رؤية المؤمنين لربهم في الجنة
24/7/1435هـ
الخطبة الأولى :
إِنَّ الحمدَ للهِ نحمدُهُ ونستَعينُهُ ونستَغفرُهُ، ونعوذُ باللهِ من شرُورِ أنفسِنا وسيئاتِ أعمالنا، منْ يهدِه اللهُ فلا مضلَّ له، ومنْ يضللْ فلا هاديَ له، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، وأشهدُ أن محمّداً عَبدُهُ ورسولُهُ (( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) (( يَا أَيّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا )) ، أما بعد: فإن خير الكلام كلام الله ، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها ، وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة .
أيها المؤمنون : الغاية التي يسعى لها المؤمنون هي رضا الله سبحانه ودخول جنته ، وهل تعلمون عباد الله ما أعلى نعيم الجنات ؟ ألا فلتعلموا رحمكم الله أن أعلى نعيم في الجنة هو ( رؤية وجه الله سبحانه فيها ) .
فـ ( رؤية المؤمنين لربهم في الجنة ) هي التي تنافس فيها المتنافسون ، وتسابق إليها المتسابقون ، وللفوز بها فليعمل العاملون .
أيها المسلمون : اتفق الأنبياء والمرسلون وجميع الصحابة والتابعون وأئمة الإسلام أهل السنة والجماعة على تتابع القرون ، اتفقوا على الإيمان برؤية الله سبحانه في الجنة ، فلن تجد كتاباً في عقيدة أهل السنة إلا ويذكر إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة ، وأنها من المجمع عليه عندهم .
وقد دلت نصوص الكتاب والسنة على إثبات هذه العقيدة .
أما الكتاب : فيقول الرب جل وعلا : (( وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَة )) يقول أهل اللغة : النظر إذا عُدي بـ(إلى) دلَّ على المعاينة بالأبصار .
ويقول تبارك وتعالى : (( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )) فالحسنى هي الجنة ، والزيادة هي النظر إلى وجه الله سبحانه بهذا فسرها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما في صحيح مسلم وبهذا فسرها الصحابة رضوان الله عليهم .
وأما السنة : فقد بلغت أحاديث الرؤية حد التواتر ، رواها ثلاثون صحابياً رضوان الله عليهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
أيها المسلمون : إن المؤمنين في الجنة يرون ربهم سبحانه من فوقهم رؤيةً حقيقية بأبصارهم كما تُرى الشمس ويُرى القمر ليس دونهما سحاب ولا ضباب ، ثبت في صحيحي البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ أناسًا قالوا: يا رسول الله، هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الْقَمَرِ لَيْلَةَ الْبَدْرِ ؟) قالوا : لا يا رسول الله ، قال : ( هَلْ تُضَارُّونَ فِي رُؤْيَةِ الشَّمْسِ لَيْسَ دُونَهَا سَحَابٌ ؟ ) قالوا: لا، قال: ( فَإِنَّكُمْ تَرَوْنَهُ كَذَلِك ) .
أيها المسلمون : رؤية وجه ربنا الكريم من أشرف مسائل أصول الدين ، ولا شيء ألذّ للقلوب المؤمنة ولا أبهج للنفوس الموقنة من مثل رواية أحاديثها فإنها تحرّك شوق المسلم إلى لقاء ورؤية الجناب الأقدس ملك الملوك القدوس ذي الجلال والجمال والكمال والكبرياء والعظمة ، فإن لذة رؤيته تتضاءل عندها كل المتع واللذات ، في صحيح مسلم يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (( إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْجَنَّةِ الْجَنَّةَ ، يَقُولُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لَهُمْ: تُرِيدُونَ شَيْئًا أَزِيدُكُمْ ؟ فَيَقُولُونَ : أَلَمْ تُبَيِّضْ وُجُوهَنَا؟! ، أَلَمْ تُدْخِلْنَا الْجَنَّةَ ، وَتُنَجِّنَا مِنَ النَّارِ ؟! قَالَ : فَيَكْشِفُ الْحِجَابَ ، فَمَا أُعْطُوا شَيْئًا أَحَبَّ إِلَيْهِمْ مِنَ النَّظَرِ إِلَى رَبِّهِمْ عَزَّ وَجَلَّ )) ثُمَّ تَلا هَذِهِ الآيَةَ: (( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )) قال الحسن البصري رحمه الله : إن الله تعالى ليتجلى إلى أهل الجنة ، فإذا رآه أهل الجنة نسوا نعيم الجنة .
وفي الصحيحين عن أبي موسى الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((جَنَّتَانِ مِنْ فِضَّةٍ آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَجَنَّتَانِ مِنْ ذَهَبٍ، آنِيَتُهُمَا وَمَا فِيهِمَا، وَمَا بَيْنَ الْقَوْمِ وَبَيْنَ أَنْ يَنْظُرُوا إِلَى رَبِّهِمْ تَبَارَكَ وَتَعَالَى إِلاَّ رِدَاءُ الْكِبْر عَلَى وَجْهِهِ فِي جَنَّةِ عَدْنٍ)) ، قال الحسن : لو علم العابدون أنهم لا يرون ربهم تعالى لذابت نفوسهم في الدنيا .
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة، ونفعني الله وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة ، واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية :
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً , ملء السموات وملء الأرض وملء مبينهما وملء ما شاء ربنا من شيء بعد , له الحمد حتى يرضى وله الحمد إذا رضي وله الحمد بعد الرضا , وأصلي وأسلم على النبي المرتضى والرسول المجتبى محمد بن عبد الله , أعبد الناس وأخشاهم وأتقى ، وأكثرهم ذكراً وشكراً وحمداً , صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه ومن تمسك بسنته وسنتهم إلى يوم الدين وسلم تسليماً ،، أما بعد:
عباد الله : لنيل هذه الكرامة الربانية العلية رؤية الله في الجنة أسباب عديدة :
ـ من أعظمها : الإيمان ، ومرتبته العليا الإحسان : (( لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ )) فالحسنى التي هي الجنة والزيادة التي هي رؤية الله فيها ، هي للذين أحسنوا ، والإحسان هو أن تحسن العقيدة والعمل بأن تعبد الله كما أمر كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه في الدنيا فإنه يراك ويعلم سرك ونجواك ، وسيجزيك على هذا الإحسان الجنة ورؤيته فيها .
ومن الإيمان وحسن الاعتقاد : الإيمان برؤية الله في الجنة ، وعدم إنكارها وعدم التكذيب بها كما أنكرها وكذب بها المنحرفون عن العقيدة الصحيحة عقيدة أهل السنة ، ولقد توعد المكذبين بلقائه فقال : (( كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ )) سيحجبون عن رؤية ربهم ، وهذا الحجب من رب العالمين المتضمن لسخطه وغضبه عليهم ، أعظم عليهم من عذاب النار .
ـ ومن أسباب نيل نعيم وكرامة رؤية الله في الجنة : المحافظة على صلاة الفجر وصلاة العصر بأدائها في وقتها ، ففي الصحيحين عن جرير بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا جلوسًا مع النبي ، فنظر إلى القمر ليلة أربع عشرة فقال: ( إِنَّكُمْ سَتَرَوْنَ رَبَّكُمْ عَيَانًا كَمَا تَرَوْنَ هَذَا , لا تُضَامُّونَ فِي رُؤْيَتِهِ )، أي : لا ينضم بعضكم إلى بعض ( فَإِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ لا تُغْلَبُوا عَلَى صَلاةٍ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ فَافْعَلُوا ) . ثُمَّ قَرَأَ : (( وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ )) ، والمعنى : إن أردتم الحصول على هذه الكرامة فأقيموا صلاة الفجر وصلاة العصر في وقتها .
فيا أيها المؤمنون : اجعلوا من دوافعكم ومحفزاتكم للقيام لصلاة الفجر وحضورها مع المسلمين خشية أن تحجبوا عن رؤية رب العالمين .
عباد الله : ومن أسباب نيل نعيم رؤية الله في الجنة: سؤال الله أن ينيلك هذه الكرامة ، وقد كان نبينا يسأل ربه هذا ، فيقول في دعائه : (( وَأَسْأَلُكَ لَذَّةَ النَّظَرِ إِلَى وَجْهِكَ وَالشَّوْقَ إِلَى لِقَائِكَ فِي غَيْرِ ضَرَّاءَ مُضِرَّةٍ وَلاَ فِتْنَةٍ مُضِلَّةٍ )) حديث صحيح أخرجه أحمد وابن حبان والحاكم .
وليس في هذه الدنيا لدى أهل المعرفة بالله لذةً للروح تعدل لذة الشوق إلى لقاء الله ، كما أنه ليس في الآخرة لذة تعدل لذة النظر إلى وجهه سبحانه .
اللهم إنَّا نسأَلُك خشيتك في الغيب والشهادة، ونسألك كلمة الحق في الرضا والغضب، ونسألك القصد في الفقر والغنى. ونسألك نعيما لا ينفد، ونسألك قرة عين لا تنقطع، ونسألك الرضا بعد القضاء، ونسألك برد العيش بعد الموت. ونسألك لذة النظر إلى وجهك، والشوق إلى لقائك، في غير ضراء مضرة، ولا فتنة مضلة. اللهم زينا بزينة الإيمان واجعلنا هداة مهتدين برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا ، اللهم توفنا مسلمين وأحينا مسلمين وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا واهدنا سبل السلام ونجنا من الظلمات إلى النور وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم واجعلنا شاكرين لنعمتك مثنين بها قابليها وأتمها علينا يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين في كل مكان اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين في كل مكان، اللهم ارحم ضعفهم وتولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم أحقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم.
اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى يا ذا الجلال والإكرام .
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ صلاح العريفي تجدها هنا:
http://islamekk.net/catplay.php?catsmktba=121 |