رأسه: " أيتها الروح الطيبة أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان ". وكذلك إذا وضع في قبره, ثبتَّه الله عند الجواب وفتح له باباً إلى الجنة يأتيه من طيبها وريحها وجاءه رجل حسن الهيئة حسن المنظر فيقول : " أنا عملك الصالح " ويُقال له : " نم نومة العروس ". ويفرش قبره من الجنة, ويُفسح له مد بصره. ومن عرف الله في الدنيا, وأقبل على طاعة الله, وانكف عن معصيته, وخاف من عقابه, أمَّنَه الله يوم الفزع الأكبر, عندما يُحشر الناس حفاةً عراةً غُرلاً غير مختونين, يموج بعضهم في بعض, قد أُدنيت الشمس منهم قدر ميل, والعرق يلجمهم ، بينما هو في ظل الله يوم لا ظل إلا ظله.
ومن لزم سنة الرسول صلى الله عليه وسلم وشرب من معينها في الدنيا, شرب من حوض رسول الله صلى الله عليه وسلم في الآخرة ، حينما يُذاد الناس عن الحوض كما تُذاد الإبل الغريبة. ومن ثبت على التوحيد والسنة والطاعة في الدنيا, ثبَّت الله قدمه على الصراط الذي حكم الله بمرور الناس عليه ، وهو الجسر المضروب على متن جهنم, أدَقُّ من الشعر وأحَدُّ من السيف, { وَإِن مِّنكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيـًّا * ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّـا }.
فاتقوا الله عباد الله, وتفكروا فيما أمامكم, وإياكم والغفلة عن ذلك.
اللهم ثبتنا بقولك الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
|