الْمُنْجِيَات مِنْ فِتْنَةِ النِّسَاء
خطبة جمعة بتاريخ / 10-6-1440 هـ
الحمد لله ؛ نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه ، ونعوذ بالله من شرور
أنفسنا وسيئات أعمالنا ؛ من يهده الله فلا مضلَّ له ، ومن يضلل فلا هادي له ،
وأشهد أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ، وصفيُّه
وخليله ، وأمينه على وحيه ، ومبلِّغ الناس شرعه ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى
آله وصحبه أجمعين .
أمَّا بعد أيها المؤمنون: اتقوا الله تبارك وتعالى، وراقبوه في جميع
حركاتكم وسكناتكم مراقبة من يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه ، وفي تقوى الله جل وعلا خلَفٌ
من كل شيء ، وليس من تقوى الله خلَف .
أيها المؤمنون : يقول النبي
صلى الله عليه وسلم : ((اتَّقُوا الدُّنْيَا وَاتَّقُوا النِّسَاءَ؛
فَإِنَّ أَوَّلَ فِتْنَةِ بَنِى إِسْرَائِيلَ كَانَتْ فِي النِّسَاءِ)) ، إنها
فتنة من أشد الفتن وأعظمها وأخطرها ؛ فيحتاج المرء -ولاسيما الشاب- أن يتفقه في
هذا الباب فيما يعينه على الخلاص من هذه الفتنة والنجاة من الوقوع فيها ، لاسيما
إذا كثرت المغريات وتنوعت الدواعي .
أيها
المؤمنون : ولا أنفع في هذا المقام من أن نتدبر القرآن ؛ فإنه شفاءٌ من كل داء ، وبخاصةٍ
تلك القصة العجيبة؛ قصة يوسف عليه السلام فإن فيها أعظم عبرة ، ﴿ لَقَدْ
كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف:111] ، فيوسف عليه السلام تعرض لهذه الفتنة تعرضًا هو من
أشد ما يكون ، فقد أخبر الله عز وجل أن امرأة العزيز قد راودته عن نفسها ، أوتيت
منصبًا وجمالا ، وهو شاب في أوج شبابه وقوة نشاطه ، وفي بلد غربة ، وهي التي دعته
إلى نفسها ، وتهيأت له وعملت على إغرائه ، وغلَّقت الأبواب ، واجتهدت في أن توقعه
في شراك هذه الفتنة بكل ما أوتيت من سبيل أو طريق ؛ فنجَّاه الله . فيحتاج المرء
وبخاصةٍ الشاب أن يتأمل في الأسباب التي كانت نجاةً ليوسف عليه السلام ، متدبرًا
كلام الله عز وجل مستلهمًا من هذا ما يُعينه على الخلاص من هذه الفتنة العظيمة
الخطيرة .
أيها
المؤمنون : وبالتأمل في هذا السياق الكريم ؛ نجد أن الأسباب المعينة على النجاة من
هذه الفتنة مستخلصةً من قصة يوسف عليه السلام سبعة أسباب ، ولنتأملها جيدا :
§ الأول :
الاستعاذة بالله ، فإن من استعاذ بالله أعاذه ، ومن توكل على الله كفاه، ﴿ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ
هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾ [آل عمران:101] ؛ ولهذا بادر عليه السلام إلى التعوذ بالله جل وعلا ،
فقال حين راودته: ﴿ مَعَاذَ
اللَّهِ ﴾ [يوسف:23] أي: أستعيذ
بالله . والاستعاذة -أيها المؤمنون- حصنٌ حصين وحرزٌ متين يقي المسلم بإذن الله من
الفتن كلها والشرور بجميع صورها.
§ الأمر
الثاني: أن يستحضر المرء في هذا المقام أن هذه الفَعلة ظلمٌ وأيُّ ظلم ، وهو أمرٌ
لا يرضاه المرء لنفسه في أهله ، ولهذا قال عليه السلام مستحضرًا ذلك: ﴿ إِنَّهُ
لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ﴾ [يوسف:23] ؛ فهذا ظلمٌ
لا يفلح من قارفه بل إنه يكون من الخاسرين ، وفي المسند للإمام أحمد في قصة الشاب
الذي جاء إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقال: «يَا رَسُولَ اللهِ ائْذَنْ لِي
بِالزِّنَا»، فنهره الصحابة ، فأدناه النبي عليه الصلاة والسلام
وقال له : ((أَتُحِبُّهُ لِأُمِّكَ؟)) ، ((أَفَتُحِبُّهُ لِابْنَتِكَ؟)) ، ((أَفَتُحِبُّهُ
لِأُخْتِكَ؟)) ، ((أَفَتُحِبُّهُ لِعَمَّتِكَ؟)) ، ((أَفَتُحِبُّهُ لِخَالَتِكَ؟))
وفي كل ذلك يقول الشاب: «لَا وَاللهِ ، جَعَلَنِي اللهُ فِدَاءَكَ» ، فقال له
النبي عليه الصلاة والسلام: (( وكذلك الناس لا يرضونه لأمهاتهم ولا لبناتهم ولا
لأخواتهم ولا لعماتهم ولا لخالاتهم)) لأنه ظلمٌ شنيع .
§ الأمر
الثالث: تجديد الإيمان وتقويته ؛ فإن الإيمان عصمةٌ لصاحبه ونجاة في الفتن ، وتأمل
قول الله عز وجل: ﴿ وَلَقَدْ
هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى
بُرْهَانَ رَبِّهِ﴾ [يوسف:24] ؛ والمراد
ببرهان ربه على الصحيح في معناها : أي ما معه من العلم والإيمان . وأعظم الإيمان
ردعًا وزجرا: الإيمان بالله وعظمته جل في علاه ، وأنه عز وجل مطلع على العباد يعلم
سرهم ونجواهم لا تخفى عليه من العباد خافية ، فهذا برهانٌ عظيم إذا حضر في قلب
المؤمن عند الفتنة استحيا من ربه ومولاه أن يراه حيث نهاه .
§ الرابع عباد
الله : تحقيق الإخلاص ؛ فإن الإخلاص خلاصٌ من الفتن ، ونجاة من المحن ، وسلامة من
البلايا والشرور ، وتأمل في قصة يوسف يقول الله عز وجل: ﴿ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ
السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا
الْمُخْلَصِينَ﴾ [يوسف:24] وفي قراءة «المخلِصين» ؛ أي المخلِصين
لله . فمن أخلص قلبه لله لم تجد هذه الشهوات المحرمة والملذات المنهي عنها سبيلًا
إلى قلبه.
§ الخامس عباد
الله : الفرار بالنفس من الفتن ولاسيما عند انعقاد أسبابها ووجود موجبات وقوعها ، فها
هو يوسف عليه السلام لما وجدت هذه الفتنة العصيبة فرَّ متجهًا إلى الباب ﴿ وَاسْتَبَقَا
الْبَابَ ﴾ [يوسف:25] فرارًا من
الفتنة ناجيًا بنفسه ، وهكذا ينبغي أن يكون عبد الله المؤمن ؛ لا يخطو خطوات تفضي
به إلى الفتنة ، وإذا وقع في شيء من ذلك فعليه أن ينجو بنفسه فرارًا من الفتن ، لا
أن يستشرف لها أو يعرِّض نفسه للوقوع فيها ، بل عليه أن يفر من الفتن طلبًا لنجاة
نفسه وسلامتها وعافيتها .
§ الأمر
السادس عباد الله : الاستعصام ؛ وهذا شأنه عظيم ، قال الله عز وجل ذاكرًا عن امرأة
العزيز في هذا السياق ﴿ وَلَقَدْ
رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ ﴾ [يوسف:32] ، والاستعصام -عباد الله- هو القوة مع النفس في منعها
وكفِّها وزجرها والأخذ بأسباب نجاتها وسلامتها ، وهكذا كان عليه السلام . والناس
في هذا المقام عند ورود الفتن بين مستعصِمٍ ومستسلم ؛ ومن استعصم نجا ، ومن استسلم
للفتنة هلك .
§ الأمر
السابع عباد الله : الإلحاح على الله بالدعاء وصدق الالتجاء إلى الله سبحانه
وتعالى ؛ فإن من دعا الله صادقًا أجاب الله دعاءه وحقق رجاءه وأعطاه سؤله ، ويوسف
عليه السلام لجأ إلى ربه معتصمًا بالله طالبًا نجاته وسلامته ممن بيده الأمر كله
سبحانه وتعالى ، ﴿ قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ﴾ [يوسف:33] ؛ دعا بهذه الدعوات الصادقات ملتجئًا إلى رب الأرض
والسماوات ؛ فأجاب الله دعوته وحقق طِلبته ﴿ فَاسْتَجَابَ
لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [يوسف:34] .
نسأل الله
عز وجل أن يرزقنا أجمعين بصيرةً في دينه ، وحُسن تدبرٍ لكتابه وجمال ائتساء بأنبيائه
وأصفيائه ، وأن يلحقنا بالصالحين من عباده .
أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب؛ فاستغفروه
يغفر لكم إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبده ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أما بعد أيها
المؤمنون : اتقوا الله ؛ فإن من اتقى الله وقاه ، وأرشده إلى خير أمور دينه ودنياه.
واعلموا أن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدى هدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر
الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وعليكم بالجماعة ؛ فإن يد
الله على الجماعة .
أيها المؤمنون : وفي نجاة
يوسف عليه السلام من هذه الفتنة وغيرها مما عرض له مما حكاه الله وقصه في سورة
يوسف عليه السلام عبرة للمعتبرين وعظة للمتعظين ، ولاسيما من وفقه الله تبارك
وتعالى للتأمل في آياته والتدبر لهداياته لتكون شفاءً لقلبه ونجاةً له من الفتن
والشرور بأنواعها .
وفي تمام قصة يوسف ذكر الله
عز وجل خصلتين عظيمتين اتصف بهما عليه السلام فكانتا له نجاةً من كل فتنة وسلامةً
له من كل بلية ، تأمل ذلك في خواتيم هذه القصة حيث قال عليه السلام: ﴿ أَنَا
يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا﴾ ما سبب هذه المنة؟ وما سبب هذه النجاة ؟ قال: ﴿ إِنَّهُ
مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ﴾ [يوسف:90]؛ فجمع الله له
بين التقوى والصبر ، وهما عاصمتان من الفتن ومنجيتان من كل هلاك.
رزقنا الله أجمعين حُسن التقوى ، وجعلنا من عباده
المحسنين ، وأعاذنا من الفتن ما ظهر منها وما بطن .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله كما أمركم الله بذلك
فقال : ﴿ إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾[الأحزاب:٥٦] ، وقال صلى الله عليه وسلم:
((مَنْ صَلَّى عَلَيَّ صَلَاةً صَلَّى الله عَلَيْهِ بِهَا عَشْرًا)) .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنَّك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمدٍ وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهمَّ عن الخلفاء الراشدين ، الأئمة المهدين؛ أبى
بكرٍ الصديق ، وعمرَ الفاروق ، وعثمانَ ذي النورين ، وأبي الحسنين علي ، وارض
اللهم عن الصحابة أجمعين ، وعن التابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا
معهم بمنِّك وإحسانك وكرمك يا أكرم الأكرمين .
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين ، اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة
نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في كل
مكان .
اللهم آمِنَّا اللهم في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا ، واجعل
ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا رب العالمين . اللهم وفِّق ولي أمرنا لما
تحبه وترضاه من سديد الأقوال وصالح الأعمال ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم آت نفوسنا تقواها ، زكِّها أنت خير من زكاها ، أنت وليُّها ومولاها .
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . اللهم اغفر لنا
ولوالدينا ووالديهم وذرياتهم وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء
منهم والأموات .
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ عبدالرزاق
البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |