اليَقِين
خطبة جمعة بتاريخ / 8-7-1440 هـ
الحمد لله ؛ نحمدُه ونستعينُه ونستغفره ونتوب إليه ،
ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا ، من يهدِه الله فلا مضلَّ له ، ومن
يضلِل فلا هادي له ، وأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحده لا شريك له ، وأشهد أنَّ
محمداً عبدُه ورسوله؛ بلَّغ الرسالة ، وأدَّى الأمانة ، ونصح الأمة ، وجاهد في
الله حق جهاده حتى أتاه اليقين ، فما ترك خيرًا إلا دل الأمة عليه ، ولا شرًا إلا
حذرها منها ؛ فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه أجمعين .
أما بعد أيها المؤمنون
: اتقوا الله تعالى ، وراقبوه مراقبة عبدٍ يعلم أن ربَّه يسمعُه ويراه .
أيها المؤمنون : إن من أعظم المطالب وأجلِّها أن يُعمر
القلب باليقين ؛ فإنه روح الأعمال ، ومنزلته من الإيمان بمنزلة الروح من الجسد . واليقين
-يا معاشر العباد- هو استقرار القلب وطمأنينته بالعلم وانتفاء الشك والريب ، قال
الله تبارك وتعالى: ﴿ إِنَّمَا
الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا﴾
[الحجرات:15] أي أيقنوا ولم
يشكُّوا .
وفي القرآن الكريم -عباد الله- آيٌ كثيرة فيها ذكر لليقين
وصفة أهل الإيمان به وأن قلوبهم عامرةٌ باليقين ليس في قلوبهم شكٌ ولا ريب ،
[وخصهم سبحانه بالانتفاع بالآيات والبراهين فقال تعالى: ﴿ وَفِي
الأَرْضِ آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ﴾
[الذاريات:
20] وقال تعالى: ﴿ قَدْ
بَيَّنَّا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ ﴾ [البقرة: 118]]، وفي القرآن أيضا وصفٌ للكفار أهل النار بأن
قلوبهم خاليةً منه ليس فيها شيء من اليقين ﴿ وَإِذَا
قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا
نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ
بِمُسْتَيْقِنِينَ﴾ [الجاثية:32] ؛ هذه حال
أهل الكفر أهل النار ، أما اهل الإيمان فإن قلوبهم باليقين عامرة ، وبطمأنينة
الإيمان مستقرة ، وبالأنس بالله تبارك وتعالى مطمئنة ، ﴿ الَّذِينَ
آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ
تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ [الرعد:28] .
أيها المؤمنون : اليقين هو خير ما عُمِرت به النفوس ؛
روي عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : «خير ما أُلقي في القلب اليقين» ، وجاء في
المسند وغيره من حديث أبي بكر رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : ((سَلُوا
اللهَ الْيَقِينَ وَالْمُعَافَاةَ ، فَإنه لَمْ يُؤْتَ أَحَدٌ بَعْدَ الْيَقِينِ خيرٌ
مِنَ الْمُعَافَاةِ))
أيها المؤمنون: اليقين منزلته من الدين علية ومكانته
فيه رفيعة ؛ فإنه متى عُمرت به القلوب وزكت به النفوس صلُح حال الإنسان واستقام
أمره على طاعة الرحمن ، قال صلى الله عليه وسلم : ((أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ
مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ ، وَإِذَا فَسَدَتْ فَسَدَ
الْجَسَدُ كُلُّهُ ؛ أَلَا وَهِيَ الْقَلْبُ)) .
عباد الله : وهذا اليقين إنما تحصله القلوب بأمور
ثلاثة لابد من عناية عظيمة بها :
الأول عباد الله : تدبر القرآن ؛ فالقرآن هو
كتاب اليقين والسعادة والفلاح والرفعة في الدنيا والآخرة ، قال الله تبارك وتعالى:
﴿ كِتَابٌ
أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو
الْأَلْبَابِ﴾ [ص:29] .
والأمر الثاني عباد الله : التأمل في آيات الله التي جعلها في الأنفس
والآفاق تدبرًا يهدي القلوب إلى عظمة من خلقها وكمال من أوجدها وجلال من أبدعها
سبحانه وتعالى ، ﴿ سَنُرِيهِمْ
آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ
الْحَقُّ﴾ [فصلت:53] .
والثالث عباد الله : العمل بالعلم ؛ فإن العمل بالعلم يثبِّت اليقين
ويقرره في القلب ، ومخالفة العلم يثمر ضعف اليقين ولربما زواله .
أيها المؤمنون : باليقين فلاح العبد عند الله وسعادته
في دنياه وأخراه ؛ ﴿ وَالَّذِينَ
يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ
هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ
الْمُفْلِحُونَ﴾ [البقرة:4-5] .
جعلنا الله أجمعين
من أهل اليقين والإيمان والطمأنينة بذكر الرحمن ، وأصلح لنا قلوبنا وشأننا كله ، وهدانا
إليه صراطًا مستقيما . أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم ؛ فاستغفروه يغفر لكم ،
إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله كثيرا ، وأشهد أن لا إلـٰه إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهدُ أن
محمداً عبدُه ورسوله ؛ صلى الله وسلَّم عليه وعلى آله وصحبه أجمعين . أمّا بعد
أيها المؤمنون عباد الله : اتقوا الله تعالى .
عباد الله : واليقين مراتب
بعضها أعلى من بعض ، ومراتبه ثلاثة كلها ذكرها الله في القرآن وهي : علم اليقين ، وعين
اليقين ، وحق اليقين . قال الله تبارك وتعالى: ﴿وَإِنَّهُ
لَحَقُّ الْيَقِينِ﴾ [الحاقة:51] ، وقال
سبحانه وتعالى: ﴿ كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ
الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ
الْيَقِينِ ﴾ [سورة التكاثر] .
v وعلم اليقين -عباد الله- : هو
العلم الذي يحصِّله العبد من طريق الخبر .
v وعين اليقين : هو العلم الذي
يحصِّله ويدركه بحاسة البصر .
v وحق اليقين : هو العلم الذي
يحصِّله بالمباشرة والذوق ونحو ذلك .
فمثلا : عِلمُنا الآن بالجنة
والنار هذا «علم اليقين» ، فإذا عاينها الناس يوم
القيامة وشاهدوا الجنة عندما تُزلف للمتقين ، والنار عندما تبرَّز للغاوين فإن
العلم حينئذ يكون «عين اليقين» ، وإذا دخل أهل الجنة الجنة
وأهل النار النار كان علمهم حينئذ «حق اليقين» .
نسأل الله الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل ، ونعوذ بالله من النار وما
قرب إليها من قول أو عمل .
وصلُّوا وسلِّموا -رعاكم الله- على محمد بن عبد الله
كما أمركم الله بذلك في كتابه فقال: ﴿إِنَّ
اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ
آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ [الأحزاب:٥٦] .
اللهم صلِّ على محمدٍ وعلى آل محمد كما صلَّيت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم
إنك حميدٌ مجيد ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على إبراهيم وعلى آل
إبراهيم إنَّك حميدٌ مجيد . وارضَ اللهم عن الخلفاء الراشدين ، وعن التابعين ومن
تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين ، وعنَّا معهم بمنِّك وكرمك وإحسانك يا أكرم الأكرمين
.
اللهم
أعزَّ الإسلام والمسلمين . اللهم انصر من نصر دينك وكتابك وسنَّة نبيك محمد صلى
الله عليه وسلم ، اللهم آمنَّا في أوطاننا ، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا . اللهم
وفِّق ولي أمرنا لهداك ، اللهم وفِّقه وولي عهده لما تحبه وترضاه من سديد الأقوال
وصالح الأعمال .
اللهم آتِ نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها .
اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم
والأموات . ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ
عبدالرزاق البدر تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=125 |