ذَمُّ الإسْرافِ والتَّرَفِ والتَّنْبيهُ عَلى
الاقْتِصادِ في اسْتِهْلاكِ المياه
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ
باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ
فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا
اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ،
صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
عِبادَ الله: اتقُوا اللهَ تعالى، واعْلَمُوا أَنَّ مِنْ سُوءِ التَصَرُّفِ في الأَمْوالِ، الإسْرافَ فيها، سَواءً
كان ذلك في الإنْفاقِ، أَوْ الاسْتِهْلاكِ.
أَمَّا في الإنْفاقِ، فإنَّه يُسَمَّى: التبذِيرُ:
قال تعالى: ( إِنَّ المُبَذِرِينَ كانُوا إِخْوَانَ الشَّياطِينِ )، قال ابنُ
مَسْعُودٍ رضي اللهُ عَنْه: " التَّبْذِيرُ: الإِنْفاقُ بِغَيْرِ حَقٍّ
".
وأَمَّا سُوءُ التَصَرُّفِ في
الاسْتِهْلاكِ، ومُجاوَزَةُ الحَدِّ في ذلك، فإنَّه يُسَمَّى: الإسْرافُ، قال
تعالى: ( وَكُلُوا واشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّه لا يُحِبُّ المُسْرِفِين ).
فإنَّ في ذلك مَضَرَّةً عَلَى العَقْلِ والدِّينِ، لأَنَّ الشِّبَعَ والرِّيَّ
المُفْرِطَيْنِ، يُؤَثِّرانِ عَلى صِحَّةِ الإنْسانِ، ويُكَسِّلانِهِ عَنِ
مَصالِحِهِ، وقَدْ يَحْمِلانِهِ عَلى البَطَرِ والغَفْلَةِ، وفي الحديثِ
المَرْوِيِّ عَن النبيِّ صلى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( مَا ملأَ آدمِيٌّ
وِعَاءً شَرًّا مِنْ بَطنٍ، بِحَسْبِ
ابنِ آدمَ أُكُلاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، فإِنْ كَانَ لا مَحالَةَ فَثلُثٌ
لطَعَامِهِ، وَثُلُثٌ لِشَرابِهِ، وثُلُثٌ لِنَفَسِه ). قال بَعْضُ الأطِبَّاءِ:
" لَوْ اسْتَعْمَلَ الناسُ هذا الحديثَ، لَسَلِمُوا مِن الأمْراضِ
والأَسْقامِ، وَلَتَعَطَّلَتْ دكَاكِينُ الصَّيادِلَةِ ".
والإسْرافُ لًهُ صُورٌ وأَنْواعٌ:
فَمِنْ ذلك: الحِرْصُ عَلى تَوْفِيرِ كُلِّ
ما تَشْتَهِيهِ النَّفْسُ وتَسْتَمْتِعُ بِهِ، سَواءً كانَ في المَأْكَلِ أَو
المَشْرَبِ، أَوْ ما يُوَفَّرُ لِلأَهْلِ والأَولادِ، قال رسولُ الله صلى الله
عليه وسلم: ( أَخْوَفُ ما أخافُ عليكم: شهواتُ الغَيِّ
في بُطُونِكُم وفَرَوجِكُم،
وَمُضِلَّاتُ الهَوَى ). والواجِبُ هُو الاعْتِدالُ في ذلك.
وَمِن الإسْرافِ أَيْضًا: مُنافَسَةُ
الآخَرِينَ في كَثْرَةِ الاسْتِهْلاكِ وأُمُورِ الحياةِ، ولَوْ كانَ في غَيْرِ
فائِدَةِ، وَمُجاراةُ الناسِ في الحَفَلاتِ والوَلائِمِ، وهَدايا المُناسَباتِ.
فإنَّ ذلك من الاسْرافِ والتَّبْذيرِ، والتَّخَوُّضِ في مالِ اللهِ بِغَيْرِ
حَقٍّ، بَلْ إِنَّ هذا هُوَ عَلامَةُ ظُهُورِ التَّرَفِ في المُجْتَمَعِ
وانْتِشارُه، والذي يَقْضِي عَلى المُرُوءَةِ، وتَطْغَى بِسَبَبِهِ عَلى رِجالِهِ
وشَبابِهِ النُّعُومَةُ والكَسَلُ، ويُثَبِّطُ عَن الجِهادِ والدَّعْوَةِ
ونُصْرَةِ الدِّينِ والأَمْرِ بالمَعْروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَرِ. بَلْ إِنَّ
التَّرَفَ إذا صارَ ظاهِرَةً اجْتِماعِيَّةً، قادَ المُجْتَمَعَ إلى ما يُسْخِطُ
اللهَ ولابُدَّ، ولِذلكَ لَمْ يُذْكَرِ التَّرَفُ في القُرآنِ إلا في الآياتِ التي
ذَمَّ اللهُ فيها الأُمَّمَ، وأَعْداءَ الرُّسُلِ، كَما قال تعالى: ( وَإِذَا
أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا
مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا
تَدْمِيرًا ). وقال تعالى: ( وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا
مُجْرِمِينَ). وقال تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا
قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ ).
ولِذلكَ نَجِدُ العِباداتِ التي تَحْتاجُ
إلى الاسْتيقاظِ وهَجْرِ الفِراشِ، كقيامِ الليلِ وصلاةِ الفَجْرِ، ثَقيلَةً عَلى
المُتْرَفين.
والعِباداتِ التي تَحْتاجُ إلى حَبْسِ
النَّفْسِ عَن المَلَذّاتِ، وحِفْظِ الفَرْجِ، وصيانَةِ الجوارِحِ كالصيامِ، ثَقِيلَةً عَلى المُتْرَفين.
والعِباداتِ التي تَحْتاجُ إلى جِدٍّ وعَمَلٍ
ونُصْرَةٍ للدينِ، وإخافَةِ الأعْداءِ، كالدَّعْوَةِ والأَمْرِ بالمَعْروفِ
والنَهْيِ عن المُنْكَرِ والجِهادِ، ثَقِيلَةً عَلى المُتْرَفين.
ومِنْ مَفاسِدِ الإسْرافِ والتَّرَفِ:
زِيادَةُ الرَّفاهِيَةِ، وقِلَّةُ الحَرَكَةِ وما يَتَعَلَّقُ بِنشاطِ البَدَنِ، فإنَّ ذلك مَعَ الإسْرافِ في الطعامِ، سَبَبٌّ لانْتِشارِ الأَمْراضِ
المُزْمِنَةِ، كَما هُوَ مُشاهَدٌ في الواقِعِ الذي نَعيشُهُ.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم
فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ
وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ
الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الْحَمْدُ
للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشُّكْرُ لَهُ عَلَى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن
لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ،
صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ
عِبادَ الله: وَمِن الإسْرافِ المَذْمُومِ:
الإسْرافُ في اسْتِعْمالِ الماءِ، أَيًّا كانَ هذا الاسْتِعْمالُ، سَواءً كانُ في
الوُضُوءِ، أَو الغُسْلِ، أَو تَنْظيفِ البيتِ أو السَّيَّارَةِ، وغَيرِ ذلك مِن
الاسْتِعْمالاتِ. فإنَّ الواجِبَ هُو الاقْتِصادُ في ذلك، حَتَّى لَوْ كانَ عَلى
نَهْرٍ جارٍ. لأنَّ الماءَ نِعْمَةٌ كُبْرَى، ولا يَجُوزُ الاسْتِهانَةُ بِهذه
النِّعْمَةِ وإِهْدارُها، والتي لَوْ ذَهَبَتْ لَهَلَكَ مَنْ عَلى ظَهْرِ الأرْضِ
مِنْ إنسانٍ وحَيَوانٍ ونَباتٍ.
والحِفاظُ عَلى هذه النِّعْمَةِ يَكُونُ
بالأسْبابِ الحِسِّيَّةِ والشَّرْعِيَّةِ.
أَمَّا الأسْبابُ الحِسِّيَّةِ: فَقَدْ
كَثُرَ الكَلامُ عَنْها في وَسائِلِ الإعْلامِ المَرْئِيَّةِ والمَسْمُوعَةِ
والمَقْرُوءَةِ. وذلك بِتَرْشِيدِ الناسِ في اسْتِهْلاكِ الماءِ، وهذا أَمْرٌ
مَطْلُوبٌ، بَلْ هُو هَدْيُ الإسلامِ.
وأَمَّا الأسبابُ الشَّرْعِيَّةُ: وهِيَ
الأَهُمُّ والتي يَنْبَغِي أَنْ يُسَلَّطَ عَليْها الضَّوْءُ عَبْرَ وَسائِلِ
الإعلامِ، فَهِيَ اللُّجُوءُ إلى اللهِ تَعالى، في حِفْظِ هذه النِّعْمَةِ، وَعَدَمِ زَوالِها، قال تعالى: ( قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ
مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ
بِمَاءٍ مَعِينٍ ).
وَمِنْ ذلك: التَّوبَةُ وكَثْرَةُ
الاسْتِغْفارِ، وَوُجُوبُ لُزُومِ طاعَةِ اللهِ، والبُعْدُ عن الذُنُوبِ
والمَعاصِي، والتي تَزُولُ بِسَبَبِها النِّعَمُ، وتَحِلُّ بِسَبَبِها النِّقَمُ، والتي مِنْها الجَدْبُ والقَحْطُ، قال تعالى: ( وَأَنْ لَوِ اسْتَقَامُوا عَلَى
الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ
مَاءً غَدَقًا ). وقال تعالى: ( وَ يَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ
تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ
السَّمَاءَ عَلَيْكُم مِّدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَىٰ قُوَّتِكُمْ ).
اللهمَّ
ارزُقْنا شُكْرَ نِعْمَتِكَ، واجْعَلْها عَوْنًا لَنا عَلى طاعَتِكَ، وَاصْرِفْ
عَنَّا سُوءَ التَصَرُّفِ فيها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم إنا نعوذ بك من زوال
نعمتك وتحول عافيتك وفجأة نقمتك وجميع سخطك، اللهم علمنا ما ينفعنا وانفعنا بما
علمتنا وفقهنا في دينك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم خلصنا من حقوق خلقك وبارك لنا
في الحلال من رزقك، وتوفنا مسلمين، واجعلنا في الآخرة من الصالحين، اللهم احفظ
بلادنا من كيد الكائدين وعدوان المعتدين، اللهم أخرجها من الفتن والشرور والآفات
ومن هذا البلاء، واجعلها أقوى مما كانت، وأمكن مما كانت، وأغنى مما كانت، وأصلح
مما كانت، اللهم أصلح أهلها وحكامها واجمع كلمتهم وألف بين قلوبهم واجعلهم يدا
واحدة على من عداهم يا قوي يا عزيز، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين
والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات ( وَأَقِمِ
الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ
اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ) .
وللمزيد من
الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=119
|