صلاح القلب وفساده
إِنَّ الحَمدَ للهِ، نَحمَدُهُ ونَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعوذُ باللهِ مِنْ شُرُورِ أَنفُسِنا وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنا، مَنْ يَهْدِهِ اللهُ فَلا مُضِلَّ لَه، وَمَنْ يُضلِلْ فَلا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إِلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وصَحْبِهِ وسَلَمَ تسلِيماً كَثِيراً. أمّا بعد،
أيها الناس: اتقوا الله تعالى, واعلموا أن أشرفَ ما في الإنسان قلُبه, فهو المحل الذي يقع فيه الإيمان والعِرفان. وهو المُخاطَبُ في نصوص الكتاب والسنة, وأما الجوارح فهِيَ له تَبَعٌ, يَسْتخدِمُها استِخدَامَ المُلوكِ لِلعَبيد. فهو الآمِرُ النَّاهي لها, ولذلك صار المرضُ الحقيقي هو مرضَ القلب, والحياةُ الحقيقية هي حياةَ القلب. كما قال تعالى: ﴿ فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ﴾. وقال عليه الصلاة والسلام: ( ألا وإن في الجسد مضغة, إذا صلحت صلح الجسدُ كلُّه, وإذا فسدت فسد الجسدُ كلُّه, ألا وهي القلب ). فهو الذي يأمر العبدَ أَن يسعى في الباطل, وهو الذي يأمره أن يسعى إلى طاعة الله وذِكْرِه.
وإذا كان الأمر كذلك, فيجب على المسلم أن يُؤْمِنَ بتلازُمِ الظاهرِ والباطنِ, بالنسبة للعبد. فصلاحُ عملِه مرتبطٌ بصلاحِ قلبِه, وصلاحُ قلبِه مرتبطٌ بصلاحِ عملِه. فإذا صلح القلب, انقادت الجوارح, كما قال تعالى: ﴿ وَاسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخَاشِعِينَ * الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ﴾. وقال تعالى في شأن عُمَّارِ المساجدِ بالذكرِ والصلاة: ﴿ رِجَالٌ لَّا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَن ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاء الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ ﴾. فهؤلاء لما وُجِدَ الخوفُ في قلوبهم والخشوع, وتَذَكُّرُ لقاءِ الله, سَهُلَ فِعْلُ الصلاةِ عليهم, والإستجابةُ إلى النداء بها, وعدمُ التخلف عنها. فدل ذلك على أن من ثَقُلَت عليه الصلاة أو تخلف عنها, فَلِأنَّه لم يوجد في قلبه من الخشوع والخوف ما يَحْمِلُه على المحافظة على الصلاة في المساجد.
وهكذا في شأن ترك المعاصي: فقد ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الرجلَ الذي دعته امرأةٌ ذاتُ منصبٍ وجمال فقال: ( إني أخاف الله ), أي: أن الخوف من الله هو الذي منعه رغم وجود جميع المغريات والأسباب الداعية للوقوع في الفاحشة. وهكذا الشأن في الرجل الذي استَغَلَّ حاجةَ ابْنَةَ عَمِّهِ إلى المال, وكان يُحِبُّها حُبًّا شديدا, فأعطاها على أن تُخَلِّي بينهُ وبين نَفْسِها, فلما قعد بين رجليها, قالت: ( اتقي الله ولا تَفُضَّ الخاتَمَ إلا بحقه, فقام عنها وهي أحب الناس إليه ). فَتَقْوى اللهِ التي في قلبه, أَقَضَّت مَضْجَعَه وحالت بينه وبين الإقدام على هذا العمل.
فالعبد لا يُقْبِلٌ على الله كما ينبغي, ولا ينكَفُّ عن المعاصي إلا إذا صلح قلبه.
باركَ اللهُ لِي وَلَكُم فِي القُرآنِ الْعَظِيم، وَنَفَعنِي وَإِيّاكُمْ بِمَا فِيِه مِنْ الآيَاتِ وَالذّكرِ الْحَكِيم، أَقُولُ مَا تَسْمَعُون وَاسْتَغْفُرُ اللهَ لِي وَلَكُم وَلِسَائرِ الْمُسْلِمِين مِنْ كُلِّ ذَنبٍ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ ربِّ العَالَمِين, وَالعَاقِبةُ للمُتّقِين, وَلا عُدوانَ إِلا عَلَى الظَّالِمين, وَأَشهدُ أنْ لا إِلهَ إِلا اللهُ وَحدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ, وَأَشهدُ أَنَّ مُحَمّداً عَبدُهُ وَرَسُولُهُ, صَلَى اللهُ عَليْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلّمَ تَسلِيماً كَثِيراً. أما بعد:
عباد الله: إن لقسوة القلوب أو لِينِها أسباباً يفعلها العبد, فمن هذه الأسباب:
الإستجابة لله ولرسوله, وقبولُ ما جاء عن الله وعن رسوله صلى الله عليه وسلم, وعَدَمُ الإعتراضِ على شرع الله حتى ولو خالف هوى النفس. قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾. فحياة القلب الكاملة والحقيقية لا تحصل إلا بالإستجابة لله وللرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن أعظم أسباب لين القلب: قراءة القرآن وتدبره أو الإستماع إليه, قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ﴾. ولازِمُ ذلك أن من أعرض عن القرآن فقد خلا قلبه من الموعظة والحياة وأطبق عليه المرض وابتعد عن الهدى والرحمة.
ومن أعظم أسباب لين القلب: كثرة ذكر الله, كما قال تعالى: ﴿ الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ ﴾. وقال عليه الصلاة والسلام: ( مثل الذي يذكر ربه والذي لا يذكر ربه مثل الحي والميت ).
ومن ذلك أيضاً تذكر الموت, وزيارة القبور فإنها تذكر الآخرة.
ومن ذلك أن يتذكر العبد حال الدنيا وأنه غريب فيها ومُرْتَحِلٌ عنها, وأنها مهما تزخرفت وازَّيَّنَت فهي لهو ولعب ومتاع الغرور. ولذلك قال عليه الصلاة والسلام: ( كن في الدنيا كأنك غريب أو عابر سبيل ).
ومن ذلك أن ينظر العبد في أحوال الفقراء والمرضى, أو حُرِمُوا من نعمة الأمن والرخاء فَيَعْتَبِر ويحْمَد الله على ما هو عليه, فإن من نظر إلى من هم أحسن منه في أمور الدنيا ازدرى نعمة الله عليه, قال عليه الصلاة والسلام: ( انظروا إلى من هو دونكم, ولا تنظروا إلى من هو فوقكم, فإنه أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم ).
اللهم آت نفوسنا تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها اللهم اهدنا لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنّا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظنا بالإسلام قائمين واحفظنا بالإسلام قاعدين واحفظنا بالإسلام راقدين ولا تُشمت بنا أعداء ولا حاسدين يا ذا الجلال والإكرام، اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين وأذلَّ الشرك والمشركين واحمِ حوزةَ الدين، وانصر عبادك المؤمنين في كل مكان، اللهم عليك بالكفرة والملحدين الذين يصدون عن دينك ويقاتلون عبادك المؤمنين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم زلزلِ الأرض من تحت أقدامهم، اللهم سلط عليهم مَنْ يسومهم سُوء العذاب يا قوي يا متين، اللهم ألّف بين قلوب المؤمنين وأصلح ذات بينهم واهدهم سبل السلام ونجهم من الظلمات إلى النور وانصرهم على عدوك وعدوهم يا قوي يا عزيز، اللهم اجمع كلمة المسلمين على كتابِك وسنةِ نبيك محمد صلى الله عليه وسلم، واجعلهم يداً واحدةً على من سواهم، ولا تجعل لأعدائهم منةً عليهم يا ذا الجلال والإكرام يا قوي يا عزيز، اللهم أعذهم من شر الفتنة والاختلاف واجمع كلمتهم على الحق يا رب العالمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم احقن دماء المسلمين في كل مكان، اللهم احقن دماء المسلمين، اللهم ارفع البلاء عن المستضعفين من المؤمنين، اللهم ارفع البلاء عن إخواننا في سوريّا، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع البلاء عنهم، اللهم ارفع الظلم والطغيان عنهم، اللهم اكشف كربتهم، اللهم اجعلهم من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ومن كل بلاء عافية، اللهم اكسهم وأطعمهم، اللهم ارحم موتاهم واشف مرضاهم، وفك أسراهم وردهم إلى وطنهم رداً جميلاً يا أرحم الراحمين، اللهم احفظ لبلادنا دينها وعقيدتها وأمنها وعزتها وسيادتها واستقرارها يا ذا الجلال والإكرام، اللهم احفظها ممن يكيد لها، اللهم وفق حكامنا وأعوانهم لما فيه صلاح أمر الإسلام والمسلمين، وبصّرهم بأعدائهم يا حي يا قيوم، اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات إنك سميع قريب مجيب الدعوات، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد .
وللمزيد من الخطب السابقة للشيخ أحمد العتيق تجدها هنا :
http://www.islamekk.net/catsmktba-119.html
|