إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن الله أمر بتقواه في كل وقت, وعلى كل حال. وقد ذَكَرَ اللهُ تعالى في كتابه صفات المتقين, والأسبابَ التي استحَقُّوا بها هذا الوصف العظيم. ومن تِلْكُمُ الأسباب, ما جاء في قولِهِ تعالى: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾. فَذَكَرَ اللهُ تعالى أنهم لا يَسْلَمون مِن وَساوِسِ الشيطان وإيحاءاتِه, كغيرهم من البشر, لكنهم يختلفون عن غيرهم في التعامل مع هذه الوساوس, فإن ضعفاء الإيمان, أو الذين في قلوبهم مرض, لا يوجد عندهم حصونٌ منيعة يتحصنون بها من شياطين الجن والإنس, ولا يوجد عندهم من التقوى والخشية والعلم بالله ما يحجب تلك الوساوس. بِخِلاف أهل التقوى, كما وصفهم الله في هذه الآية.
والمُرادُ بِطائفِ الشيطان: هو وَسْوَسَتُه, أو تثبيطُهُ عن الخير, أو حَثُّه على الشرِّ وإيعازُه إليه. فيدْخُلُ في ذلك:
أولاً: إفساد عقيدتِه أو عبادتِه. فإذا عرض له شيء من ذلك, فإنه لا ينساقُ وراءه ولا يسْتَحسِنُه, بل يتذكَّر أن ذلك من الشيطان الذي أقسم بِعِزَّةِ الله لَيُغوِيَنَّ بني آدم, فَبَادَرَ هذا الهُجومَ من الشيطان بالإستعاذة بالله من شره, والتوكل على الله, والتسلح بالعلم الذي يحتمي به من هذا الخطر.
ومن ذلك: أنه إذا عَرَضَ له ذنْبٌ أو شَهوةٌ, تَذَكَّر رَقابةَ الله, وحُكْمَ اللهِ فيها, وعُقُوبتَها, وأنها لَذَةٌ أو شهوةٌ مُؤَقَّتَة, سُرْعانَ ما تنتهي, فتَبْقى الحَسْرةُ ويَثْبُتُ الذنْبُ في صحيفَتِه, فإذا هو مُبْصِر, فَيَمْتَنِعُ عن الذنب, كما في حديثِ السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: ( وَرَجُلٌ دَعَتْهُ امرأةٌ ذاتُ منصِبٍ وجَمال فقال: إني أخاف الله ).
ومن ذلك: حينما يُثَقِّلُ الشيطانُ عليه العبادة, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: ( يعقد الشيطان على قافيةِ رأسِ أحدِكم إذا هو نام ثلاثَ عُقَد، يَضْرِبُ كُلَّ عُقْدَةٍ مَكانَها: عَليكَ لَيلٌ طويل فارقُد ، فإن استيقظ فذكر اللهَ انحلت عُقْدَة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عُقَدُهُ كُلُّها، فأصبح نشيطا طيب النفس، وإلا أصبح خبيثَ النفْسِ كسلان ). وكثير من الناسِ اليوم قد وقَعوا في مَصْيَدَةِ هذه العُقَد, إلا من رحم الله.
ومن ذلك: أنه إذا ترك شيئاً من الواجبات, أو ارتكب شيئا من المحرمات, فإن الشيطان يستغل مثل هذا الموقف, فَيُسارِعُ في تقنيطِ العبد, وإِشعارِهِ بأنه قد لَطَّخَ صحيفتَه بالذَّنْب, وتَخَلَّفَ عن رَكْبِ المؤمنين, وتَشَبَّهَ بالمنافقين الذين يفعلون الخير أمامَ الناس, ويستخفون عنهم عند فعل المحرمات والتخلف عن الطاعات, فربما ضَعُفَ هذا العبدُ المُذنِب واستجابَ لِمِثْلِ هذه الوَساوِس. لكنه حينما يعلم بِسَعَةِ رحمةِ الله, وفَرَحِ الله بتوبة عبده وسُرْعَةِ رُجوعِهِ إليه, فإنه يُبادر إلى التوبة وإصلاحِ ما أفسد, مهما بَلَغَ الذنبُ وكَثُر. ويكفي في ذلك قولُه صلى الله عليه وسلم: ( لَلَّهُ أَشَدُّ فَرَحا بتوبة عبدِه حين يتوبُ إليه, مِن أحدِكم كان على راحلتِه، بِأرضِ فَلاة، فانفَلَتَتْ مِنه، وعليها طعامُه وشرابُه، فَأَيِسَ منها، فأتى شجرةً، فاضْطَجَعَ في ظِلِّها، قَدْ أَيِسَ مِن راحلتِه، فَبَيْنَما هو كذلك، إذا هو بِها قائمةٌ عِنْدَه، فَأَخَذَ بِخِطامِها، ثم قال مِن شِدَّةِ الفَرَح: اللهم أنت عبدي وأنا ربُّك! أخطأ من شدة الفرح ).
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ عَلى إِحسانِهِ، وَالشكرُ لَهُ عَلى تَوفِيقِهِ وَامتِنَانِهِ، وَأشهدُ أن لا إله إلا اللهُ وحدَهُ لا شَريكَ لَهُ، وَأشهدُ أنَّ مُحمّداً عَبدُهُ وَرسولُهُ، صلى اللهُ عليهِ وعلى آلِهِ وصحبِهِ وسلمَ تسليماً كثيراً . أَمّا بَعدُ،
عباد الله: ومن الأحوال التي يستغلها الشيطان مع العبد, حالةُ الغضب, لكنه يفشل عندما يكونُ هذا الأمرُ مع أهلِ التقوى, فإن العبدَ التقيَّ إذا غَضِبَ في موقِفٍ من المواقف, سواء كان في بيتِهِ معَ أهلِه وأولادِه, أو مع خادِمه, أو جُلَسائِه, أو مع مسؤولِه في العمل, أو طُلاَّبِه في المدرسة أو موظَّفيه. فإنه لا يجعل للشيطان سبيلا عليه, بل يعلم أن الغضب بابٌ من أبواب الشيطان يدخل معه إليه ليُفسِدَ عليه قَراراتِه, فَيلجأُ مباشرة إلى الله فيستعيذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم, كي لا يَحْمِلُهُ الغضَبُ على أمرٍ يندم عليه. فإن أَكْثَرَ الناسِ نَدَما, مَنْ يَنْدَفِعُون مع الغضب ويستجيبون لانْفِعالاتِهِم. فالطلاق غالباً يكون مع الغضب, وَظُلْمُ الأولادِ الصِّغار بالضرب المُؤْلِم إنما هو نتيجةُ الغَضَب, واتِّخاذُ القراراتِ الخاطِئَةُ غالبا ما تكون نتيجةَ الغضب, والتلَفُّظُ مَعَ الجُلَساء والأصحابِ بما لا ينبغي, غالِباً ما يكون نتيجةَ الغَضَبِ والإنفعال, فَكَمْ مِنْ شخصٍ حَصَلَ بينه وبين جليسِهِ جِدال فلم يملِك نَفسَه وصارَ يُطِلِقُ من الكلامِ مالا يليق بِسَبَبِ الغضب.
فينبغي للمؤمن أن يَتَذَكَّرَ هذه الآيةَ دائما: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ ﴾. وأن يَتَسَلَّحَ بالتقوى, ويُغْلِقَ الأبواب التي يُدْخُلُ عليه الشيطانُ منها.
اللهم ارزقنا تقواك, واجعلنا نخشاك كأننا نراك، اللهم أصلحْ لنا ديننا الذي هو عصمت أمرنا وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا وأصلح لنا آخرتنا التي فيها معادنا واجعل الدنيا زيادة لنا في كل خير والموت راحة لنا من كل شر، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين، اللهم أصلح أحوال المسلمين، اللهم أصلح أحوال المسلمين حكاماً ومحكومين، اللهم أرهم الحق حقاً وارزقهم اتباعه وأرهم الباطل باطلاً وارزقهم اجتنابه، وولّ عليهم خيارهم، واجعل ولايتهم فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم انصر المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارحم المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين في كل مكان، اللهم نج المستضعفين من المؤمنين في كلِّ مكانٍ يُستضعف بها المسلمين، اللهم انصر المجاهدين الذين يجاهدون في سبيلك في كل مكان، اللهم انصرهم في كل مكان يا قوي يا عزيز، اللهم وفق وُلاة أمرنا لما يرضيك، اللهم وفقهم بتوفيقك، وأيّدهم بتأييدك واجعلهم من أنصار دينك, وارزقهم البطانة الصالحة الناصحة، اللهم حبّب إليهم الخير وأهله وبغّض إليهم الشر وأهله وبصّرهم بأعدائهم يا ذا الجلال والإكرام، اللهم اغفر لموتى المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيك بالرسالة وماتوا على ذلك اللهم اغفر لهم وارحمهم وعافهم واعف عنهم ووسع مدخلهم وأكرم نزلهم واغسلهم بالماء والثلج والبرد ونقهم من الذنوب والخطايا كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه برحمتك يا أرحم الراحمين، اللهم صلّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|