دين الرحمة لا نقمة الخوارج
الحمد لله رب العالمين , الرحمن الرحيم , مالك يوم الدين , وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له إله الأولين والآخرين ، أرحم الرحمين ، وقيوم السماوات والأرضين , وأشهد أن محمدا عبده ورسوله وصفيه وخليله , الذي وصفه ربه بأنه (( بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) ، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين ، أما بعد ...
(( فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ )) (( وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ))
قال الرحمن الرحيم : (( وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ، فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ )) .
اللهم آت نفوسنا تقواها
عباد الله : احمدوا ربكم على أن هداكم للإسلام واصطفاكم لتكونوا من أمة محمد عليه الصلاة والسلام .
ثم اعلموا أن من سمات دينكم البارزة ومقاصده العظيمة أنه دين رحمة , نزل بالرحمة ، واشتمل على الرحمة ، ويوصل إلى الرحمة الأبدية ، والسعادة السرمدية .
فربكم رحمن رحيم ، بل هو أرحم الراحمين ، كتب على نفسه الرحمة ، ووسعت رحمته كل شيء ، وسبقت غضبه , له مئة رحمه كل رحمه طباق ما بين السماء والأرض حتى قال صلى الله عليه وسلم (( لو تعلمون قدر رحمة الله عز وجل لاتكلتم عليها وما عملتم من عمل )) حديث حسن .
وقرآنكم رحمة (( وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ )) (( وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ )) .
وبإتباعه تتحقق الرحمة (( وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ))
ونبيكم نبي الرحمة , ما أرسل إلا رحمة للعالمين , طلب منه يوما أن يدعو على المشركين , فقال: ( إِنِّي لَمْ أُبْعَثْ لَعَّانًا ، وَإِنَّمَا بُعِثْتُ رَحْمَةً ) رواه مسلم .
(( لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ )) فرسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم أرحم الناس بالناس .
عباد الله : وأمتكم هذه أمة مرحومة ، يقول نبيكم صلى الله عليه وسلم : ( أُمَّتِي هَذِهِ أُمَّةٌ مَرْحُومَةٌ لَيْسَ عَلَيْهَا عَذَابٌ فِي الْآخِرَةِ، عَذَابُهَا فِي الدُّنْيَا الْفِتَنُ وَالزَّلَازِلُ وَالْقَتْلُ ) حديث صحيح أخرجه أحمد .
والأمة المرحومة يجب أن يكون أفرادها متراحمين ، تظهر فيهم هذه السمة لدينهم وأمتهم ، كما وصفهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله : ( مَثَلُ الْمُؤْمِنِينَ فِي تَوَادِّهِمْ وَتَرَاحُمِهِمْ وَتَعَاطُفِهِمْ كَمَثَلُ الْجَسَدِ؛ إِذَا اشْتَكَى مِنْهُ عُضْوٌ تَدَاعَى لَهُ سَائِرُ الْجَسَدِ بِالسَّهَرِ وَالْحُمَّى ) متفق عليه ، ولن يتحقق إيمانهم إلا بهذا التراحم ، التراحم العام ،
رحمة الأمة المسلمة ، رحمة عموم المسلمين وليس رحمة الأصدقاء والأقربين فقط ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : ( لَنْ تُؤْمِنُوا حَتَّى تَرَاحَمُوا ، قَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، كُلُّنَا رَحِيمٌ . قَالَ : إِنَّهُ لَيْسَ بِرَحْمَةِ أَحَدِكُمْ صَاحِبَهُ ، وَلَكِنَّهَا رَحْمَةُ النَّاسِ ، رَحْمَةُ الْعَامَّةِ ) [ الطبراني والبيهقي وحسنه الألباني وقال ابن حجر رواته ثقات ] ، ويقول صلى الله عليه وسلم : ( مَنْ لا يَرْحَمُ النَّاسَ لا يَرْحَمُهُ اللَّهُ ) متفق عليه ، وقال عليه الصلاة والسلام : ( الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمُ الرَّحْمَنُ , ارْحَمُوا مَنْ فِي الأَرْضِ يَرْحَمُكُمْ مِنْ فِي السَّمَاءِ ) [ رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الجاكم ووافقه الذهبي وتيعهم الألباني .] فمن غش الأمة أو خانها وغدر بها أو ظلمها أو خرج ورفع السيف عليها فليس من أمة الرحمة على الحقيقة .
عباد الله : وارحم الأمة بالأمة بعد النبي صلى الله عليه وسلم هم العلماء ورثة الأنبياء , الأعلم بالكتاب والسنة على فهم سلف الأمة , فكلما زاد علم العالم ازدادت رحمته بالناس واتسعت ، لذا جاء في سنن الترمذي بسند صحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (( أرحم أمتي بأمتي أبو بكر )) ، لأنه كان أعلم الأمة بدين محمد صلى الله عليه وسلم ،
فعلماء السنة الراسخون في العلم هم أرحم الناس بالأمة , يسوسونهم بهدي الكتاب والسنة وفق منهج السلف , ويأمرونهم بالمعروف وينهونهم عن المنكر بالحكمة والرحمة , ويجنبونهم الفتن ، ويدعونهم للاجتماع وينهونهم عن التفرق والاختلاف لأنهم يوقنون بأن : (( الجماعة رحمة والفرقة عذاب )) كما قال نبيهم صلى الله عليه وسلم [ في الحديث الحسن الذي رواه أحمد ] ، ويبينون لهم أنهم ما خلقوا إلا للرحمة ولم يخلقهم الله للعذاب ، مستدلين بقول ربهم : (( وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ )) خلقهم الله للاجتماع والرحمة ولم يخلقهم للفرقة والعذاب ، فالافتراق والاختلاف عذاب ، وموصل للعذاب (( وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ )) .
فاللهم اكتبنا ممن رحمتهم فعصمتهم من الفرقة والاختلاف ، بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والحكمة واستغفر الله لي ولكم من كل ذنب وخطيئة .
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الحق المبين، وأشهد أنَّ محمدًا خاتم النبيّين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه والتابعين وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين . أما بعد:
عباد الله : على رأس فرق النقمة والعذاب التي يحذر علماء السنة من الاغترار بها والوقوع في فتنها : ( فرقة الخوارج ) ، أول فرقة خرجت عن جماعة المسلمين ورفعت السيف على أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، ففتحت باب الافتراق إلى يوم القيامة .
يحذر العلماءُ من الخوارج ليلا ونهارا وسرا وجهارا ، يبدئون ويعيدون ، ويروون الأحاديث الواردة فيهم وفي صفاتهم ، وذلك لعظيم خطرهم على الدين والدنيا ولقوة دواعي الاغترار بهم وبظواهرهم .
وإن من الرزايا التي ابتليت بها الأمة في عصرنا الحاضر ، تطاير شرر فتنة الخوارج بتكفيرها وتقتيلها للأنفس المعصومة وانحيازها واعتزالها عن الأمة وجماعتها ، يمثلها ما يسمى بتنظيم القاعدة وما تفرع عنه مما يسمى بداعش وجبهة النصرة وما شابهها من فصائلها ، يُكفّرون المسلمين ويستبيحون دماءهم ويحاربونهم ويصفونهم بالمرتدين ، ويَدَعُون الكافرين الأصليين من اليهود والنصارى والوثنيين ، لا يفرقون في القتل بين المسلم والكافر ولا البر والفاجر ، فلقد كانوا عونا لأعداء الإسلام على المسلمين من حيث يشعرون أو لا يشعرون ، وبالأحرى يشعرون ، إما بتحالف أو بتبادل مصالح ، أو باستغلال ومكر من الأعداء كانوا هم أداتَه لتمزيق وحدة صف المسلمين والتشويش عليهم .
لم يحارب هؤلاء الخوارج اليهود لتحرير فلسطين ، ولم ينهكوا قوة النصيريين العلويين ، بل ربما بَدَو وإياهم متحالفين بتقتيلهم لأهل السنة وطعنهم لهم من الظهور ، ولم يوقفوا زحف الرافضة الحوثيين ولا حاربوا اليهود في يمن الإيمان والسنة ، ولم تقاومهم رافضة العراق والصفويين كما قاومت عوام أهل السنة على الحقيقة ، بل يصرح هؤلاء الخوارج في خطاباتهم بأنهم سيحرروا بلاد الحرمين ، ويا ليت شعري ممن سيحررونها ؟ يحررونها من أهل الإسلام والتوحيد ؟ من ولاة يرفعون راية تحكيم الشريعة ويقيمون الحج والعمرة والجمعة والجماعة ، ويحمون التوحيد والسنة ويحاربون كل مظهر للشرك والبدعة .
ولو كان هؤلاء الخوارج على الهدى لقالوا سنحرر فلسطين من اليهود ، ونحرر العراق وما وراءها من الرافضة والمجوس ، وصدق المصطفى صلى الله عليه وسلم إذ يقول في وصفهم : (( يقتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان )) [ متفق عليه ] .
نعم إنهم يجترؤون على الدماء المعصومة بشكل شنيع بشع لم يسبق له مثيل في عصرنا ، يقتلون بأبشع صور القتل ، حتى صوروا للعالم أن دين الإسلام دين قتل وسفك دماء ، ودين وحشية لا دين رحمة ، ونبي الرحمة صلى الله عليه وسلم كان يَحْذَرُ ذلك ، فيقول لما عرض عليه قتل أحد رؤوس المنافقين : (( لا يَتَحَدَّثُ النَّاسُ أَنَّ مُحَمَّدَاً يَقْتُلُ أَصْحَابَهُ )) [ متفق عليه ] فأين هؤلاء من هذا .
لا تحجزهم نصوص حرمة الدماء المعصومة ، ولا يؤثر فيهم مثلُ قول النبي صلى اله عليه وسلم لأسامة : (( يَا أُسَامَةُ، أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ ، قَالَ : قُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، إِنَّمَا كَانَ مُتَعَوِّذًا ، قَالَ : " أَقَتَلْتَهُ بَعْدَ مَا قَالَ لاَ إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ " فَمَا زَالَ يُكَرِّرُهَا عَلَيَّ )) [ متفق عليه ] .
فلا والله يا عباد الله ليس الإسلامُ الحقُ إسلامَ القاعدة وداعش ، بل إنهم نقمة على الأمة وليسوا رحمة .
والإسلامُ الحقُ هو إسلامُ محمد صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومن سار على نهجهم ، إسلامُ الكتاب والسنة على فهم سلف الأمة ، فهو دين رحمة والنجاة .
فلا تغتروا عباد الله بالمظاهر والمنطق فإن الخوارج يقولون من قول خير البرية لكنهم يمرقون من الإسلام كما يمرق السهم من الرمية .
فاللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين، واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تشمت علينا أعداء ولا حاسدين يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم احفظ علينا ديننا وأمننا وجماعتنا واستقرارنا ، اللهم احفظ بلادنا من شر الأشر وكيد الفجار، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا ، اللهم آمنّا في أوطاننا ودورنا، اللهم أصلح أئمتنا وولاة أمورنا, اللهم وفقهم لما تحب وترضى وخذ بنواصيهم للبر والتقوى وبصّرهم بأعدائهم والمتربصين بهم يا ذا الجلال والإكرام .
اللهم أعزّ الإسلام والمسلمين، اللهم أنجِ المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم فرج عن إخواننا المؤمنين في الشام وفي بورما وفي العراق، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم تولَّ أمرهم واجبر كسرهم وعجّل بفرجهم ونفّس كربهم، اللهم احقن دماءهم واستر عوراتهم وآمن روعاتهم اللهم وارحم ميّتهم واشف مريضهم وأطعم جائعهم واكسِ عاريَهم واحمل فقيرهم وثبت أقدامهم وكن لهم عوناً ونصيراً ومؤيداً يا ذا الجلال والإكرام يا أرحم الراحمين يا حيّ يا قيوم، اللهم منزل الكتاب مجري السحاب هازم الأحزاب اللهم قاتل الظلمة المعتدين الذين يصدون عن سبيلك ويقاتلون أولياءك ويسعون في إطفاء نورك، وأنت المتم لنورك ولو كره الكافرون، اللهم عليك بهم إنهم لا يعجزونك، اللهم أنزل بهم نقمتك وأرنا فيهم عجائبك اللهم إنهم آذونا في بلادنا وفي إخواننا وفي أموالنا، اللهم إنهم حاربوا دينك ومن تدين به ظاهراً وباطناً اللهم سلّط عليهم من يسومهم سوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم أنزل عليهم رجزك وعذابك إله الحق.
ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار ، ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا وهب لنا من لدنك رحمة إنك أنت الوهاب ، ربنا اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك قريب مجيب الدعوات.
عباد الله: اذكروا الله يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم ، ولذكر الله أكبر والله يعلم ما تصنعون .